الصّفْحُ سيِّدُ الأخلاقِ
في تراثِنا كثيرٌ مِن القِصَصِ المُلهمةِ التي تَحُثُّ على الأخلاقِ الحسَنةِ والخِصالِ الحميدةِ، حتّى قَبلَ الإسلامِ، فلقدْ بُعِثَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّمَ ليُتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ، كما قال عن نفسهِ في الحديثِ الشّريفِ.
وأَحَبُّ هذهِ القِصصِ إلى قلبي: ما كان مُتعلِّقًا بالحِلمِ والصّفحِ والعفوِ عن الآخرينَ، وهِيَ مِن شِيَمِ كبارِ النّفوسِ حقًّا، فكانتْ تَلفِتُني شخصيّاتٌ مِثلَ الأحنفِ بنِ قيسٍ، الذي كان يُضرَبُ بحِلْمِهِ المثلَ فيقال: “فُلانٌ أَحلمُ مِنَ الأحنفِ”، ولكنَّ هناكَ مَن كان قدوةً للأحنفِ نفسِه في المسامحةِ بشهادتِه هوَ. فقدْ سُئِلَ الأحنفُ بنُ قيْسٍ: مِمّنْ تَعلّمْتَ الحِلْمَ؟ فأجابَ: مِن قيسٍ بنِ عاصمٍ المَنقَريِّ، وروى حادثةً شهدَها عندَه:
فقد كان قيسٌ جالسًا في فناءِ بيتِه مع رجالٍ مِن قومِه مُحْتَبِيًا (أيْ: ضامًّا فخِذَيْهِ وساقَيْهِ إلى بطنهِ بذراعيهِ مُستندًا عليهِما)، فجاءوهُ برَجلٍ مُقيَّدٍ وآخرَ مقتولٍ، وقالوا له: هذا ابنُ أخيك قَتَل ابنَك. فالتفتَ قيسٌ إلى الرّجلِ المُقيّدِ، وقال: يا ابنَ أخي، أسأتَ إلى رَحِمِكَ، ورَميتَ نفسَكَ بسهمِكَ، وقتلتَ ابنَ عمِّكَ. ثمَّ طلبَ مِن ابنٍ آخرَ لهُ أنْ يَفُكَّ قَيدَ القاتلِ، ويَدفِنَ المقتولَ، ويأخُذَ إلى أمِّ القَتيلِ مِئةَ ناقةٍ ديَةَ ابنِها. فعلَ قيسٌ هذا دونَ أنْ يُغيِّرَ جَلستَه أو يَقطعَ كلامَه.
والصحابيُّ الجليلُ قيسُ بنُ عاصمٍ هو نفسُه الذي وصفَه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّمَ بعدَ أنْ أسلَمَ بقولِه: “هذا سيِّدُ أهْلِ الوَبَرِ”. فلأجلِ صَنيعِ قيسٍ وأمثالِه أُحبُّ الصُّلحَ والعفوَ والمسامحةَ، فهِيَ أفضلُ أخلاقِ الأنبياءِ والعظماءِ.