كثُرت فهزُلت وهُزِّلت وحُقِّرت وفقدت معنويّتها؟! ولم يبقَ للتّكريم هَيبته وللمُكرّمين تَميّزهم؟!
كثُرت فهزُلت وهُزِّلت وحُقِّرت وفقدت معنويّتها؟!
ولم يبقَ للتّكريم هَيبته وللمُكرّمين تَميّزهم؟!
د. حسين أحمد سليم الحاجّ يونس
رئيس تحرير القسم الثّقافي بالجريدة الأوروبّيّة العربيّة الدّوليّة
باحث مُفكّر، مهندس فنّان تشكيلي دولي، عربي من لبنان، يحمل هويّة الأرز المُقدس.
يُعتبر فعل تكريم الإنسان لإخلاصه، وأدواره المتميّزة، وأثره الخدماتي الحسن، واجب أدبي أخلاقي تقييمي راقي، يُرسي قيماً إنسانيّة واجتماعيّة ومهنيّة، ويبعث في النّفس دلالات الإحتفاء، ويعكس التّقدير لجهوده، ويبرز الإهتمام به، ويشعره بقيمة ما يفعل ويصنع ويُعطي…
والتّكريم عادة لطيفة درجت عليها المجتمعات على المستويات الرّسميّة وغير الرّسميّة في مختلف الأنشطة، والتّكريم يكون مردوده أكبر، ونتائجه أشمل، وفوائده أكثر، تعود على الإنسان والوطن والمؤسّسة بالخير والفائدة. التّكريم يكون للعمل المتميّز غير المسبوق، وللشّخص المتميّز الذي يستحقّ، لا إلى الأعمال الإعتياديّة الواجبة التي يلزم تأديتها بإتّقان وأداء حسن، لأنّها من صميم الوظيفة التي يتقاضى المرء عليها راتباً وامتيازات وبدلات وعلاوات…
إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه… هذا يستحقّ راتباً، أمّا التّكريم للمبدع للمتميّز للمخترع للمبتكر، صاحب الأفكار الخلاّقة والأعمال الجليلة العملاقة، وحلاوة التّكريم أن يأتي؛ لا أن يُسعى له، وتقتضي الشّفافيّة العدل في التّكريم، توفّر شروط ومعايير التّكريم والإستحقاق لا المجاملات والنّفاق، حتّى لا يفقد التّكريم معناه وقدره وقيمته، ويتجرّأ على المطالبة به كلّ سائح ورائح كلّ «خيره وميره»، سواء لم تتحقّق فيه الشّروط، أو تحقّقت جزئيّا. والتّكريم يجب أن يحصل عليه وهو صاحبه وإن كان لا يستحقّه، وبذلك تضيع دلالات التّكريم ويفقد قيمته وهيبته، فالخلل الحقيقي في المجاملات التي لا معنى لها، التي أضاعت حقوق الكثيرين، وكرّمت الكثيرين، بحكم قاعدة «القريب من العين، قريب من القلب، أو العكس، وضع التّكريم الحالي في جل الهيئات والمؤسسات والإدارات لا يُرضي الكثيرين لأنّه مبني على المجاملات وتطييب الخواطر، فالتّكريم هو مستحقّ لمن يستحقّ، وليس فيه مجاملات ويجب أن يكون تحت السّيطرة، ولا يكون بصورة فجة، وليس بالشّكل السّائد الآن في بعض الإدارات واللجان والمنتديات والمنصّات ممّا هبّ ودبّ، ولو كان تحت مبرّرات «نشر ثقافة الشّكر والتّقدير والجهود المتميّزة»، ما يلزم بإعداد مشروع يّنظّم عمليّة التّكريم ولا يترك الأمر مُسيّبًا ويكون له ضابط يحكمه، حتّى ندرك المعنى الحقيقي للتّكريم وحتّى لا يكون التّكريم بلا معنى…
التّكريم هو كرامة لائقة ورفيعة المستوى للمُكرّم تمييزاً له عن غيره، وتحفيزًا ومكافأة ودافعًا له لمزيد من العطاء والبذل والمحافظة على الصّفة والخاصّيّة المكرّم من أجلها… والتّكريم مادّيّا أو عينيّا أو معنويّا، هو عامل إطراء وتشجيع للمُكرّم لإبداعه كمحطّ تقدير وإعجاب الآخرين، كيّ يواصل تقديم المنجزات المتميّزة التي تخدم الفرد والمجتمع…
