المصالحة الوطنية هي المدخل الأساسي نحو تحقيق السلم الأهلي والتصالح الذاتي قبل المجتمعي
بقلم الدكتور الصديق حفتر:
لقد أصبح ضمان الاستقرار وترسيخ جذوره بعيدا عن قوة السلاح وأعمال العنف، واعتمادا على الحوار والتوافق، تحديا صعبا في ظل الانقسام الحاصل في بلدنا الحبيب ليبيا، لذلك بات الوطن وأبنائه جميعا بحاجة إلى تحقيق المصالحة ، والتوفيق بين تصورات كل مكونات المجتمع الليبي وضمان الاستقرار وبناء جسور الثقة بين مختلف الفاعلين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين وخبراء التنمية المجتمعية ، ودون أن ننسى إشراك ” القبيلة ” أهم بنية اجتماعية ذات الحضور القوي كظاهرة اجتماعية ضاربة في اعماق المجتمع الليبي، وأحد أهم الهياكل القادرة على احتضان الأفراد والتحكم في مساراتهم نظراً للدور المحوري والإيجابي للقبائل التي بادرت بالدعوة الى المصالحة أكثر من مرة، في هذه المرحلة المعقدة من تاريخ المجتمع الليبي .
إن المصالحة الوطنية التي حملنا ونحمل رايتها، هي مسؤولية كبيرة، ونحن نؤمن أنها أفضل آلية للحفاظ على بقاء الدولة وتحقيق الاستقرار والتماسك الاجتماعي لفترة ما بعد النزاع والإنفلات الأمني . إذ أنَّها تهدف إلى على النزاع وتحويل العلاقات من علاقات عدائية إلى علاقات تعاونية . فالصلح هو الوسيلة الوحيدة لإقرار السلم بين الجماعات الإنسانية وقد قيل بشأنه عدة أمثال عربية منها: “الصلح سيد الأحكام”، و”الصلح يمحي الجروح”.
والشعب الليبي ، شأنه شأن معظم الشعوب العربية الأخرى ، متعدد الأعراق والأديان والمذاهب والقبائل…الخ، وقد تحولت تعددية مكونات الشعب إلى رمزٍ للتآخي والتعايش في بوتقة الوحدة الوطنية والولاء للوطن وإثراء قيمه، وسنحرص على التعامل معها بعقلانية وعدالة وانفتاح، إنطلاقا من إيماننا بأنها تلعب دورا واضحا في رسم واقع البلد ومستقبله . فمكونات وشرائح المجتمع الليبي ستكون شريكنا في العملية الأسمى التي أطلقناها منذ أشهر وهي المصالحة والتي تتضمن البحث عن الحقيقة والعدالة والتسامح وتضميد الجراح وطي صفحة الماضي وضمان لعدم عودة العنف الذي قد وقع فيه، وفتح صفحة جديدة لإعادة الإعمار الشامل .
ولا أخفي عنكم أن العمل يسير على قدم وساق نحو التجسيد الفعلي والعملي لمفهوم المواطنة من خلال التشديد على ترسخها بين مكونات الشعب، وهو الولاء أو الانتماء للوطن بما يتضمنه ذلك من شعور بالمسؤولية العامة وتقديم الصالح العام على المصلحة الشخصية ، مما يجعل الجميع في خندق واحد في مواجهة التحديات بعيدا عن الانقسامات التي قد تميلها انتماءات عشائرية أو طائفية أو عرقية أو دينية، إذ أن تدني الشعور بالمواطنة لدى الفرد يجعله هدفا سهلا يمكن استقطابه من كل الجهات داخلية كانت أو خارجية التي لا تريد الخير لبلدنا
لقد حان الوقت كي نعزز شعور المواطن، كل مواطن بالمواطنة وبروح الإنتماء ، لأنه عندما يشعر إن دولته تبذل جهدا ملموسا – في حدود الإمكانيات المتاحة – لتمكينه من التمتع بحقوقه بكافة أشكالها وبما يضمن له حياة كريمة، في جو من الشفافية فإنه سيتصدى من تلقاء نفسه لأي تجاوزات أكانت ذاتية أو عند غيره ، وهذا هو جوهر المصالحة التي نعمل عليها ، مصالحة المواطن مع ذاته ـ ومن ثم مع غيره وأخيرا مع مجتمعه .
إن المصالحة تتضمن كذلك الإقرار بالحقوق القومية والثقافية لكافة مكونات الشعب الليبي، وبضرورة التوزيع العادل وفق خطط مدروسة للمشاريع الخدمية والإستراتيجية بما يضمن نمواً وازدهاراً اقتصادياً وحضارياً متوازناً في عموم ليبيا دون تمييز. كل ذلك بعد إتمام المصالحات بين الأفرقاء المتنازعين، كي يستعيد كل منهم الشعور بالثقة تجاه الآخر ، ثم دخول الجميع في بناء شراكة عملية يقتنع بها كل جانب بأن التعاون يصب في المصلحة العليا وهي مصلحة الوطن والشعب وليس في مصلحته الخاصة .
لقد لاحظنا أنه في المجتمعات المعاصرة يوافق المواطنون على التنازل عن بعض حرياتهم ويلتزمون بقوانين الدولة، ويؤمنون في قدرة الدولة على حمايتهم وحماية حقوقهم، واليوم تمثل فترات ما بعد النزاع فرصة سانحة لصياغة عقد اجتماعي جديد يفتح الباب أمام علاقات سلمية مستقرة ودائمة.
كما سنعمل من ضمن بنود هذه المصالحة على إصلاح المؤسسات الإجتماعية وهذه المهمة تتعلق بمعالجة المجتمع نفسه، وتتيح المساهمة في نشر سلوك يغلب عليه الطابع الرمزي، برسائل إيجابية في دعم ركائز السلم. وذلك بالتزامن مع دعم ثقافة السلم الذي سيقوم على تعزيز قيم الإندماج والمساواة في محاور إلتقاء بين أفراد الجماعات كالمنظومة الصحية والخدمات الاجتماعية والمؤسسات الحكومية والتربية.
إن المصالحة هي السعي المشترك نحو إلغاء عوائق الماضي وامتداداته السياسية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتصحيح ما ترتب عليها من مآسي وأخطاء وانتهاكات، وأن تضع أطراف الصراع المصلحة الوطنية العليا فوق المصالح الفئوية والحزبية، حيث أن الهدف الأساسي من أي نظام في الدولة هو تحقيق العدالة بين عموم المواطنين، وهذا لن يتحقق إلا عندما تتمكن الدولة من بسط سلطتها المادية والقانونية لتكون بديلا عن كل المظاهر غير القانونية، لأن الدولة العادلة والقوية هي غاية ووسيلة في الوقت ذاته. كما يجب أن تسود قناعة لدى كافة شرائح ومكونات الشعب الليبي، أن مشكلتهم هم أول المسؤولين عن حلها، وأن يسخِّروا كافة الإمكانات ويذللوا كافة العقبات لإيجاد حل لمشكلتهم، وذلك من خلال إنجاح مشروع المصالحة الوطنية.