قُوتُنا في صناعَتنا
فرنسا تُشكِّل قوّات نخبةٍ خارج الناتو وبريطانيا و
تتمردُ على أمريكا .
– منذ أشهر قليلة تمّ تسريب معلومة لحكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة مفادها :أنّ كلًّا من بريطانيا وإيطاليا واليابان قد بدأت في صنع طائرة مُقاتِلة تُسمّى العاصفة “تيمبست”. وتُعَدُّ هذه هي المرّة الأولى التي تتعاون فيها اليابان مع دولةٍ أخرى غير الولايات المتحدة الأمريكيّة في تطويرِ المعدّات العسكريّة، وتعتبر هذه المنظومة الجويّة للطائرة “تيمبست” شبيهة إلى حدٍ كبير من المنظومة الجويّة التي يمتلكها حلف الناتو، بل ربما تكون أكثر تفوقاً وتطوّرًا منها.
وتوصف هذه الطائرة بأنَّها منظومة جويّة وليست مُجرّد طائرة مقاتلة؛ لأنّه يُفترَض بها ، أن المقاتلة تعمل ضمن منظومة جويّة مُكوّنة من المُسيَّرات المُقاتِلة، والأخيرة تشتبك بالذكاء الإصطناعي، وهذا معناه أنّ قائد الطائرة المُقاتِلة “تيمبست” ستطير حوله مجموعة من المُسيَّرات أو الطائرات بدون طيّار والتي من ناحية تقوم بحمايةِ قائد الطائرة عن طريق تقنيّة الذكاء الإصطناعي، ومن ناحيةٍ أخرى يتحكّم قائد الطائرة بهذه المُسيَّرات حتى يتمكّن من خوض معارك جويّة كاملة بها.
-وهذا يعني أنّ الطائرة “تيمبست” وما يرافقها من طائرات مُسيَّرة ستَتمكّن من تنفيذ طلعات جويّة والإشتراك في معارك جويّة كاملة من دون الحاجة إلى طائرات أخرى، كما تتميّز كذلك بأنّها مُسلَّحة بصواريخ ذات سرعة أكبر من سرعة الصوت، بالإضافة إلى قدرتها على تدمير أنظمة دفاع العدو عن طريق تقنيّة النبضات الكهرومغناطيسيّة.
-ولكنّ اللافت في الإعلان عن هذه المنظومة ، هو أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة عاتبت كلًّا من بريطانيا وإيطاليا بسبب إنتاج مثل هذا الطراز من الطائرات بدون علمها وبدون إشراكها في التصنيع، كما وعابت على هاتين الدولتين إنتاج منظومة طائرات هجوميّة منفصلة عن حلف الناتو، وكذلك إشراك اليابان مع دول أوروبيّة في مثل هذا الأمر.
-والجدير بالذكر هنا تصريح الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في أوخر العام ٢٠١٨ حيثُ قال: “أنَّ على أوروبا أن تبني جيشًا مُوَحّدًا مُوازيًا لحلف الناتو، بحيثُ يكون هذا الجيش بعيدًا عن النفوذ الأمريكي” .أي أن يكون لدى أوروبا جيشٌ مُوَحَّدٌ تحت قيادة الإتّحاد الأوروبي بعيدًا عن سيطرة حلف الناتو الذي تتزعّمه أمريكا.
-هذا الأمر فسّرته الحكومة الأمريكيّة بأنّه إنقلاب أوروبي على نفوذها في أوروبا، وأنّ أوروبا تحاول أن تنفصل عن القرار الأمريكي، وكأنَّ أوروبا تريد أن تقول للعالم كلّه وللولايات المتّحدة الأمريكيّة خصوصا : أنَّها لن تخضع مُجدّدًا للنفوذ الأمريكي.
