من باكو إلى السويداء: خطوط النار والضمانات الدولية في هندسة الحكم الجديد بسوريا
تزايد قوة الشرع على مكسر عصا التوازنات الدولية

الكاتب: عبد الله خلوف
قبل أسابيع قليلة من اندلاع معركة الجنوب السوري، أثارت زيارة أحمد الشرع إلى العاصمة الأذربيجانية باكو اهتمام الدبلوماسيين والمحللين الغربيين. لم يكن في الزيارة بيان رسمي ولا تصريحات صحفية، لكن توقيتها – كما قالت الباحثة في شؤون الشرق الأوسط بمركز تشاتام هاوس، لينا خطيب، في مقابلة مع BBC – “جاء في لحظة حساسة تسبق تحركات حاسمة على الأرض”. باكو أصبحت في السنوات الأخيرة ساحة خلفية لمحادثات لا تُعقد في العلن، خصوصًا بين أطراف لا يجمعها سلام مباشر.
وفق تقديرات وردت في تقارير The Guardian وMiddle East Eye، وحسب تعبير دبلوماسي أوروبي لم يُكشف اسمه، فإن الزيارة ربما كانت خطوة تمهيدية لتنسيق تفاهم غير مكتوب مع إسرائيل عبر وسطاء: السماح لحكومة الشرع بفرض سيطرتها على السويداء وطرد نفوذ إيران من الجنوب، مقابل ضمان عدم تهديد الدروز داخل إسرائيل أو الاقتراب من حدود الجولان.
معركة الجنوب: منطق الدولة وحدود القوة
معركة السويداء لم تكن مجرد عملية عسكرية لاستعادة السيطرة على محافظة متمردة. كما كتب Charles Lister الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن: “حكومة الشرع تحتاج أكثر من السلاح لتبقى؛ تحتاج أن تُظهر للعالم قدرتها على فرض النظام دون أن تتحول إلى ميليشيا طائفية”. الرئيس الشرع يدرك أن ما يجري في الجنوب يُراقب بدقة في واشنطن وتل أبيب، وأن أي خطأ في التوازن بين القوة والعقلانية سيكلفه أثمانًا باهظة.
في السياق نفسه، كتب Ben Hubbard مراسل New York Times لشؤون الشرق الأوسط، أن “الغرب يفضل حكومة مركزية تسيطر على كل سوريا بدلًا من كانتونات طائفية مسلحة، حتى لو كان على رأسها شخص له خلفية جهادية مثل الشرع، طالما يلتزم بعدم تهديد الجوار”.
لكن الرغبة في فرض النظام الداخلي اصطدمت بواقع سياسي معقد: الدروز في السويداء ليسوا مجرد أقلية سورية، بل يمتد نفوذهم داخل الجيش والمجتمع الإسرائيلي، وهو ما يجعل أي عملية عسكرية ضدهم قضية حساسة تتجاوز حدود دمشق.
الضوء الأخضر المشروط: التفاهم الذي لم يُكتب
عندما اندلعت المعارك في أطراف السويداء، وبدا أن قوات الشرع تحشد أعدادًا أكبر مما تم الاتفاق عليه ضمنيًا، ردت إسرائيل بسلسلة ضربات جوية استهدفت مباني سيادية في دمشق ومقار أمنية تابعة للحكومة الجديدة. صحيفة Haaretz الإسرائيلية رأت في هذه الضربات “تذكيرًا لحكومة الشرع بأن الجنوب خط أحمر، وأن أي تهديد مباشر للدروز أو محاولة الاقتراب من حدود الجولان سيقابل برد فوري”.
خبراء مثل Amos Harel المحلل العسكري في Haaretz، كتب أن إسرائيل “قد تتسامح مع حكومة جهادية سابقة إذا أبعدت إيران من الجنوب، لكنها لن تتسامح مع حكومة تنقل الحرب إلى عتبات الجولان”. بهذا المنطق، الضربات لم تكن لإسقاط الشرع، بل لإعادة ضبط قواعد اللعبة.
