الإمبراطورية الفرنسية ودورها الإقليمي
حربٌ ما بين روسيا وأوكرانيا، موجاتُ تضخّم، إرتفاع أسعار ويبدو أننا على مشارف أزمة إقتصادية في الولايات المُتّحدة، مُصالحة سعوديّة إيرانيّة ، زيارات أوروبيّة مُتتالية للصين ، زيارات صينيّة إلى روسيا ، تحالفات سياسيّة وإقتصاديّة وإستراتيجيّة ، إنقسامات داخليّة فرنسيّة …..
– أين تقع فرنسا من هذا كلّه ؟ وما هو مستقبل إرتباطها بالإتّحاد الأوروبي ، لا سيّما بعد مُطالباتٍ داخليّة عدّة دعت بالإنفصال عنه ؟
– للإجابة عن هذه التساؤلات علينا أن نستعرض ماهيّة هذه الدولة العُظمى على مرّ التاريخ لنُدرِك دورها ومكانتها :
-قد يعتقد البعض أنّ موقع الأراضي الفرنسيّة هو ذاك الشكل السُداسي في خريطة أوروبا ولكن في الواقع إنّ هذا الشكل يُسمّى مترو بوليتان فرانس “الأرض الأم أو الأساسيّة” .
لكن هُناك مكان يُسمّى فرنسا أعالي البحار. ففرنسا لديها جزر في المحيط الأطلسي والهادي والقطبي الجنوبي وأراضي في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية وجزء بالطول من قارة إنتاركتيكا، كل هذه الجزر أراضٍ فرنسيّة، وهذه الجزر والأراضي تُمثِّل عشرين بالمئة من مساحة الأراضي الفرنسيّة وسبعة وتسعين في المئة من شواطئها، أي أن مُعظم شواطئ فرنسا تقع خارج أوروبا.
وهذه الأراضي التي نتحدّث عنها ليست مُنتجعات ولا شواطئ فقط، بل أراضٍ تحوي قواعد عسكريّة يتمّ فيها تجارب علميّة ونوويّة، وتخضع للسيادة الفرنسيّة الكاملة من حيث اللغة والقانون والعملة والجهاز الإداري ،ومن يسكن فيها يُعتبَر فرنسيًّا ويحظى بكلّ إمتيازات المواطن الفرنسي الأصلي ، كما هي الحال في إقليم غويانا الفرنسية والذي يقع على الساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية على حدود البرازيل، والذي تتشارك معه في أطول خط حدودي فرنسي بطول أكثر من سبعة آلاف كيلو متر.
أمّا من أين حصلت فرنسا على هذا الإمتداد الجغرافي؟
هذه بواقي الإمبراطورية الإستعماريّة الفرنسيّة والتي كانت تُسيطر في عزّها على ما يُقارب عشرة في المئة من مساحة الكوكب. فهذه الإمبراطوريّة وأثناء قيام الملّاح الإيطالي كريستوفر كولومبس بإكتشاف أمريكا الشمالية، كانت تُرسِل مراكب وبحّارة ليعبروا المحيط الأطلسي وحيثما وجدوا شاطئاً بدون عَلَم؛ رفعوا عليه علمهم الخاص وبنوا عليه مُستعمرة تابعة لفرنسا.
وهنا ظهر مصطلح “كولونيالزم” أو الإستعمار ،وكانت أولى المستعمرات الفرنسية في منطقة كيبيك في كندا عام ألف وستمائة وثمانية 1608.
كما إحتلّت فرنسا أكثر من نصف قارة إفريقيا؛ إحتلّت ثماني وعشرين دولة من أصل أربع وخمسين، كانت هذه الأراضي مصدر خير ورزق وعبيد، حيث كانوا يأخذون الأفارقة إلى مستوطناتهم ويقوموا بتشغيلهم في المناجم والمزارع بنظام السخرة كعبيد.
كما مرّت ثلاثون عاماً وفرنسا تستغلّ ضعف الإمبراطورية العثمانيّة حيث سيطرت على الجزائر، وقتلت تقريبًا ربع سكانها في حرب إستمرّت حوالي 17 عاماً، وبعدها تونس والمغرب وغينيا ونيجيريا والنيجر وموريتانيا والتوجو وزامبيا والكاميرون والغابون، وغيرها الكثير، نستطيع أن نقول أنها غزت غرب وشمال إفريقيا بالكامل.
ومن المُميّز والمدروس في غزو فرنسا لهذه الدول أنّها تُعتبَر أوّل من إستخدم حروب الجيل الرابع في التاريخ؛ أي أنّها كانت تدخل هذه الدول فتفرض لغتها ،وتُفرنِس ثقافاتها وتُعلِّم الأجيال الناشئة في فرنسا وباللّغة الفرنسيّة ،ثمّ تُعيدهم إلى بلدهم ثانيةً، وأشياء أخرى هدفها طمث ثقافة هذه الدُول وإفقاد الشعوب هويّاتهم.