ومن هنا تبرُز مجموعة من الأسئلة التي نطرحها بهدف مقاربة الموضوع من زوايا عدة :
– ماذا وراء جيش أوروبا المُوَحّد؟ -وهل هذا يعني تفكيك أو تجميد حلف الناتو ؟
-وهل وافقت كلّ دول أوروبا على ما أقدمت عليه بريطانيا وإيطاليا وفرنسا؟
-وهل تُوافِق الولايات المتّحدة الأمريكيّة على ما أقدمت عليه أوروبا خلسةً ؟
-وفي حال رفضها فماذا يمكنها أن تفعل حتى تُفشِل خُططها؟
– وماذا نستفيد نحن كعرب من إنفصال أوروبا عن أمريكا، فهل يمكن لنا أن نخسر ؟!
-في عام ١٩٩٥ تحديدًا في مدينة “سربرنيتسا” في البوسنة، وقعت مذبحة راح ضحيّتها ٨٠٠٠ مُواطنٍ من مُسلمي دولة البوسنة والهرسك، وقد تعرّضت قوّات حفظ السلام الدوليّة والتي كان أغلبها من الأوروبيين للقتل والإعتداء كذلك. وهذا ما كان يهمّ أوروبا أكثر من مقتل المسلمين، فضلاً عن الإعتداء على قوّات حفظ السلام التابعة للأمم المتّحدة ،الأمر الذي يُعتبَر بحدِّ ذاته إهانةً كُبرى.
-وكان سبب هذه المذبحة إعلان البوسنة والهرسك إستقلالهما عن جمهوريّة يوغوسلافيا الإتّحاديّة عام ١٩٩٢. ورغم إعتراف الإتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة الأمريكيّة بهذا الإستقلال، إلَّا أنَّ هذا الإعتراف الدولي لم يكن كافيًا؛ لأنَّ الصراع إندلع بين سكّان البوسنة والهرسك أنفسهم والذين كانوا يتكوّنون من ثلاث مجموعات عرقيّة: أهمّهم المسلمون والصربيّون حيث إختلفوا ونشب الصراع بينهم على مناطق النفوذ في البلاد.
-وكَرَدِّ فعلٍ على هذه المعركة، قام كلٌ من الإتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة الأمريكيّة بتحريك المجتمع الدولي للتّدخل لتهدئة الأوضاع في البوسنة والهرسك، والمجتمع الدولي بدوره ، قام بتحريك الأمم المتّحدة من خلال إرسال قوّات حفظ السلام إلى مناطق النزاع، وتمّ إختيار مدينة “سربرنيتسا” لإعلانها كمنطقة آمنة يُشترَط على من يعيش فيها أن يسلم سلاحه وفي المقابل تضمن له قوّات حفظ السلام الحماية.
-قد يبدو هذا جيّدًا، لكن الحقيقة لم تكن كذلك؛ لأنَّ المجموعة الوحيدة التي كان لديها الرغبة في السلام ووقف الحرب والإشتباكات هم مسلمو البوسنة والهرسك، وذهبوا إلى المنطقة طلبًا لحماية قوات حفظ السلام كما وعدوهم بذلك، ولكنّ الصربيين إعترضوا على ذلك وقاموا بحصار المدينة بمن فيها من قوّات حفظ السلام؛ لدرجة أنّه وأثناء خروج جنود حفظ السلام لقضاء إجازتهم كانت القوّات الصربيّة تمنعهم من دخول المدينة مرّة ثانية أو العودة إلى وحداتهم، ولم يكتفِ الصربيون بذلك بل مَنعوا دخول الإمدادات للمدينة سواءً أكانت طعامًا أو شرابًا أو دواءً أو سلاحًا.
وضربوا بالأمم المتّحدة والإتّحاد الأوروبي وقوات حفظ السلام عرض الحائط.
-وفي عام ١٩٩٥ ، إجتاحت القوّات الصربيّة مدينة “سربرنيتسا” وقتلت ما يزيد عن ٨٠٠٠ مسلم ما بين أطفال وشيوخ، وكانت أعمار من أُبيد في تلك المذبحة تتراوح ما بين ١٢ إلى ٧٧ سنة، حرفيًا تمّ قتل الأطفال والشيوخ، ولذلك لم يستطع المجتمع الدولي التغاضي عمّا حدث؛ فبعد إنتهاء الحرب بعدّة سنوات قامت محكمة العدل الدوليّة بمحاكمة جنرالات الحرب الذين تسبّبوا في هذه المذبحة ووصفتهم بمجرمي الحرب، وما حدث بأنَّه إبادةٌ جماعيّة.