والتّكريم حقّ لمن يستحقّه عن جدارة واستحقاق. وعلينا أن نحفظ للتّكريم والمكرّمين هيبتهم وتمييزهم واحترامهم، بعيدًا عن تلميع جهات أو أشخاص وإظهارهم على غير حقيقتهم، في زمن الهمروجات الكاذبة والتّكريمات الكاذبة لمن ينتحل الصّفات الكاذبة…
وعلينا كمثقّفين تحترم أنفسنا، عدم التّسويق لوهم الإنصاف والإمتنان، وخذل الفئات المكرّمة والمتوّجة، بالرّكوب على ظهورهم وأكتافهم، من أجل الظّهور بمظاهر المؤسسة المواطنة والمتفوّقة والجادّة، عوض التّسويق للكفاءات والقدرات والقيادات الجادّة داخلها… ويجب الكفّ عن تلميع صور المؤسّسة ومالكها أو رئيسها، والإكتفاء بإعطاء المكرّمين والمُتوّجين النّصيب الأكبر من الحفاوة والتّرحاب…
والتّكريمات التي تعج بها مواقع التّواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونيّة لا تأتي ضمن المعايير المُعترف بها وفق خطوات تجعل من التّكريم مستحقّا؟!… ولكيّ نبقى على مستوى احترامنا لأنفسنا، علينا تقدير إبداعات وإنجازات علمائنا ومفكّرينا ومثقّفينا وقادتنا على مستوى الإحترام، على أن تجري عمليّة الإختيار والتّكريم لهم بناءً على معايير لجان ذات اختصاص وكفاءة ومهنيّة في مجالاتهم المختلفة، وتمنح لهم الأوسمة والجوائز التّقديريّة عينيّة أو مادّيّة أو معنويّة…
وفي حركة فعل تكريم المتميّز للأداء والعطاء والإنجاز والإبداع، علينا أن نُبقي على وجود التّخوم والفواصل بين من هو مبدع ويستحقّ التّكريم على إنجازه وعطائه، وبين من هو عكس ذلك، لنشكّل حافزاً له لكيّ يجدّ ويعمل وينجز ويبدع، لينال شرف التّكريم والحصول على الجائزة، وبغضّ النّظر عن قيمتها مادّيّة أو عينيّة أو معنويّة، فهي شهادة اعتزاز وافتخار لهذا الشّخص بأنّه حقّق وأنجز وأبدع، وهناك من كرّمه وكافأه على ذلك…
وحركة همروجات التّساهل في نسف معايير التّكريم، ألحق أضرارًا إنسانيّة واضحة، لفقدان القيمة المعنويّة الإعتباريّة للتّكريم، بسبب كثرة الجهات الوهميّة والإفتراضيّة، الفاقدة للحقيقة، والمنتحلة لصفاتها، والتي تنثر الشّهادات التّقديريّة، على رؤوس أعداد كبيرة، من الأسماء التي لا تقّدم ولا تؤخّر ولا علاقة لها بعالم الإبداع…
فلا يحقّ لكلّ من هبَّ ودبّ أن يزج بنفسه في أعمال التّكريم، وتحويل العمليّة التّكريميّة إلى نوع من التّهريج والشّكليّة، والتّرويج المفتعل لشخص ما أو أسم معيّن أو جماعة، تسيئ لمقاصد التّكريم والمكرّمين بدلًا من أن تخدمهم…
فالشّفافيّة توجب اختيار من يستحقّ التّكريم على نحو عادل، لأنّ العدالة في التّكريم تُعدّ من أهمّ المعايير التي ينبغي الإلتزام بها بصورة تامّة… والجهة القائمة بالتّكريم يجب أن تكون ذات تاريخ يؤهّلها للقيام بهذه المهمّة، وقدرتها على التّكريم بما يحفظ ويوازي القيمة الإبداعيّة الثّقافيّة أو الأدبيّة أو الفكريّة التي يتحلّى بها العنصر المستحقّ للتّكريم…
وينبغي أن تكون أهداف التّكريم واضحة، وأن يكون الهدف من التّكريم إبداعي بحث، ولا يهدف إلى شراء المبدع أو ضمّ رأيه وصوته إلى جهة التّكريم، فهناك من يُجمَّل اسمه، ويروّج لأفكاره ومآربه من خلال تقريب الأسماء والشّخصيّات الإبداعيّة المتميّزة…
وضياع معايير التّكريم، في مواقع التّواصل الإجتماعي، واستغلالها لتحقيق بعض الأهداف الأنويّة، لجهات وأفراد لا تنطبق عليهم شروط التّكريم، والذين يمنحون الشّهادات التّقديريّة الوهميّة، ويضعون فيها إمضاءاهم باعتبارهم يرأسون المؤسّسة أو المنظّمة أو الجهة الثّقافيّة، التي تقوم بالتّكريم، وهذه الجهة ومن يرأسها، لا تمتلك أيّا من معايير وشروط تكريم المبدعين…
وضياع المعايير لا يتعلّق بمن يمنح التّكريم، وإنّما بمن يتمّ تكريمهم على أنّهم مبدعون، وهم لا علاقة لهم بالإبداع لا من بعيد أو قريب… وبتصفّح بعض المواقع نُفاجأ بالجهات المانحة للتّكريم… وبالتّحقّق من تاريخها، وتاريخ القائمين عليها، نجد غيابًا تامّا للمنجز الذي يتيح لها أحقّيّة تكريم المبدعين، وبالتّدقيق في الأسماء التي يتمّ تكريمها، نجد أنّها لا تمتلك ما يجعل منها متميّزة إبداعيّا…
وبين فينة وأخرى تُنشر أخبار عن تكريم شخص ما لما قدّمه من خدمات أو قدّمه من عطاء مميّز. وفي التّكريم يتمّ تمجيد المكرّم ومدحه ونفخه إلى أبعد ما يكون، حيث يتكلّف جيش المُطبّلين والمزمّرين والمتملّقين بتحويل همروجات التّكريم إلى محافل للتّندّر والإسفاف والإبتذال، لفعل الإمعان في المديح الزّائف والثّناء وتزييف الواقع وقلب الحقائق، وإضفاء صبغة وصفة كاذبتين، على من لا يستحقّ التّكريم والثّناء…
فالتّكريم هو أسلوب حضاري لتشجيع التميّز والإبداع، فالمنجز الإبداعي هو المقياس، وليست المحسوبيّات والوساطات والتّدخّلات والمصالح… والتّكريم يجب أن يكون للجديرين حقّا عطاءً وبذلاً وأداءً وتعاملاً انضباطًا وتفاعلاً…
وما يحصل اليوم من همروجات التّكريم، عبر منصّات التّواصل الإجتماعي، وصل درجة الإسفاف والإبتذال… فالمبدع والمنجز والمضحّي الحقيقي بات يخجل من نفسه، عندما يجري تكريمه مع آخرين، لا علاقة لهم بالإبداع والإنجاز والتّميّز… وهو في داخله يشعر بالقهروالمهانة، ويُصبح ناقماً وحاقداً على كلّ ما له علاقه بالإبداع والتّميّز، طالما أنّ العلاقة الشّخصيّة والحزبيّة والسّياسيّة وتقاطع المصالح، والمال والمصلحة والمنفعة المتبادلة، وليس الكفاءة والمهنيّة والإبداع والتّميّز، هي من تحدّد من هو المبدع والمتميّز…
التّكريم سُنّة حسنة يُكرّم فيها المبدعون والمخلصون، في نهاية مشوار الفرد العملي أو مقابل إنجاز غير مسبوق تحقّق للبشريّة… وأفضل أماكن وجهات التّكريم قانونيّا ورسميّا، يجب أن تنتشر وتتعزّز في الجامعات ومؤسّسات البحث العلمي ومراكزه التي تهدف في الأساس إلى النّظر إلى الأصالة والإبداع والإبتكار باعتبار ذلك موضوعها الرّئيسي وغايتها…
فالجامعات هي الأنسب مكاناً لوضع المعايير والشّروط المستحقّة للجوائز والتّكريمات المختلفة، ويأتي أهمّيّة في هذا السّياق، شهادات الدّكتوراه الفخريّة وما شابهها، والجوائز البحثيّة المختلفة، التي تمنحها مثل هذه الجهات لرموز سياسيّة، أو اقتصاديّة، أو غيرها، فمن يقدّم ويبذل جهداً أو أعمالاً تتعدّى في نطاقها ما يقوم به عامّة أو وسطاء النّاس أو المؤسّسات الأخرى، يحظى بمثل هذا الإستحقاق…