جيو – بوليتك المياه في الشرق الاوسط حروب لا تنتهي

كمال مساعد - لبنان

جيو – بوليتك المياه في الشرق الاوسط

حروب لا تنتهي

باحث في الشؤون الاستراتيجية

ارتبط الأمن المائي في الشرق الاوسط ارتباطاً وثيقاً بطبيعة الموقع الاستراتيجي للوطن العربي، ولهذا فأن مسألة المياه من أكثر المسائل أهميّة بالنسبة إلى منطقة شرق المتوسط ، وكما هي مسألة أمنية استراتيجيّة، تتعلق بحياة دول المنطقة وشعوبها، كذلك تتشابك مع مشكلات أخرى نتجت عنها في الماضي نزاعات وصراعات مسلحة، وهي ستكون في المستقبل سلعة استراتيجية أخرى، من هنا جاء ارتباط الأمن المائي العربي في الشرق الاوسط بالوضع الجيو – إستراتيجي  والذي يتحدّد في ثلاثة أسباب رئيسيّة:

الأوّل: وقوع أهم منابع المياه خارج نطاق الأرض العربيّة، ويرتبط هذا العامل بطبيعة الوضع الجغرافي للمنطقة.

الثاني: تناقص النصيب النسبي للدول العربي من المياه، فالوطن العربي يعتمد كلياً على الموارد المائيّة الآتية من الأمطار والأنهار والمياه الجوفيّة.

الثالث: استمرار حالة التوتّر نتيجة وقوع بعض الأراضي العربيّة تحت الاحتلال، واستمرار مصادرة  الموارد المائيّة لبعض الدول العربية، ” لقد ولّى الزمن التي كان يُنظرُ فيه إلى المياه على أنها نوع من أنواع الموارد التي لا تنضب”.

يوم المياه العالمي في الامم المتحدة

وتعتبر المشكلة العالقة، هي حول الأنهار المعتبرة “عابرة للحدود”، بحيت تتفاقم مشكلة توزيع مواردها في ظروف ازدياد أحجام استخدامها للاحتياجات الاقتصادية (الري الصناعي، وبناء السدود لإنشاء محطات الطاقة الكهرومائية، وما إلى ذلك) وهذا يؤدي إلى نقص في الموارد المائية بالشرق الأوسط، ما يولد التوتر وزعزعة الاستقرار بين دول هذه المنطقة.

لهذا فإن معظم بلدان الشرق الأوسط تعاني حالياً من ظاهرة شحّ المياه الذي تتجاوز أهميتها النفط والغذاء. ويعود السبب إما إلى فجوة الموارد المائية أولاً، والمقصود بذلك الطبيعية، ولا سيّما السطحية والجوفية والصناعية (التحلية والمعالجة)، وثانياً إن متوسط نصيب الفرد العربي من المياه العذبة سنوياً لا يمكن تأمينه، حيث يقدّر بنحو 1000 متر مكعب وهو المعدّل المتوسط؛ ويضاف إلى ذلك أن الماء أصبح سلاحاً فعّالاً في الصراع الدولي، وله أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وجغرافية وجيوسياسية وصحية وبيئية. وأصبح الاهتمام بمسألة المياه عالمياً بفعل ندرتها أولاً، ومن ثم زيادة نسبة التصحّر والتلوث والتغييرات المناخية والبيئة ثانياً، فضلاً عن محاولات تسييسها واستغلالها اقتصادياً ثالثاً، وذلك من خلال الإستقواء بها على حساب الآخرين، ولهذا عمدت الأمم المتّحدة إلى إيلاء اهتمام كبير بها، خصوصاً عندما أدركت يوماً بعد يوم خطورة شحّ المياه ، بوصفها مصدراً أساسياً يهدّد السلام الإقليمي والعالمي، حيت أعلنت الأمم المتحدة في العام 1907، إتفاقية لاهاي التي تحرم استخدام المياه كسلاح في الحروب والنزاعات العسكريّة واستتبعت باتفاقيّة جنيف عام 1949 التي تدعو إلى إبقاء المياه خارج مناطق الاقتتال وعدم المس بنظافتها ونقائها. لكن ذروة الاهتمام بهذا الموضوع تجسّدت في «قمّة الأرض» التي عقدت في ريو دو جانيرو عام 1992، حيث تقرّر اعتبار يوم 21 آذار/مارس من كل عام يوماً عالمياً للمياه.