-في الحقيقة إنّ حرب البوسنة والهرسك تُعَدُّ بمثابة جرس إنذار لدول الإتحاد الأوروبي؛ جرس إنذار يُنبِّههم لخطرٍ يتهدّدهم؛ وهو أنّهم لا يمتلكون قوّات مُسلَّحة يمكن لها أن تتحرّك بشكل سريع وبقرار أُحادي من الإتحاد ّ الأوروبي دون إنتظار موافقة الولايات المتّحدة الأمريكيّة على تدخّل المجتمع الدولي.
-وبالمناسبة ،فالإتّحاد الأوروبي لو كان يمتلك حينها قوّات تدخّل سريع ،كان يُمكِن له السيطرة على الموقف قبل أن يتحوّل الأمر لإبادةٍ جماعيّة، ورغم هذا الإنذار إلَّا أن الإتحاد الأوروبي لم يُحَرِّك ساكناً.
– ثمّ جاء عام ٢٠٢١ عندما إنسحبَت الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحدها من أفغانستان دون إبلاغ قوّات حلف الناتو –والذي تتكون قوّاته من جيوش الدول الأوروبيّة- بهذا الإنسحاب، وكانت القوّات الأمريكيّة في أفغانستان تُقدَّر بحوالي ٣٥٠٠ جندي، في حين كانت قوّات الدول الأوروبيّة تُقدَّر بـ سبعة آلاف جندي في أفغانستان؛ وهذا بالفعل عددٌ كبيرٌ جدًّا.
-تفاجأت الدول الأوروبيّة بالإنسحاب الأمريكي الغامض من أفغانستان؛ وكان مطلوبًا منها أيضًا الإنسحاب، وكان السؤال الذي طرحته الدول الأوروبيّة هو: لماذا قامت أمريكا بمثل هذا الإنسحاب المفاجئ من بلد أنفقوا في حربها مليارات الدولارات؟
وقد تمّ هذا الإنسحاب في ظلّ ولاية الرئيس الأمريكي” ترامب”.
-إنّ الوجود الأوروبي في أفغانستان يُعَدُّ ذا أهميّة قصوى بالنسبة للإتحاد الأوروبي أكثر من أهميّته بالنسبة لوجود أمريكا نفسها. والسبب أنّ ما يربط أفغانستان بأوروبا هو حدود بريّة وليس حدوداً بحريّة كما هي الحال مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وبالتالي من السهل للمواطن الأفغاني أن يتسلل إلى أوروبا عبر الحدود البريّة، كما تُعَدّ أفغانستان واحدة من أكبر مُصدّري مُخدِّر الهيرويين لأوروبا، أضِف إلى ذلك الهجرة غير الشرعيّة عن طريق الحدود البريّة هربًا من حُكم طالبان. ناهيك عن أنّ هذه الحدود البريّة تُعتبَر وسيلة لتسلّل العناصر الإرهابيّة للأراضي الأوروبيّة، سواء عن طريق حكومة طالبان أو غيرها لتنفيذ عمليّات خاصة.
-لذلك كان الهدف من تواجد قوّات حلف الناتو المتمثّلة بالقوات الأوروبيّة داخل أفغانستان، هو إنشاء خطّ دفاع وإنشاء عمق إستراتيجي يُؤَمِّن حدود أوروبا، فكانت الدول الأوروبيّة تُؤمِّن حدود أوروبا من داخل الأراضي الأفغانيّة نفسها. فعندما إنسحبت القوّات الأمريكيّة شعرت قوّات حلف الناتو بعدم الأمن هناك؛ لأنّ القوّات الأمريكيّة هي التي كانت تحمي القوّات الأوروبيّة رغم أنّ عدد قواتهم كان يبلغ سبعة آلاف جنديٍّ، والأمريكيين ثلاثة آلاف فقط، ومع ذلك فقد كان الأمريكيين هم من يحمون الأوروبيين.
– فبعد إنسحاب الولايات المتّحدة الأمريكيّة إنسحبَت أوروبا مباشرة، وإنهار خطّ الدفاع الأوروبي، فأصبحت أوروبا مُهدّدة بالإرهاب والهجرة غير الشرعيّة وتجارة المخدّرات مرّةً أخرى.