بين تاريخه وتحولاته: الشرع وحسابات رجل الدولة
أحمد الشرع الذي عرفته واشنطن ولندن وباريس ذات يوم باعتباره قائدًا جهاديًا على لوائح الإرهاب، يحاول اليوم أن يقدم نفسه كرجل دولة يمكنه أن يضمن الاستقرار ويمنع تمدد إيران، خاصة بعد تصريحات لمسؤولين غربيين – أبرزها ما نقلته Reuters عن دبلوماسي أوروبي بأن “الواقع على الأرض يفرض أحيانًا التعامل مع قادة سابقين في الجماعات المسلحة إذا استطاعوا ضمان الاستقرار”.
لكن هذا التحول محفوف بالمخاطر. الرئيس الشرع محكوم بتاريخ عقائدي لا يمكنه التنصل منه تمامًا، وجمهور داخلي لا يرى في السويداء سوى جيب متمرد، بينما الغرب وإسرائيل لا يريدون رؤية جبهة نصرة جديدة على حدود الجولان.
الجنوب السوري: ساحة اختبار للصفقة غير المعلنة
معركة السويداء تحولت إلى اختبار واقعي لفكرة “الضوء الأخضر المشروط”. صحيفة Foreign Policy وصفت ما يجري بأنه “رهان على رجل قوي في دمشق مقابل تراجع النفوذ الإيراني جنوبًا”، لكن التجربة تقول إن هذا النوع من التفاهمات غير الرسمية غالبًا ما ينهار عند أول اشتباك على الأرض.
اليوم، حكومة الشرع تجد نفسها مطالَبة بإثبات أنها تستطيع الجمع بين ضبط الأمن واحتواء الفصائل العقائدية داخلها، دون الانزلاق نحو مواجهة طائفية شاملة.
ما حدث في الغرفة المغلقة في باكو سيبقى خارج الأرشيف الرسمي للتاريخ، لكن أثره واضح على الأرض: حكومة الشرع حصلت – على الأرجح – على ضوء أخضر مشروط، وحين تجاوزت حدود القوة المسموحة، جاءت الضربات الإسرائيلية لتعيدها إلى حجمها المتفق عليه. الرئيس الشرع الذي يحاول اليوم أن يكون رجل الدولة بعد أن كان رجل البندقية، يكتشف أن حكم سوريا لا يُصنع في دمشق وحدها، بل في عواصم إقليمية وغربية، وأن السماح بالتمدد مرهونٌ دومًا بقواعد لعبة لا تُكتب لكنها تُفرض بقوة النار.
ما بعد السويداء: اتفاقات هشة وسيناريوهات مفتوحة
في التطور المفاجئ خلال الساعات الأخيرة، انسحبت القوات الحكومية السورية من السويداء ومحيطها، ما اعتبرته بعض الأوساط استجابة مباشرة للضغوط الأمريكية، أو تكتيكًا مرحليًا لتهدئة المشهد دون إعلان تراجع رسمي. هذا الانسحاب، رغم صمته الإعلامي، يشير إلى أن الضغط الدولي كان فاعلًا ومؤثرًا، وربما ساهم في تجنيب المنطقة انفجارًا أوسع.
وفق منطق التطورات الميدانية، المرجح أن يتم التوصل إلى هدنة مؤقتة بضمانات هشّة، توقف القتال وتمنع انفجارًا واسع النطاق. لكن هذه الهدنة، إن تمت، لن تكون نهاية المعركة. بل ستكون مرحلة مؤقتة تُحدد ملامحها موازين الضغط الدولي والصلابة الداخلية للطرفين.
وقد تلجأ حكومة الشرع إلى أسلوب تقليدي: محاولة استقطاب مشايخ آخرين، وتوسيع شرعية موازية داخل الطائفة، في سعي لعزل الهجري سياسيًا ودينيًا.
أما إذا نجح الضغط الأمريكي فإن التسوية قد تُفرض خلال الساعات القادمة، على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، لتمنح حكومة الشرع مكسبًا ميدانيًا، وتمنح المجتمع الدولي فرصة لتجميد الوضع مؤقتًا.