الأنهار المعرضة للنزاعات في الشرق الاوسط

ظهرت مشكلة المياه إلى العلن في الشرق الاوسط، بل خرجت إلى السطح على نحو سريع، وتفاقمت على مرّ السنين، حيث لم تحجبها أية معركة أخرى وظلت إحدى المشاكل المنذرة بحروب اقتصادية حقيقية، سواءً بمعناها السياسي أو الاجتماعي أو القانوني، فضلاً عن احتمال تطورها إلى نزاع مسلّح، خصوصاً بالارتباط مع مشاكل الأخرى المشار إليها. وهذه المشاكل او النزاعات، تشمل الأنهار الرئيسية في الشرق الاوسط وهي التالية: دجلة والفرات والنيل وبانياس والليطاني ونهر الأردن، إضافة إلى شط العرب وملحقاته والمياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية، ويدخل في نطاقها الدول العربية التالية: العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين و مصر والسودان، وذلك إرتباطاً مع الدول المحيطة، لا سيّما تركيا وأثيوبيا وإيران، إضافة إلى “إسرائيل”. وفيما يتعلق بمياه الأردن والمياه الجوفية ونهر الليطاني ومياه الجولان وبحيرة طبرية وغيرها فإن “إسرائيل” لا تزال مستمرة في مشاريعها في مصادرة أو تحويل بعضها واستثمارها لصالحها على حساب سوريا بحيرة طبرية ونهر الأردن ولبنان، الأمر الذي يتطلب تعاوناً وتنسيقاً بين البلدان العربية التي تواجه مخاطر مائية، فضلاً عن أن مصيرها واحد. إن التقديرات التي تشير الى المياه كونها إحدى الصراعات الموازية للصراعات القائمة، بل هي لغم  يمكن أن ينفجر حتى دون إنذار، وإدراكاً منا لأهمية موضوع المياه في الصراع في منطقة الشرق الأوسط، نرى من الأهمية استقراء لوجهات نظر ومواقف الأطراف المختلفة والمعنية بموضوع المياه.

أولاّ: مسألة دجلة والفرات بين تركيا وسوريا والعراق

ينبع نهرا دجلة والفرات من أعالي جبال طوروس، الفاصل الطبيعي بين مجتمعي بلاد ما بين النهرين وبلاد الأناضول، وينحدرا باتجاه سوريا والعراق  بعد أن يلتقي نهري فره صو ومراد صو في حوض ملاطية. يبلغ طول نهر الفرات 2330 كلم، يسير منها حوالي 442 كلم حتى يصل إلى الحدود السورية الحالية. تقدر طاقة النهر بحوالي 31,7 مليار متر3 ينبع 95% منها من جبال طوروس و5% من روافد في سوريا أهمها نهر الخابور. أما نهر دجلة فمساره أقصر من الفرات ويبلغ 1900 كلم (منها 400 كلم داخل تركيا) لكن طاقته المائية أكبر لكثرة روافده (الزاب الأكبر، الزاب الأصغر، العظيم، ديالة) وتصل إلى 49 مليار متر3. مصادر مياه دجلة هي 58% من جبال طوروس و12% من جبال زغروس اللذان يقعان تحت السيطرة التركية والإيرانية، و30% من روافد في شمال شرق العراق.