والسؤال هنا لماذا حصل ذلك ؟
بسبب ما قامت به أمريكا من حماية مصالحها والخروج من أفغانستان. وهذا ما قصده الرئيس الفرنسي “ماكرون ” حين عَلَّق: بأنّ إنسحاب أمريكا من أفغانستان ينبغي أن يُردَّ عليه بتكوين جيش مُوحَّدٍ لأوروبا يكون بديلاً لحلف الناتو الذي تتحكّم به الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ولم يكتفِ ماكرون بما قاله بل أضاف أنّ حلف الناتو أصبح ميتاً سريريّاً.
-ونتيجةً لتلك التصريحات عَلَّقَ الخبراء العسكريين: “أنّ أوروبا عاشت على عقيدة وهميّة إسمها العقيدة الأمنيّة، رغم أنّه من المفترض أن يعيشوا على عقيدة أخرى تُسمّى العقيدة الدفاعيّة”. فبعد الحرب العالميّة الثانية إعتقدت أوروبا أنّ أيّة حرب أخرى قادمة في المستقبل ستكون خارج أراضيها، وأنّ أقصى ما يُمكن أن تتعرّض له هو هجمات إرهابيّة أو إلكترونيّة أو ربما إغتيالات . فظنّت أوروبا أنها لو إهتمّت بأمنها الداخلي لن تحتاج إلى أن تُنفِق المليارات على تسليح الجيوش، وبالتالي سوف تُوَظِّف هذه المليارات من الأموال في تطوير الصناعة والإقتصاد.
-لكن هذا هو الخطأ الذي إقترفته أوروبا، حيث تفاجأ العالم أنّ روسيا قامت بنقل الحرب إلى قلب الأراضي الأوروبيّة بإجتياحها لأوكرانيا وقطع الغاز عن أيّة دولة أوروبيّة تُدافِع عن أوكرانيا، بالإضافة إلى أنّها قامت بتنفيذ عمليات إغتيال داخل عواصم أوروبيّة.
-فمنذ شهر تقريباً، قامت روسيا مُشتبهاً بها بعمليّة أسفرت عن إنتشار الذعر في كلّ دول أوروبا ، حيث أرسلت طرودًا مفخّخة لكلٍ من السفارة الأمريكيّة والأوكرانيّة في إسبانيا. وعندما قام ضابط السفارة الأوكرانيّة في إسبانيا بفتح الطرد إنفجر في وجهه، هذا بالإضافة إلى طرود مُفخَّخة أخرى تمّ إرسالها للرئيس الإسباني نفسه ووزيرة دفاعه.
-فتفاجأت أوروبا أنّ الإستراتيجية التي آمنت بها لسنوات، من بعد الحرب العالمية الثانية ،قد باتت سرابًا، وأنّها قد توهّمت أنّه لن تقوم أيّة حروب على أراضيها، أو أنّ الولايات المتّحدة ستكون داعمةً وحاميةً لأوروبا، أو أنّ حلف الناتو سيحميها ضدّ أيّة إعتداءات عسكريّة. وإذا بهذه الأفكار والقناعات تذروها الرياح. لذلك إقتنع الأوروبيون – وخرج على رأسهم الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل- بأنّ الحل لضمان الأمن هو تأسيس جيش أوروبي مُوَحَّد تكون الكلمة الأولى والأخيرة فيه لأوروبا وليس لأمريكا.
-وقد إنقسموا إلى رأيين في ما يخصّ الإبقاء على حلف الناتو: فهناك من يرى ضرورة الإبقاء عليه فرُبّما يقوم بحمايتهم في حالة تعرُّض أوروبا لأيّ هجوم محتمل.وهناك رأيٌ آخر يرى أنّ من يحميهم ينبغي أن يكون الجيش الأوروبي المُوَحّد. ولكن لم يتمّ الإتفاق على أيٍّ من الرأيين بسبب إنقسام دول أوروبا على نفسها.
