
في زمنٍ فقدت فيه الفصول معناها…..
في زمنٍ فقدت فيه الفصول معناها، لم تعد السماء تتلو صلاة الفجر بلونٍ منير، بل صارت تمطر نارًا وغبارًا. الأرض كلها تبكي، لكننا لم نسمع. الشمس تطلع كل صباح وهي تتثاقل من مشاهد الدم، ولا شيء في هذا العالم يشبه الحياة…
على الساحل، حيث كانت البيوت تتكئ على البحر كما تتكئ الروح على الأمل، باتت الواجهات مثقوبة، والأمهات يُكفّنَّ أبناءهن في ملاءات النوم، لا في الأكفان. هناك، كل نافذةٍ تُغلق خلفها صلاة، وكل شارعٍ يتكئ على ذاكرة فقيد…
وفي الجنوب، كان الليل لا يكتمل، تقطعه صفارات ونوافذ تُرجّ كأنها تنزف زجاجًا. الأطفال هناك لا يحلمون، بل يحصون الدقائق بين صافرةٍ وأخرى، وبين انقطاع الكهرباء وعودتها كأنها معجزة.
أما في الأرض التي لا تعرف السكون، أرض الماء والجبال، فقد صارت الزهور تفتح على مشهد الجثث، والحقول تبتلع الفرح كما تبتلع النار الحطب. هناك، لم يعد الحب حكاية، بل ذكرى مشوّهة تتناقلها الرياح.
وفي المدينة التي كانت تُنادى ذات زمنٍ بالعاصمة الأبدية، تخبطت الأزقة ببعضها، واختلط صوت الأذان بأنين الجوع والخوف. الجدران تسرّب الهمس، والقلوب تهرب من نشرات الأخبار كي لا ترى صورتها في المرآة.
وفي مكانٍ آخر، في صالة عظيمة تُشعل شموعًا وتُرتّل الصلوات، وقف العالم بانضباطٍ مصطنع يودّع رجلاً دعا للسلام، بينما بأطراف العالم المنسيّ، كانت جثث الأطفال تُحمل على ألواحٍ خشبية لا تعرف الرحمة.
أيُّ ربيعٍ هذا الذي يمرُّ والدماء تسبق الزهور؟ أيُّ موسمٍ هذا الذي تسكنه الحرائق، وتُزهر فيه المجازر؟
ربما لم يمت الضمير العالمي دفعة واحدة، بل تفتّت مثل فخارٍ عتيق. كل مرة يُذبح فيها طفل ولا يهتز الكوكب، كل مرة يُقصف فيها حيٌّ ولا تصدر إدانة، كل مرة تُغتصب فيها الأرض باسم “السيادة”، يُنتزع من ضمير العالم حجر جديد.
نحن نعيش في عالمٍ لا يبكي، بل يراقب. عالمٍ يقيس المأساة بعدد المشاركات، ويقيس القسوة بمدى الصمت. هل تذكرون يوم كانت الدمعة تكفي لرفض القتل؟ اليوم نحتاج إلى عدسة محترفة، وصوت درامي، كي نُصدّق أن مجزرة قد حدثت.
هذا الزمن المُثقل بالنحيب، من البيوت المنسية إلى الحقول المحروقة، من الأمهات النازفات إلى صالات الوداع الرسمية، من عتمة العواصم المقهورة إلى رماد المدن القديمة، كل شيء ينطق بكلمة واحدة: “لقد فشلنا”.
فشلنا في الشعور، في الموقف، في الوقوف على الحياد النبيل لا الحياد القاتل. فشلنا حين غضضنا الطرف، وظننا أن الصور ليست لنا.
لكن…
هل مات الضمير كلياً؟ ربما لا. لأن الطفل الذي يركض في الأزقة رغم الأنقاض لا يزال يضحك. لأن الأم التي تغنّي لطفلها في ملجأٍ رطبٍ تحت الأرض لا تزال تؤمن. لأن المدينة التي تخبط ببعضها لا تزال تتنفس، وإن بصعوبة.
الضمير لا يحتاج إلى قمة دولية، بل إلى لحظة صمت صادقة. إلى صحفي يكتب بدم قلبه، لا بإملاء رؤسائه. إلى رسّام يرسم الوجع لا ليبيعه، بل ليُخلّده. إلى إنسان، فقط إنسان، يتوقف في منتصف الزحام ليسأل: “ماذا لو كانت هذه الجثة لابني؟”.
فلنُصغِ.
لا إلى نشرات الأخبار، بل إلى صوت الأرواح وهي تنهار. إلى أنين المدن، وبكاء القرى، وارتعاشة الهواء حيث تختبئ الحياة خلف الحصار.
حين نصغي، قد لا يتغيّر العالم كله. لكننا على الأقل، نمنح الإنسانية فرصة… أن تتنفس.
فربما، فقط ربما، نستطيع أن نكتب يومًا:
لقد أصغينا… فعدنا أحياء.