فكرة استغلال مياه دجلة والفرات بدأت منذ أيام اتاتورك في العشرينات من القرن الماضي بعد ان رسمت معاهدة لوزان العام 1923 الحدود السورية – العراقية مع تركيا وايران، على منحدرات جبال طوروس وزغروس بدل أعالي هذه الجبال، كما ترسم الحدود الدولية عادة، مما أفقد سوريا والعراق السيطرة على دجلة والفرات وروافدهما، وأصبحا تحت رحمة تركيا وإلى حد ما ايران. في العام 1936، نضجت فكرة استغلال النهرين في تركيا بعد تأسيس ادارة الدراسات الكهربائية التي قدمت دراسة سد كيبان الذي نفذ في العام 1974 على الفرات. هذه الدراسة تبعتها دراسات أوسع وأشمل بعد تأسيس “مشروع جنوب شرق الاناضول”  (“غاب – GAP” كما يعرف عالميا)ً الذي اقترح إنشاء 22 سداً و19 محطة توليد كهرباء لري 1,7 مليون هكتار وتوليد 7500 ميغاوات من الطاقة الكهربائية. كلفة المشروع قدرت بـ 31 مليار دولار أميركي، وستحتاج إلى حوالي 17 مليار متر3 من مياه الفرات و8 مليار م3 من مياه دجلة وستسبب نقصاً حاداً في دول المصب وخاصة العراق.

أهم هذه المشاريع التي شملها مشروع سد “غاب” GAP هو سد اتاتورك على الفرات الذي يعتبر خامس أكبر سد في العالم، والذي انتهى العمل فيه في العام 1990، ويروي 872,4 الف هكتار ويولد 2400 ميغاوات من الطاقة في تركيا. المشروع الآخر المهم هو منظومة سدي أليسو وجزرة على دجلة الذي سيخزن 10,4 مليار متر3 لتوليد 1200 ميغاوات من الطاقة والذي سيروي 121,000 هكتار من الاراضي الحدودية التركية بكلفة 1,68$ مليار. بدا العمل بهذا المشروع في العام 2006، لكنه توقف في كانون الأول 2008 بعد اعتراض الجمعيات البيئية والاجتماعية وضغطها على حكوماتها الالمانية والنمساوية والسويسرية، التي ألغت في يوليو/تموز 2009 الضمانات لتمويل المشروع. أهم أسباب الالغاء هو تسبب بحيرة السد بفيضان قرية حسن كاييف الاثرية واجبار 10000 من السكان المحليين على هجرة منازلهم.

رغم وقف التمويل الخارجي، أصرت تركيا على اكمال المشروع وانتهى العمل بالمشروع وبدأ التخزين في يوليو/تموز 2019 ووصل إلى 5 مليار م3 في أبريل/نيسان 2020. أمام هذا الواقع أصبحت تركيا مسيطرة على أعظم مصدري مياه للمشرق السوري – العراقي ومؤهلة لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على المنطقة تحت شعار البترول للعرب والمياه لتركيا.

 أهداف سياسية تركية من اقتسام الثروة المائية

أن الأسباب الرئيسية لتفاقم أزمة المياه بين دول حوض نهر الفرات ودجلة (تركيا – سوريا – العراق) وعدم التوصل لحلول عقلانية خلال 4 عقود من الزمن، يعود لربط ازمة المياه بملفات لا تمت بصلة للمياه وبشكل خاص الملفات السياسية والأمنية. وتعتبر تركيا ازمة المياه وملف المياه “كرة ضغط” وسلاح تحارب به كل من سوريا والعراق والمنطقة بمجملها، وكذلك من أسباب تطور الازمة عدم اعتراف تركيا بالصفة الدولية لنهر الفرات وتعده نهراً وطنياً تركياً عابراً للحدود، وأنه ثروة قومية خاضعة لسيادتها مثل النفط العراقي، وكذلك رفضها التوقيع على اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية لعام 1997، فضلاً عن استمرار أنقرة في انشاء مشاريعها المائية على النهرين من دون مراعاة حقوق سوريا والعراق وحصصهما المائية، واستمرار التعاون التركي – الإسرائيلي الذي كانت أول بوادره العام 1986 بسبب خط “أنابيب السلام” إلى إسرائيل ومنطقة الخليج.