– فالناظر بدقّة لخارطة الدول الأوروبيّة سيعرف أنّها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
– الجنوب الذي يُطِلّ على شمال البحر المتوسّط وإفريقيا.
-الغرب المُواجِه لأمريكا.
-والشرق المُواجِه لروسيا.
وكلٌّ من هذه الجهات تواجهه تهديدات أمنيّة مختلفة ، فالدول التي تطلّ على البحر المتوسّط وإفريقيا تخشى الهجرة غير الشرعيّة والإرهاب، ودول شرق أوروبا تخشى من روسيا ورئيسها” بوتين” المُستمرّ في قطع أجزاء من أوروبا وضمّها لأراضيه، أمَّا دول غرب أوروبا فترى أنّ أمورها على ما يرام مع الجار الأمريكي، وأنّ حلف الناتو كافٍ للدفاع عن أوروبا ولا داعي لإنشاء جيشٍ جديدٍ يُنفَق عليه المليارات من الأموال.
-هذا بالإضافة إلى أنّهم سيحتاجون إلى أمريكا أو روسيا في تسليح مثل هذا الجيش الوليد. فكانت التساؤلات:إذا فعلنا ذلك من أين سيتمّ تسليح جيشنا ؟
من أمريكا التي خرجنا عن طوعها بتأسيسنا لهذا الجيش أو روسيا التي أنشأنا الجيش من أجل محاربتها؟ فلنُفكِّر قليلًا….
ثم إن هناك تساؤل عمن سيقوم بقيادة هذا الجيش من دول الإتّحاد الأوروبي،؟
وما هي الاستراتيجيّة الخاصة لتحريكه؟
فمثلاً إذا تعرّضت القوّات الفرنسيّة في إفريقيا لهجوم، هل ينبغي على الجيش أن يتحرّك لحماية القوّات الفرنسيّة دون العودة للإتّحاد الأوروبي أو سينتظر للحصول على موافقة الإتّحاد الأوروبي وسيكون قد فات الأوان وتمّ ضرب القوّات الفرنسيّة بالفعل؟
ثمّ عاد علينا برأي آخر، يقضي بتأجيل فكرة الجيش المُوَحّد في الوقت الحالي بما أنّنا كأوروبيين لم نصل إلى نقطة إتفاق؛ ودعونا نكتفي بقوّات تدخّل سريع ويكون عدد أفرادها خمسة آلاف عنصر مُقاتل من قوّات النخبة.
-وهنا أصبح الكلام يُعقَل؛ صحيح لن تكون قواتٍ كبيرةً تستطيع خوض حروب ،لكن على الأقل ستكون سريعة ومُدرَّبة على أعلى مستوى،قادرة على تنفيذ عمليّات في البر والبحر والجو، نستطيع تحريكها سريعًا للتأمين أو الأشتباكات المحدودة أو تنفيذ عمليّات نوعيّة. لكن أيضًا ما زال السؤال يحتاج للإجابة:
من الذي سيتولى تحريك هذه القوات؟
-فكان رأي أحدهما: لو إختلفنا على قرار نقوم بالتصويت، وهذا التصويت نُلغي منه فكرة الإجماع، وكل من يمتنع عن التصويت لا يُحسَب؛ بمعنى أنّه إذا كان هناك ثلاثة أعضاء موافقين وإثنان يرفضان وإثنان ممتنعان عن التصويت؛ حينها تتحرّك القوّات وتُنفِّذ. ومن يتحمّل المسؤوليّة هم الثلاثة الذين وافقوا فقط، وباقي دول الإتّحاد لا يقع عليها أيّة مسؤوليّة.
ويبقى لدينا سؤال: من أين سنأتي بالتسليح؟
-لا زلنا بحاجة إلى منظومات التسليح التي لدى حلف الناتو، وفي المقابل حلف الناتو لن يقوم بتسليمنا السلاح الذي نحتاجه بدون موافقة أمريكا، وأمريكا لن تُوافق أبدًا، فيأتي دور بريطانيا وإيطاليا بعقد تحالف مع اليابان ليتمّ البدء في تصنيع طائرة مُقاتلة إسمها “تيمبست”، والتي ذكرناها سابقاً. وعند سؤال اليابان عن سبب خروجها عن طوع أمريكا وإنضمامها لدول أخرى في تطوير السلاح؟
أوضحت أنّ سبب ذلك هو طمع الولايات المتّحدة الأمريكيّة في الإحتفاظ بالتقنيّات العالية لنفسها فقط، حيث تقوم بإعطائنا نفس السلاح لكن بتقنيّات أقلُ رغم إشتراكنا في التطوير سويًّا؛ فما الذي يُجبرنا على ذلك؟!
