في يَومِها العالميِّ.. اللّغةُ العربيّةُ عاتبةٌ على أبنائِها
هي ليستْ مجرّدَ لغةٍ مؤلَّفةٍ من بضعةِ حروفٍ ومفرداتٍ، هي لغةُ القرآنِ، هي هُويّةٌ وتاريخٌ، هي لغةٌ أدبيّةٌ ساميةٌ، نُظِمتْ فيها أعظمُ الأشعارِ وأقوى الملاحمِ، وقيلتْ فيها الخطاباتُ وكُتبتِ الرّواياتُ. إنّها “لغةُ الضّادِ” التي تحتضنُ ثمانيةً وعشرينَ حرفاً تَسطعُ في سماءِ التّاريخِ، وتَتَلأْلَأُ على ألسنةِ كلِّ مَن نطقَ بها.
إنّها اللّغةُ العربيّةُ إحدى أكثرِ اللّغاتِ انتشارًا واستخدامًا في العالَمِ، والتي يتكلّمُها يوميًّا ما يزيدُ على 400 مليونِ نسمةً في حوالي 25 دولةً مِن سكّانِ المعمورةِ.
يَتوزَّعُ متحدِّثو “العربيّةِ” بين المنطقةِ العربيةِ وعددٍ منَ المناطقِ الأخرى المجاورةِ كـ تركيا وتشاد ومالي السنغال وإرتيريا وغيرِها، وللّغةِ العربيّةِ أهميّةٌ قُصوى لدى المسلمينَ، فهي لغةٌ مقدّسَةٌ كونُها لغةَ القرآنِ، ولا تتمُّ الصّلاةُ في الإسلامِ إلّا بإتقانِ كلماتِها. و”العربيّةُ” لغةٌ شعائريّةٌ رئيسةٌ لدى عددٍ من الكنائسِ المسيحيّةِ في المنطقةِ العربيّةِ، حيث كُتب بها الكثيرُ مِنَ الأعمالِ الدّينيّةِ والفكريّةِ اليهوديّةِ في العصورِ الوُسطى.
ويُحتفلُ باليومِ العالميِّ للّغةِ العربيّةِ الذي حدّدتْه الأُممُ المُتّحدةُ في 18 ديسمبر الجاري، باعتبارِهِ اليومَ الذي أصدرتْ فيه الجمعيّةُ العامّةُ قرارَها 3190(د-28) المؤرّخَ في 18 كانون الأوّل 1973، باعتمادِ اللّغةِ العربيّةِ سادسَ لغةٍ رسميّةٍ للأممِ المتّحدةِ، ويعدُّ هذا اليومَ يومًا مُهمًّا في تاريخِ تقديرِ اللّغةِ العربيّةِ وثقافاتِها وتطوّرِها.
بدأ اهتمامُ منظّمةِ الأُممِ المتّحدةِ للتّربيةِ والعلومِ والثّقافةِ “اليونسكو” باللّغةِ العربيّةِ باكرًا، حين قرّرَ المؤتمرُ الثّالثُ للمنظّمةِ المنعقدُ في بيروتَ عامَ 1948 اعتمادَ “العربيّةِ” لغةً ثالثةً إلى جانبِ اللّغتينِ الإنكليزيّةِ والفرنسيّةِ لأشغالِ هيئاتِ المنظّمةِ في حالِ انعقادِها في بلدٍ ناطقٍ بالعربيّةِ، وأَدرجَ المؤتمرُ اللّغةَ العربيّةِ ضمنَ اللّغاتِ التي تُترجمُ إليها مَحاضرُ الاجتماعاتِ والدّورياتِ، ووثائقُ العملِ. وأوّلُ تخليدٍ للّغةِ العربيّةِ كان عامَ 2012، فصارت “اليونسكو” تحتفلُ بيومِ اللّغةِ العربيّةِ كلَّ عامٍ على غرارِ لغاتٍ أخرى سمَّت لها المنظّمةُ أيّامًا للاحتفاءِ بها، لاسيّما الإنجليزيّةُ والفرنسيّةُ والإسبانيّةُ والصينيّةُ والرّوسيّةُ.