وقد كشف تقرير لـ “مركز الأبحاث المشتركة” التابع للمفوضية الأوروبية صادر عام 2018. ان كلا من نهر النيل ونهري دجلة والفرات، بين خمس مناطق في العالم ستكون في القريب مسرحا لصدامات مسلحة دفاعا عن الموارد المائية.، وتوقع ايضاً تقرير  صادر عن الأمم المتحدة أن تجف مياه نهري دجلة والفرات بحلول عام 2040 بسبب مشاريع السدود  التركية على النهرين. .

ثانياً: أخطار سد النهضة الأثيوبي

تشير أغلب الدراسات، إلى أن محاولات إثيوبيا التخفيف من أخطار سد النهضة مبالغاً فيها. لكن النسبة العظمى من الخبراء المصريين وغيرهم يؤكدون المخاطر الكبرى المحتملة على مصر والسودان، وتتمثل في الآتي:

  1. قيام السد على منطقة فالق زلزالي، فإن احتمال انهياره لاحقاً تحت تأثير زلزال يزيد عن 4 درجات على مقياس ريختر قد ينتهي إلى إغراق مساحات واسعة من الاراضي المصرية والسودانية (التي يبعد السد عن حدودها نحو 40 كم فقط)، مما قد يقود لخسائر بشرية كبيرة من المصريين والسودانيين. ووفق المخططات الأمريكية للمشروع، والتي بدأت لفترة تعود للعام 1964 من خلال مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي – US Bureau of Reclamation، فإن المنطقة التي يقام فيها السد تتسم بالتربة الغير ثابتة من الناحية- الجيولوجية التي تجعلها أقل قدرة على تحمل تخزين أكثر من 11 مليار متر3، فهي امتداد لما يسمى الأخدود الإفريقي أو حفرة الانهدام الكبير -Great Rift Valley، ولعل ذلك هو ما دعا الخبراء المصريين إلى دعوة إثيوبيا لتقليص التخزين من 74 مليار متر3 إلى أقل من 30 مليار متر3.
  2. تعتمد مصر بنسبة تتراوح بين 80% – 85% من حصادها المائي على نهر النيل، ويقدر الخبراء أن ملء سدّ النهضة خلال فترة ما بين 3 – 5 أعوام سيقود إلى تراجع 20% من حصة مصر البالغة 55.5 مليار متر3، طبقاً لاتفاقيتي 1929 و1959، وعليه يتراجع نصيب الفرد المصري من المياه من 2,500 متر3 سنوياً إلى 600 متر3.
  3. إن ملء سد النهضة قد يقود إلى أن يبقى السد العالي المصري فارغاً لمدة 12 عاماً طيلة فترة ملء السد الإثيوبي، وهناك خلاف مع مصر التي تطلب أن يتم ملء السد خلال 10 أعوام، وإثيوبيا التي تسعى لملئه خلال 3 أعوام فقط، وهو ما قد يقود إلى سلسلة من النتائج السلبية الكبرى أهمها:
  • ‌جفاف الري عن مساحة واسعة من الأراضي الزراعية، مما سيؤدي إلى تقليص المزروعات التي تحتاج كميات كبيرة من المياه مثل الأرز، حيث يقدر أن تنخفض المساحة المخصصة لهذا المحصول الأهم لسلة الغذاء المصري من 1.8 مليون فدان إلى 724 ألف فدان، أي نحو 40% من حجم المساحة الحالية في العام 2025.
  • انخفاض منسوب المياه الجوفية وخسارة مصر ما بين 11 – 19 مليار متر3 من المياه، وتداخل مياه البحر مع المياه في الدلتا المصرية مما يقود إلى ارتفاع نسبة الملوحة في التربة وجعلها أقل صلاحية للزراعة، والتلوث وتهديد الثروة السمكية، بالإضافة إلى تراجع الطاقة الكهربائية في مصر بين 25% – 40%.
  1. إن مواصلة إثيوبيا لمشروعها قد يغري بقية دول الحوض الأخرى لبناء سدود مماثلة مما يفاقم الأخطار السابقة الذكر على مصر والسودان، ويغرق الشرق الإفريقي ومنطقة حوض النيل في نزاعات عميقة ومدمرة.

بعد تصاعد الخلاف بين إثيوبيا ومصر حول آلاثار السلبية للسد الإثيوبي، كشفت  تقارير غربية، وعربية، العام 2019، عن قيام إسرائيل بنصب نظام دفاع جوي من نوع “سبايدر إم آر – Spyder-MR” حول سدّ النهضة الإثيوبي يمكنه من إسقاط الطائرات الحربية من على بعد 5 – 50 كم، وقد قامت 3 شركات إسرائيلية، وهي شركة رفائيل – Rafael  المتخصصة في الصواريخ وفرع إم.بي.تي – MBT للصواريخ التابع للصناعات الجوية الإسرائيلية وشركة أنظمة إلتا – Elta المتخصصة في الرادارات، بإنجاز هذا النظام الدفاعي لإثيوبيا، مما يضع  منطقة الشرق اوسطية على حافة المواجهة العسكرية، وكان خبراء بمعهد ماساتشوستس الدولى للتكنولوجيا، قد حذّروا من أن سد النهضة الاثيوبي ستكون له تداعيات وخيمة على دول المصب.

ومن بين المشكلات الفنية التى حددها الخبراء، “تقديرات المخاطر”، حيث أجمع المختصين على أن مخاطر بناء السد بصورته الحالية تضمن مخاطر عالية، إذ يتطلب تصميم سد النهضة بناء “سد سرج” كبير جدا لمنع تسرب المياه المخزنة  من الطرف الشمالي الغربي للخزان. ربما لم يتم تقدير المخاطر المصاحبة لفشل محتمل في هذا السد، ويجب إدارتها بعناية.

وفي وثيقة اخرى عن الشرق الأوسط وحروب المياه كشف في عام 2008 الوثيقة المثيرة  للاهتمام التي صدرت عن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، والمعروفة باسم «بيئة لعمل القوات المشتركة»، نجد معلومات مخيفة عن معاناة نحو 3 مليارات نسمة من نقص المياه بحلول العام 2033، في العالم والشرق الاوسط بالتحديد، وتأكيدات على أن نقص المياه سيكون السبب الرئيسي في الحروب القادمة، التي ستزعزع أسس الاستقرار والأمن العالميين. كما أوضح تقرير تنمية الموارد المائية الصادر عن الأمم المتحدة، أنه بحلول عام 2050 سيعاني قرابة 4 مليارات إنسان مما يسمى الإجهاد المائي الشديد.

وهو ما رصده تقرير البنتاغون الأميركي بالفعل، والذي أشار إلى أن مناطق الشرق الأوسط، وحوض نهر النيل، وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا، من أكثر المناطق التي ستواجه عجزاً في المياه العذبة، وستدخل في مواجهات الأمن المائي؛ مما سيؤدي إلى عجز في توافر احتياجات الاستهلاك الآدمي وإنتاج الغذاء وتوليد الطاقة. والثابت كذلك من التقارير التي أعدتها وكالة «ناسا» الاميركية عن مصادر المياه العذبة، أن معدل المياه الجوفية سوف يتضاءل بشكل مخيف، بما ينذر بالخطر. ومن بين المعلومات لدى الوكالة الفضائية الأميركية ، والتي كشفت عنها الاقمارها الصناعية، نجد بيانات صادمة عن وضع المياه الجوفية في العالم العربي ومنطقة الشرق الاوسط، تلك التي تمد نحو 60 مليون عربي بما يحتاجون إليه؛ ذلك أنها آخذة في الاضمحلال؛ ما يعني أن هناك كارثة قادمة لا محالة، وهي بالفعل الأكثر هولاً والأشد خطورة وضراوة من الأسلحة التقليدية، وتقترب في فعلها من أسلحة الدمار الشامل.

أما آخر وأهم الدراسات التي أجريت بشأن أزمة المياه العالمية، فكانت في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2020، واشرف عليها فريق من العلماء من مركز الأبحاث المشتركة التابع للمفوضية الأوروبية، وقد سلطت الضوء على 5 نقاط بؤر أساسية، يمكن أن تكون في القريب العاجل موقعاً وموضعاً لصدامات مسلحة؛ حفاظاً على الحقوق المائية، بما فيها نهر النيل، ونهر الغانج، ونهر السند، ونهري دجلة والفرات، في الشرق الأوسط ونهر كولورادو.

ولعل السؤال الواجب طرحه هو: هل نقص المياه يعني ضرورة الحروب؟

لا حلول في الأفق

اختارت دول الخليج العربي، التي تعاني بالفعل من ندرة المياه، حلولاً أكثر تكلفة مثل تقنية تحلية المياه التي تفصل الأملاح الموجودة في البحر عن المياه العذبة، حيت توجد 70%  من محطات تحلية المياه في العالم في منطقة الشرق الأوسط. وتنفق المملكة العربية السعودية وحدها أكثر من 24 مليار دولار لزيادة قدرتها على تحلية المياه. لكن حتى تِقنية تحلية مياه البحر لها حدودها وغير مضمونة.، حيت يوجد عائق فيزيائي  لمدى كفاءة استخدام الطاقة في هذه العملية. كقاعدة عامة، سوف يتطلب الأمر على الأقل واحد كيلووات/الساعة من الطاقة لتحلية متر مكعب من مياه البحر، وبحصيلة ذلك فان كانت تكاليف الكهرباء تبلغ، في المتوسط،​ 0.15 دولار لكل كيلووات/الساعة، فسوف تتكلَّف عملية تحلية المياه حوالي 150 دولاراً لكل 1200 متر مكعب من المياه.

ما يجعل الأمر الأسوأ هو أنَّه كلّما زادت دول الخليج من عمليات تحلية المياه، أعيد ضخ المياه غير المُحلاة الملحية المُركزة في البحر مرة أخرى. وعندما تصبح مياه البحر أكثر ملوحة، فسوف تزداد حينها تكلفة عملية تحلية المياه وستقل نتائجها الإيجابية الى سلبية.

هذا النهج القائم على استخدام الطاقة بكثافة لا يخلو من المخاطر والتأثيرات السلبية على البيئة. إذ ينتُج عن عملية تحلية المياه منتجات كيميائية ثانوية، وانبعاثات عالية من غاز ثاني أكسيد الكربون، التي تُسرّع من ندرة المياه.

وهنا نشير الى تقرير ممثل الأمم المتحدة،  الذي حذر من تفاقم أزمات المياه بعدما رسم صورة قاتمة عن شح موارد المياه العذبة وعرض توقعات مقلقة تتعلق بضعف الاستثمار وسوء الإدارة وعدم الاهتمام السياسي بمشاكل المياه ونتائجها المؤذية. وأكد التقرير تنامي الطلب على المياه بازدياد 64 بليون متر مكعب،، وأشارت الأرقام التي عرضها رئيس المجلس العالمي للمياه الويك فوشون، إلى أن 79 في المئة من مياه الأمطار تسقط في المحيطات، و2 في المئة في البحيرات و19 في المئة فقط على اليابسة. كذلك تمثل المياه المالحة 97.5 في المئة من مياه الأرض، علماً بأن المياه العذبة المتوافرة من ذوبان الثلوج والكتل الجليدية لا تشكل أكثر من نسبة 2.5 في المئة. أما في القطاعات المستخدمة للزراعة فإن نسبة الاستهلاك الاجمالي تصل أحياناً الى 70 في المئة، بينما لا تتعدى نسبة الاستهلاك في الصناعات 20 في المئة مقابل 10 في المئة للاستخدامات المنزلية.

كذلك مجلة (إيكونومستا) أجرت مسحاً شاملاً لمناطق التوتر التي تخضع لصراعات الاستيلاء على المياه. وذكرت مواقع كثيرة مثل حوض النيل الذي يتعرض لإنشاءات السدود، الأمر الذي ينذر بالخلاف بين أثيوبيا والسودان ومصر. والسبب أن مصر والسودان تنالان ما نسبته 75 في المئة من مياه النهر في حين تتقاسم الربع الأخر عشر دول، وذلك وفق اتفاقية وضعت في أوائل القرن الماضي. وتطالب الدول الأفريقية بضرورة مراجعة هذه الاتفاقية، إلا أن مصر ترفض بشدة هذا الطلب لأن عدد سكانها يفوق أعداد تلك الدول مجتمعة. وفي سنة 1998 كادت السدود التي تبنيها تركيا – وعددها عشرون – تتسبب في نشوب نزاع مسلح مع سورية التي رأت أن مشروع جنوب شرقي الأناضول، يؤدي إلى انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات، الأمر الذي يؤثر على كمية المياه بالنسبة لها وللعراق. وفي آذار (مارس) لسنة 2007 عقد اجتماع ثلاثي ضم وزراء الطاقة والمياه في تركيا وسورية والعراق، اتفق خلاله على اقتسام مياه نهري دجلة والفرات.

ويعيش نحو 60% من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مناطق شديدة الإجهاد المائي، فإذا استمرت المعدلات الحالية لتدهور الأراضي الزراعية سيضيع 8.3 مليون هكتار آخر من الأراضي الزراعية بحلول عام 2025، وقد بلغ متوسط وفرة المياه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 1200 متر مكعب سنوياً فقط.

وعلى الرغم من اختلاف الظروف بين دول المنطقة، فإن معظم السكان يواجهون خطر وجودي يتمثل في ندرة المياه. كما تعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر مناطق العالم التي تشهد إجهاد مائي، ففي اليمن مثلا  ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة يبلغ متوسط نصيب الفرد من المياه النقية 198 متر مكعب . وقد تفاقمت أزمة المياه في المنطقة خلال السنوات الأخيرة حتى شهدت هبوط متوسط في نسبة توفير المياه بمقدار 25%، ومن المحتمل أن يتخطى متوسط نصيب الفرد في المياه بالكاد فوق 500 متر مكعب بحلول عام 2025.  ومع تضاؤل الموارد، مرة أخرى، ربما تكون الحالة الأكثر وضوحاً هي اليمن، حيث قام المزارعون اليمنيون بزيادة عمق الآبار التي يعيشون عليها بحوال 50 متراً خلال الاثني عشر عاماً الماضية، بينما انخفضت كمية المياه التي يحصلون عليها بمقدار الثلثين، مما تسبب بصراعات عنيفة ببن القبائل للحصول على المياه.

مؤخراً حذر المعهد الدولي لإدارة المياه من أن التغيرات المناخية في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ستتسبب في مزيد من الإجهاد المائي لتلك المنطقة. في حين أن ندرة المياه ليست قضية جديدة، يجب أن يولى المجتمع الدولي المزيد من الاهتمام بها حيث تشير العديد من الهيئات الدولية إلى أن هذه الأزمة من المرجح أن تسوء، خاصة إذا لم يتم اتخاذ إجراءات سريعة لتحسين الوضع.

كذلك يؤكد البنك الدولي أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتبر من أكثر المناطق في العالم توتراً، في ما يخص الاستخدام غير المستدام للمياه، فحوالي 82% من المياه بتلك المنطقة لا يُستفاد منها بالشكل الفعال المؤثر، بالرغم من زيادة الطلب على المياه وضعف العرض. كما ستشهد المنطقة أكبر خسائر اقتصادية متوقعة من ندرة المياه المرتبط بالمناخ، والتي تقدر بـحوالي 6–14% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2050، ولا تساوي إنتاجية المياه الإجمالية في المنطقة إلا نحو نصف المتوسط العالمي، كما يهدد المنطقة أزمات الفيضانات والجفاف بشكل ملحوظ خاصة مناطق الشمال الإفريقي لندرة موارد المياه بها.