لذلك إشتركت مع بريطانيا وإيطاليا وبدأوا في تصنيع الطائِرة “تيمبست”.
-وهنا يظهر سؤال جديد: لماذا لم تتّخذ أمريكا إجراءاتها ولم تعمل على تعطيل المشروع؟
لأنّ اليابان تُعادي الصين وكوريا الشماليّة، وتطويرها للسلاح الجوي يصبّ في مصلحة أمريكا في مواجهة الصين وكوريا الشماليّة. فبالرغم من خروج اليابان عن طوع أمريكا، إلّا أنّ الأخيرة مُضطرَّة على الموافقة. خصوصا أنّ هذا السلاح ستُضرَب به كوريا الشماليّة والصين، فإضطرّت الولايات المتّحدة أن تترك لهم الفرصة مُتأمِّلةً إشراكها في ما بعد في المشروع، لكن حتى الآن لم يتحقّق هذا.
-فحتّى يومنا هذا أمريكا ليس لها علاقة بالطائِرة التي تمّ الوصول لمراحل مُتقدِّمة في العمل عليها من قِبَل اليابان وبريطانيا وإيطاليا ،وسيتمّ البدء في تصنيعها فعليًّا عام ٢٠٢٥.
-وهذا حدثٌ عظيمٌ، إثنتان من أهمّ دول حلف الناتو واللّتان هما بريطانيا وإيطاليا، وثلاث من أهمّ دول مجموعة السبع الكبار، والّتي هي بريطانيا وإيطاليا بجانب اليابان ينفصلون عن كلّ هذه الدول وسيقومون بتصنيع سلاح خاص بهم بعيداً عن الدول والكيانات الأخرى.
-وقد يتساءل أحدهم: لماذا أقوم بتصنيع الأسلحة بنفسي في ظلّ وجود دُوَلٍ مُتخصِّصة في تصنيع السلاح؟
وسنُجيب عن ذلك بمثالٍ وهو حرب أوكرانيا التي قد يستهين البعض بها اليوم والتي يصفها الخبراء العسكريون بأنّها حرب إستنزاف، حرب تكسير عظام بين أهمّ قُوَّتينِ عسكريتينِ في العالم؛ فالحرب بين روسيا وأمريكا، أمّا أوكرانيا ليس لها علاقة بالصراع المباشر، أوكرانيا مُجرَّد ساحة تدور فيها المعركة فقط، إنَّما الصراع الحقيقي بين أمريكا وروسيا، وكِلاهما تستعرضان قدراتهما التسليحيّة.
لكنّ الأهمّ من عمليّة إستعراض الأسلحة -سواء من قبل الجانب الأمريكي أو الروسي- أنَّ كلّ دولة منهما تُعتبَر من أهمّ الدول المُصنِّعة للسلاح ولا تحتاج لغيرها.
-فيكون السؤال إذن: أين تكمن المشكلة في حين أنَّهما في غنى عن الدول الأخرى؟
المشكلة ظهرت عندما إضطُرَّت روسيا للإستعانة بأسلحةٍ أجنبيّةٍ ، بالإضافة إلى تقارير أكّدت إستعانتها بذخيرة من كوريا الشماليّة، وهذا يُوصلنا لنتيجتين:
-الأولى: أنّ السلاح الروسي فقط أو التقنيّات العسكريّة الروسيّة لا تكفي لمواجهة السلاح الأمريكي،وبناءً عليه إضطرّوا للإستعانة بتقنيّات أخرى .
-أمّا النتيجة الثانية: فهي أنّ مخازن السلاح الروسي بدأت تنفُذ.