ليس هذا فقط بل فرضت فرنسا على بعض من الدول الإفريقية التي إستقلّت عنها أن تُخزّن خمساً وستين في المئة من إحتياطيات العملة الأجنبيّة في الخزانة الفرنسيّة، وأن تدفع عشرين في المئة مقابل ديون وإلتزامات مالية، ممّا يعني أنّ المُتبقّي لها من العملة الأجنبية الخاصة بها لتنمية بلادها 15 % في المئة فقط.
من هنا وإنطلاقاً من هذه الأهميّة الجغرافيّة والتاريخيّة والسياسيّة والأمنيّة لفرنسا ، نجد أن العالم أجمع يُراقب التطوّرات السياسيّة فيها ، لأنّ الإنقسام السياسي الداخلي في فرنسا قد يمتدّ إلى أميركا وأوروبا، وهذا ما دفع ماكرون إلى زيارة الصين ، حيثُ أعلن أثناء عودته ومن طائرته أثناء مُقابلة مع صحيفة “بوليتيكو” أنّ” الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا هو أنّها عالقة في أزمات ليست من شأنها مما يمنعها من بناء إستقلاليتها الإستراتيجيّة “.
بالمُقابل لفت ماكرون إلى أنّ أوروبا زادت من إعتمادها على الولايات المتّحدة الأمريكيّة في مجال الأسلحة والطاقة ، وبالتالي يتوجّب على أوروبا الآن التركيز على تعزيز الصناعات الدفاعيّة . وأن تقلّل من إعتمادها على الدولار الأميركي خارج الحدود الإقليميّة .
هذه اللّقاءات الّتي يقوم بها ماكرون ، والتصريحات الّتي تُشدّد على وحدة الإتّحاد الأوروبي وكون فرنسا جزءاً لا يتجزّأ منه ، ليست وليدة الصُدفة ، إنّما هي وليدة الإنقسامات الّتي بدأت تظهر ملامحها في فرنسا خلال الإنتخابات الرئاسيّة السابقة. ففي الجولة الأخيرة من تلك الإنتخابات وجد ماكرون نفسه في مواجهة ضارية مع مُنافسته ماري لوبان المُتطرّفة.
– ففي تلك المُواجهة ، دعت لوبان ،رئيسة حزب الجبهة الوطنيّة ، إلى جعل فرنسا للفرنسيين فقط، فقد كانت تحلم بفرنسا بيضاء مسيحيّة لا مكان فيها للأجانب بصفة عامة وللمسلمين بصفة خاصة ،والجدير بالذكر أنّ نزعتها القوميّة جعلتها تعلن في العام 2017 أنّها ترغب في إخراج فرنسا من الإتّحاد الأوروبي .
– كما أعلنت في أكثر من مناسبة عن إعجابها بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسياسته القوميّة ، وأبدت إحترامها له ، وذكرت أنّها تقابلت معه في موسكو عام 2017 ، ولامت الإتّحاد الأوروبي وإتّهمته بإشعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأنّها ترفض المُشاركة في العقوبات على النفط الروسي.
وها نحن الآن أمام إنقساماتٍ جديدةٍ في الشارع الفرنسي ، مُتظاهرون غاضبون ، أعمدة من النيران ونهبٌ للمتاجر ، وغازٌ مُسيل للدموع لتفريق المُتظاهرين ، وذلك عقب قانون التقاعد الّذي إعتمدته الحكومة عبر مواد الدستور وليس عبر التصويت في مجلس النوّاب .
لجوء الحكومة لعدم التصويت على مشروعها لم يرقَ للمُعارضة الّتي حرّكت الشارع ، وإعتبرت تلك المادة إهانة للبرلمان . فمشروع قانون التقاعد الّذي رفضته النقابات جميعها ، والّذي يحتجّ عليه الشارع منذ عدّة أسابيع ، سيُعتبَر مُصدّق عليه إلّا إذا سُحِبت الثقة من الحكومة .
فهل الإنقسام الداخلي الفرنسي سيمتدّ للخارج بين فرنسا وأوروبا وأميركا ؟
وهل الإنتخابات الفرنسيّة المُقبلة ستُزيح ماكرون وحزبه الغربي لصالح الحزب الشرقي الذي يُنادي بالإنفصال عن أوروبا ، والخروج من الناتو ، ويُجاهر بحبّه لبوتين وروسيا ، وكرهه لللّاجئين ومنهم الأوكران.
– وهل ستُنقذ الصين فرنسا ووحدة أوروبا عبر سعيها لإنهاء الحرب في أوكرانيا ؟
أم أنّ الإنتخابات الفرنسيّة القادمة سينتصر فيها بوتين عبر حلفائه في فرنسا، ويزرع للأوروبيين جداراً باريسيًّا في قلب أوروبا فيُهدّد وحدتها ، جدار شبيه بالجدار الفاصل الذي قسّم فلسطين وقطّع أوصالها ؟
خالد زين الدين .
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية .
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل .
عضو نقابة الصحافة البولندية .