تعودُ أهميّةُ اللّغةِ العربيّةِ في ليبيا إلى كونِها لغةَ الهُوِيّةِ الدّينيّةِ والوطنيّةِ، ووسيلةَ التّواصلِ الجامعةَ لكلّ مكوّناتِ الوطنِ، فهي لغةُ الدّينِ والعبادةِ، والتّعليمِ والإدارةِ، والإعلامِ والثّقافةِ، وهي النّاقلةُ لتراثِ الأمّةِ وهُويَّتِها، والحافظةُ لوثائقِها في شتّى مناحي الحياةِ. وقد لُوحظ في الآونةِ الأخيرةِ عزوفُ أبناءِ طرابلسَ عن تعلُّمِ اللّغةِ العربيّةِ والإقبالِ على علومِها في جميعِ الكليّاتِ والأقسامِ بالجامعاتِ اللّيبيّةِ، ناهيكَ عن النّقصِ في الأساتذةِ الذينَ يُدرّسونَ هذه المادّةَ، أو عدَمِ أهليّتِهِم لتدريسِها وإيصالها إلى عقولِ الطّلابِ بطريقةٍ مُحبَّبَةٍ. هذه المعضلةُ تلقّفَها الدّكتور الصّدّيق حفتر بجدّيةٍ منبّهًا إلى “ضرورةِ النّهوضِ باللّغةِ العربيّةِ وتصحيحِ مَسارِ تدريسِها، وتطويرِ قُدراتِ الأساتذةِ ومهاراتِهِم، لِما ينعكسُ ذلك على الطّلابِ ويجعلُهُم يُقبِلونَ على تعلّمِ تلكِ اللّغةِ”.
هنا يُشدّدُ الدكتور حفتر على معرفةِ أسبابِ العُزوفِ عنْ تَعلُّمِ لغتِنا الأمِّ و”أهميّةِ استحداثِ طرائقِ تدريسٍ عصريّةٍ، واستعمالِ التّقنيةِ الإلكترونيّةِ في التّعليمِ والاستفادةِ مِن الذّكاءِ الاصطناعيِّ، وفتحِ فُرصِ عملٍ جديدةٍ أمام خرّيجي أقسامِ اللّغةِ العربيّةِ”، مشيرًا إلى ” ضرورةِ بذلِ مزيدٍ منَ الجهودِ للحفاظِ على اللّغةِ العربيّةِ لما لها مِن دورٍ في تشكيلِ هُويّتِنا وانتمائِنا، ونقلِها إلى الأجيالِ الصّاعدةِ، فهيَ أكثرُ مِن مُجرّدِ وسيلةٍ للتّواصلِ، هي رمزُ الهُويّةِ والعراقةِ، وموروثُنا الثّقافيُّ الرّائعُ”.
وأكّد الدّكتور حفتر على “دعمِ استخدامِ العربيّةِ في وسائلِ الإعلامِ والمحتوى الثقافيِّ، والتّشجيعِ على القراءةِ والكتابةِ بها، وحمايةِ الهُويّةِ الوطنيّةِ وترسيخِها كجزءٍ مِنَ التّراثِ اللّيبيِّ، واستخدامِ التّكنولوجيا في تعزيزِ انتشارِها وإنتاجِ محتوًى رقميٍّ عربيٍّ يُنافسُ المِنصّاتِ الأجنبيةَ الحديثةَ”.
قد يَعودُ ضَعفُ اللّغةِ العربيّةِ بالدّرجةِ الأولى إلى أبنائِها الذين تنكّروا لها وتهاونوا في الحفاظِ عليها، حتى وصل الأمر بهم -أحيانًا- إلى الشّعورِ بالخِزي لتحدُّثِهمْ بهذهِ اللّغةِ، لذلك يلجأُ بعضُهُم إلى تطعيمِها بكلماتٍ منَ اللّغةِ الإنكليزيّةِ، للدّلالةِ على أنّهمْ مُتحضِّرونَ، وكأنّ هذه اللغةَ هي سببُ تخلُّفِهم، من دونِ أن يلتفتوا إلى أنّهمْ همْ الّذينَ تَخلّفوا عنها. وربّما تُصارِعُ اللّغةُ العربيّةُ اليومَ “العاميّةَ” و”الأجنبيّةَ” معًا، ما يُحتّمُ علينا معالجةَ مشكلاتِ اللّغةِ العربيّةِ في عالمِنا العربيِّ، فاللّغةُ التي لا يهتمُّ بها أهلُها لا تكونُ أبدًا جديرةً باهتمامِ الآخرينَ.