كيف وصلت هذه المعلومة للخبراء العسكريين؟
لأنّ قذائف المدفعيّة والصواريخ التي ضُرِبَت في أوكرانيا خلال الأسابيع الماضية هي حديثة الصنع، وهذا معناه أنّ القديم قد نفذ؛ فإضطُرّت روسيا إلى تصنيع أسلحة جديدة، وهذا ما حدث لمخازن السلاح الأمريكي .
فالخلاصة في نقطة مخازن السلاح: أنَّ الذخيرة التي يتمّ إستخدامها أكثر بكثير ممّا تمّ تصنيعه أو تخزينه.
-لماذا؟
وما عدد الذخائر التي تُستهلك في اليوم؟
نحن نعلم أنّ غزو أوكرانيا بدأ في شهر فبراير / شباط عام ألفين وإثنين وعشرين ونحن الآن في يناير / كانون الثاني من عام ألفين وثلاثة وعشرين؛ ما يُقاربُ العام، وروسيا تُطلِق يوميًّا أكثر من عشرين ألف قذيفة. في حين أنّ أوكرانيا تُطلِق يوميًّا عشرة آلاف قذيفة، وعند حسابها بضرب ثلاثين ألف قذيفة في إثني عشر شهراً أو ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، تكون النتيجة أحد عشر مليون قذيفة؛ وهذا إستهلاك ضخم ومستمرٌّ بالنسبة لمخزون سلاح الجيشين.
-وهنا نحن نتكلّم عن قذائف سلاح المدفعيّة فقط، ناهيك عن الصواريخ والطائرات والدرونز وغيرها، وهذا الذي يُفسِّر لماذا أرسلت روسيا لإستيراد الأسلحة من كوريا الشماليّة، كما أنّه السبب وراء ضرب روسيا قذائف حديثة الصنع، ويُفسِّر سبب جلب روسيا لسلاح من مخازنها في سوريا -وتركيا هي السبب في كشف السلاح الذي يأتي من سوريا- فعندما إتّهمتها أوكرانيا أنّها تسمح لروسيا بتهريب سلاح من سوريا للبحر الأسود عن طريق المضايق البحريّة التركيّة، فردّت تركيا بأنَّها لا تستطيع منع الروسي، فكان الردّ بحدّ ذاته تأكيدًا لمعلومة إسترداد روسيا للسلاح من مخازنها في سوريا.
-وبالعودة إلى جيش أوروبا المُوَحّد وحلف الناتو…فمن أهمّ نتائج حرب أوكرانيا أنّها كشفت الوجه الحقيقي لأوروبا. وأنت كمواطنٍ عربيٍّ تصل لحقيقة ثابتة :وهي أنّ أوروبا لا تستطيع حماية نفسها عسكريًّا من دون أمريكا ولا إقتصاديًّا من دون روسيا؛ لأنَّ الإقتصاد الأوروبي قائم على الطاقة، والطاقة والتي كان يتمّ إستيرادها من روسيا قبل أن يُقرِّر “بوتين” حرمان أوروبا من الغاز.
-وهنا قد نتساءل: ما حصل لأوروبا وأدّى إلى كشف حقيقتها، هل سيكون لصالحنا أم ضدنا؟
قد يكون ضدّ مصالحنا؛ حيث أنّه وقبل الحرب على أوكرانيا ،كانت الأحوال بشكل عام مُستقِرّة؛ أسعار النفط مُستقِرّة، وكذلك أسعار السلع ، وقيمة العملات مقابل الدولار مستقرة، أسرة كاملة تستطيع العيش طوال اليوم بمعدّلٍ وسطي .
-فمتى تكون موافِقةً لمصالحنا إذاً؟
ذلك سيكون فقط إذا كنّا دولة صناعيّة وزراعيّة نستطيع سدّ حاجاتنا بأنفسنا، حينئِذٍ نستطيع الإستفادة من إنهيار أمريكا وروسيا وغيرها. أمَّا الآن فهذه الدول عبارة عن سلاسل إمداد، وبدون مساعداتها لن تجد إحتياجاتك؛ وستُضطَر لدفع دولاراتٍ أكثر لكي تُلبّي مُتطلّباتك من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ؛ ممّا يؤدّي إلى فقدان دولاراتٍ أكثر؛ وبالتالي إلى إنهيار العُملة؛ وهذا ما نعيشه الآن فعلًا.
– السؤال الثاني: هل جيش أوروبا المُوَحّد وإنفصالها عن أمريكا وحلف الناتو يُعَدُّ مكسباً لنا كعرب أم خسارة؟
– من دون شك مكسب، ودعني أشرح لك السبب: الدول الإستعماريّة عندما تُريد إسقاط دولةٍ ما ، ماذا تفعل؟
بدايةً تقوم بتقسيمها لمجموعاتٍ وتيّاراتٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ، ثمّ تُوقِع بينهم وينشأ الصراع ، وحينها يحاول كلّ طرف فيهم إسترضاء الدولة الإستعماريّة من وراء الآخر، لكن إذا بقيت الدولة كلّها يداً واحدة؛ ستخسر الدولة الإستعماريّة وهذا هو المبدأ المُتّبَع.
– فأثناء سيطرة أمريكا على أوروبا، لن تستطيع كمواطنٍ عربي الإستفادة من أوروبا. لكن إذا إنفصلت أوروبا عن أمريكا وبحثت عن مصالحها مع العرب، بعيدًا عن الأجندة الأمريكيّة، ثمّ تطلّعت كل دولة أوروبيّة إلى مصلحتها بشكل منفرد بعيدًا عن الأتّحاد الأوروبي؛ سيستطيع العرب حينها تحقيق مكاسب أكبر.
-وأقرب مثال لذلك اليابان: حينما إستغلّت خروج بريطانيا وإيطاليا من تحالف أمريكا وإشتركت معهما في تصنيع طائرة مقاتلة. فقديماً لم يكن هناك مَن يتوقّع تفكُّك الإتحاد السوفياتي بإستثناء الرئيس السادات ، فهو الوحيد الذي توقّع إنهياره وتفكُّكه قبل حدوث ذلك بعشر سنوات. فليس بعيدًا بعد حرب أوكرانيا والتفكّك السياسي الذي تعيشه دول أوروبا وسيطرة اليمين المُتطَرِّف على بعض الحكومات الأوروبيّة اليوم، وسعي دول أوروبيّة كبيرة لتأسيس جيشٍ مُوًحّدٍ بعيدًا عن حلف الناتو، أن يأتي اليوم الذي يتكرّر فيه السيناريو ونرى فيه حلف الناتو نفسه يتفكّك.
– لكن بعيدًا عن تفكّكه من عدمه ،ما يهمّنا اليوم هو أنّ خريطة التحالفات العسكريّة في العالم تتغيّر: حلف الناتو الذي أُسِّس لحماية أوروبا لم يعد قادرًا على حمايتها بشهادة هذه الدول نفسها، وبريطانيا وإيطاليا واليابان تمرّدت على أمريكا، وفرنسا تبني قوّات نُخبةٍ أوروبيّة بعيدًا عن الأجندة الأمريكيّة، وألمانيا التي إعتمدت على حماية أمريكا لها وأهملت تطوير جيشها أفاقت من غفوتها وبدأت تبني جيشها من جديد.
-العالم أجمع بات مُرتبِكًا، ولم يعُد هناك ضمانة لأيّ أمر، والدول الكبرى نفسها أصبحت مُتخبِّطة، لكن المُتّفَق والمُجْمَع عليه أنّ قدرة الإنسان على تصنيع إحتياجاته بنفسه هو الشيء الوحيد الذي يضمن له مكاناً في الغد.
وفي الخلاصة يبدو أن شعار “إذا كانت لديك القدرة لتصنيع حاجاتك بنفسك؛ إذًا أنت موجود” هو الشعار الأكثر واقعية والأكثر تجلياً في عالم اليوم . فإلى أين يمكن أن تصل بها دول العالم اليوم وخصوصا الدول العظمى؟
وإلى أي مدى ستعتمده الدول الحليفة لهذه الدول ؟
وهل سنرى التسابق في المستقبل القريب من الدول تحت شعار فلنزرع ونصنع وننتج للحفاظ على كياننا ؟
أم أن لكل كيانٍ راعٍ ؟
خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية.