تعافي القضاء ممرٌّ إلزاميّ لتعافي الدولة
يشكّلُ القضاءُ ركيزةً أساسيةً في بناء المجتمعات السليمة والمتطوّرة، فلا أمن ولا استقرار إلّا بوجود قضاء حرّ ونزيه ومستقلّ، قادر على تطبيق العدالة وإحقاق الحقّ بين المتقاضين، وهو يشكّل الملاذ الأخير للإنسان، حينما تُسَدُّ أمامه كل الوسائل التي توصله إلى الحقيقة التي يتوخّاها.
عندما دخل شارل ديغول باريس محرِّراً، سُئِل عن مدى سوء حال البلاد، فردَّ قائلاً: “إذا كان القضاءُ بخير، فهو الدعامة الأساسية للنهوض بالدولة”. وحينما بلغ اقتصاد بريطانيا الحضيض بعد الحرب، قال تشرشل عبارته الشهيرة: “طالما القضاء بخير يعني بريطانيا بخير”.
ليس تفصيلاً أن يكون القضاءُ مستقلاً ومعافىً، فهو الركن المتين الذي تُبنى على دعائمه الدول، وتتحرّر بأحكامه الشعوب، وبقراراته يترسّخ مفهوم العدالة بدلاً من شريعة الغاب.
لا شكّ في أنّ القضاء في ليبيا يعاني أزمة حقيقية، هي نتاجٌ طبيعيٌّ للأزمة التي تعيشها البلاد بفعل الفوضى الأمنية وغياب الاستقرار، وفقدان مقومات الحياة الآمنة للقاضي، سواء في عمله أو منزله أو تنقلاته، وهذا يضع الدولة أمام تحدٍّ كبير يحتّم عليها حمايةَ السلطة القضائية وتعزيزَ دورها الذي يشكلُ مدخلاً للاستقرار وقيامِ المؤسَّساتِ وتحصينها قانونياً، باعتبارِ أنّ شريعةَ القانون نقيضُ شريعةِ الغاب، ولا يمكنُ الدولةَ أن تنهضَ إلّا بوجود قضاءٍ مستقلٍّ ونزيه ومحصَّن، كمدخلٍ لكل إصلاح وتطوير، وإعادةِ الثقةِ بالوطن بهدفِ مكافحة الفساد وهدر المال العام.
أخطرُ ما يواجهه القضاءُ الليبيُّ الآن، يتمثّل بالضغوطِ الأمنيةِ والقلقِ الذي يسيطرُ على أعضاءِ الجسمِ القضائيّ من قُضاة وموظفين، وحتى محامين وخبراء، وهو قلقٌ مبرَّر في ضوءِ تجاربَ صعبةٍ عاشها “حرّاس العدالة”، بعد أن تعرَّض كثيرون منهم للخطف والابتزاز والتهديد والوعيد، وانعكس ذلك سلباًَ على أدائهم وقراراتهم.
لا شكّ في أنّ الوضع القائم حالياً، جعل من السُّلطةِ القضائيةِ حلقةً ضعيفةً، وربما الأضعف، لأنها لا تملكُ السُّلطة التي تخوّلها إحقاق الحقّ وتسييد شريعة الحق والعدالة، وهذا مرتبطٌ بالعواملِ السياسيةِ، وحتى الأمنيةِ، وخيرُ مثالٍ على ذلك، الارتباط المباشر بين مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل وتداخل صلاحياتهما، وهذا معوِّق أساسيٌّ أمام استقلاليةِ القضاءِ، لأنّ هذه العلاقةَ تعني بشكلٍ أو بآخرَ تدخّل وزير العدل بالعمل القضائي، وبالتالي التأثير في قراراته.
قد يكون ذلك الواقع جائزاً في الحِقبة السابقةِ للثورة، إلّا أنه لم يعد جائزاً مع مرحلة بناء الدولة والتعافي السياسيِّ والاقتصاديِّ والأمنيِّ. لا بل إنّ تعافيَ القضاء، وبناءَ نظامٍ قضائيٍّ جديد، وترسيخَ قيمِ العدالةِ، هو المدخلُ الإلزاميُّ لتعافي الدولة.
انطلاقاً من هذه الثوابت، يقتضي إعطاءُ الأهمية للقضاء الليبيِّ ودوره في بناءِ الدولة الحديثة، وهذا ما يبني عليه الدكتور الصدِّيق حفتر للمرحلة المقبلة، التي لا تقف عند حماية القضاء وتحصينه أمنياً ولوجستياً وعملياً، بل يؤسِّس لاستقلال القضاء قولاً وفعلاً، وتكريسِهِ سلطةً حقيقيةً لا تشوبُها شائبة، ولا يعتري أداءها الشكوكُ والارتياب.
إنَّ مبدأَ الفصلِ بين السُّلُطات سيجعل من القضاءِ سلطةً مستقلةً تقومُ عليها دولةُ القانون والمؤسسات، قضاءً يضمن للمواطن وللوافد والمقيم والمستثمر حقوقه ومصالحه. كذلك يرى الدكتور حفتر أنَّ استقلال القضاء يبدأ بوقف تدخّل السلطات الأخرى في عمله والطغيان على دوره، وهذا يتطلّبُ أيضاً إقرارَ القوانين التي تمنحُ القضاة الحصانة الكاملة في مواجهة محاولات التدخل بمهامهم، وتؤمن لهم مقتضيات العمل بحريّة تامّة، الأمر الذي يؤدي إلى تحصينهم وتعزيز مناعتهم الشخصية، وهذا مدخل مهمّ للوصول إلى قضاءٍ مستقلٍّ بكلّ ما للكلمة من معنى.
إنّ تعافيَ القضاء هو المقدمة لتعافي الدولة، فالقضاءُ يشكل الضمانة الأساسية لقيام دولة المؤسسات وإرساء العدالة وضمان حقوق الناس، فلا أمن ولا أمان دون قضاء قويّ وشجاع ومستقل، فهو الركيزة الأساسية لبناء الدولة ونموّها وازدهارها.