توقع تقرير منظمة الأغذية الزراعة للأمم المتحدة (الفاو) والبنك الدولي أن ندرة المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يمكن أن تكون إما عاملاً مزعزعاً للاستقرار أو دافعاً يقرّب المجتمعات بعضها ببعض، حيث يعتمد الأمر على السياسات المتخذة للتعامل مع هذا التحدي المتنامي.

في العام 2018، حذّر تقرير، بعنوان “إدارة المياه في النظم الهشة: بناء الصمود في وجه الصدمات والأزمات الممتدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، من أن عدم الاستقرار المقترن بضعف إدارة المياه يمكن أن يتحول إلى حلقة مفرغة تزيد من تفاقم التوترات الاجتماعية.

وأضاف التقرير المشترك “تزداد تحديات المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شدة يوماً بعد يوم؛ فالطلب المتزايد وتغير المناخ والمنافسة فيما بين القطاعات والتوسع الحضري كلها تفاقم تحديات شح المياه القديمة قدم الدهر في المنطقة. وفي بعض بلدان المنطقة، يؤدي  الى ضعف هياكل الحوكمة غير الملائمة والحوافز إلى ترك هذه التحديات دون معالجة إلى حد كبير، فضلاً عن عدم استمرار الإجراءات والسياسات. وقد أسفرت التشوهات الحالية في السياسات والمؤسسات عن نظام لا يدرك قيمة المياه.”

إن هذا التنافس في حقيقة الأمر نابع من الخلفيات التاريخية للمنطقة التي اثرت على التوزيع الحالي للمياه؛ فالحكومات الاستعمارية المنتدِبة هي المسؤول الأول عن هذا التقسيم من خلال توقيع بعض الاتفاقيات بالنيابة عن بعض الدول (مثل مافعلت حكومة الانتداب البريطاني)، كما ان ضبابية المبادئ القانونية بشأن تقاسم مياه الأنهار المشتركة جعلت من دول المنبع (كتركيا) تأخذ من المبادئ ما يتوافق مع مصالحها، مما يجعل تجدد النزاعات حول الموارد المائيّة بشكل دائم.

وبعد استعراض لأهم ديناميكيات الأطراف الرئيسية في كل قضية يمكن استخلاص بعض النقاط التالية:

  1. ان جيو – بوليتيك المياه عموماً – بدراسة النزاعات السياسية على المياه، مما يجعل منطقة الشرق الأوسط الأسيوية بمثابة نموذج حي لهذا الشأن. إن ذلك التناقض بين الحدود السياسية واتجاه تدفق الموارد المائية كالأنهار، يجعل من المنطقة عرضة لتجدد النزاعات حول المياه.
  2. تعاني المنطقة الشرق الاوسط من ضعف الإطار القانوني خصوصاً في قضية مياه نهري دجلة والفرات، فالطرف التركي يأخذ من مبادئ القانون الدولي ما يتناسب ومصالحه، متجاهلاً بذلك الطرف العربي. ولقد أثبتت الملاحظة التاريخية للتنافس الإسرائيلي – العربي، أو التركي – العربي، أن هذا التنافس لم يقتصر على الطرفين فحسب، بل حتى داخل الطرف العربي أثيرت الكثير من التوترات والتي كادت ان تتحول إلى نزاعات تصبح معه استراتيجية جيو-بوليتيك المياه والنزاع الذي يدور حتمية لا نهاية لها..

المراجع

جريدة العواصف اللبنانية تشرين اول 2018

موقع الهدف الالكتروني دومينة حروب المياه في الشرق الاوسط تموز 2022

وكالة الانباء الفلسطينية الصراع على المياه نشرة 2018

مركز سيتا للدراسات 10- 8- 2022

معهد ماساتشوستش 16 تموز 2022

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *