الأسطورة الخَلَّاقة : ​فلسفة طلال حيدر من الطِّين إلى النّور

​”الأسطورة لا تُروَى كتاريخ، بل كقصّة حياة، تعيشُ في الحاضر.” (ميرسيا إلياد)
​ليست الأسطورة مجرّدَ حكايةٍ تُروَى، بل هي الروحُ الهامسةُ في أقصَى النّور؛ هي النغمةُ الأزليةُ التي سبقت كلّ كلام، لتكون بذلك الوعيَ الكونيّ الذي وُجد قبل اللغة المَنطقيّة والمصدرَ الأساسيّ لكلّ معنًى ورؤيةٍ. إنّ الشِّعرَ الحقيقيّ يسعى لإيقاظِ هذا الهمسِ المَنسيّ، مُستدعياً لغةَ الخَلْقِ الأولى والوعيَ الذي ضاعَ في زحمة الظِّلال.
​في فضاءِ هذه الرؤية الكبرى تتجلَّى تجربةُ طلال حيدر؛ فهو لا يُعنَى بيوميّات الظلّ العابرة، بل يتعمق بحثاً عن جوهر اللحظة السّرمَديّة. لم يستعر الشاعرُ أساطيرَه من رُخامِ الإغريق البارد، بل جَبلَها من طِينِ الضّيعة الدافئ، مُرسيًا بذلك رؤيتَه الفلسفيةَ العميقة التي تنبع أساسًا من ذلك الشَّوقِ الأبديّ الذي يتفجّرُ من ينابيع الفَقْدِ المُتجدِّد.
​إنّ القيمةَ الأصيلةَ في الشِّعر لا تنبثقُ من النِّظامِ المُكمَل أو الشَّكلِ المُغلَق، بل من ذلك التَّحوُّلِ الذي يجعل شِعرَه جسرًا مُضاءً يربط عالَمنا الحاضر بالعالم الغَيْبيّ. هنا، يُحوِّلُ صُعوبةَ التجربة إلى مُنطَلَقٍ للتأمُّل الذي يُحرِّكُ شرارةَ الإشراقِ الكونيّ. فهو يُوظِّفُ الأسطورة لا كزينةٍ مُستَعارةٍ، بل كأداةٍ خَلَّاقةٍ لإعادة نَسْجِ الوجود، صانعًا السموَّ الروحيَّ من تجربة المُكابَدةِ التي صارت نورًا . ويَكمُنُ التجديدُ الحقيقيُّ في إزالة اليقين الكلاسيكيّ الجامد وإلباس الأسطورة ثوبًا من الوَجْدِ الصّادقِ والصَّفاءِ الروحيّ، لتصبح هذه التجلِّياتُ هي المادة الخامَّ للارتقاء الوجودي ولغة الخَلْقِ الأولى.
​تجديد عناصر التكوين: أسطورة الخَلْقِ والانبعاث العاطفي
​يُشكِّلُ التجديدُ الأبرزُ عند حيدر تحويلَ الأساطير الكلاسيكيةِ إلى صيغةِ خَلْقٍ عاطفيةٍ، تمنح السموَّ لأبسط العناصر، في قصَّةِ تكوينٍ مُشرِقٍ تستدعي الأصولَ الكونية. يتجاوز الشاعرُ أسطورةَ الخَلْقِ التقليديّة ليُقدِّمَ صيغةً روحيةً تتضمَّنُ المُكابَدةَ والفَقْدَ العاطفيَّ كشرطٍ للتكوين المُشترَكِ. فـ “الفخَّار” رمزُ الإنسان لم يُخلَقْ بالنَّفْخِ المُباشِرِ عنده، بل بـ “الدَّمعةِ الإلهيَّةِ” التي هي في حقيقتها دمعةُ الشَّوقِ البشريّ المُكثَّفة، وبنارِ التَّحوُّلِ والتَّطهير:
​«شُو كُنت يا فخَّار قبل بهالدِّني؟ كَمشة تْرَاب وعِشت ما صَرلَك سِني / مِتلَك أنا كُنت بِزَماني طِين / يا فخَّار صُدْفَةً مَرَق الله جَبَلني بِدَمْعِتُو بالنَّار / وشَوْش بِإدْني وطار / وقَلّلي انتَ فخَّار».
​هنا، تتحوَّلُ مادَّةُ الإنسان (الفخَّار) إلى كائنٍ سامٍ بالدَّمعةِ ونارِ التَّطهيرِ، ليغدو التوقُ إلى السموِّ شرطًا للارتقاء الوجودي.
​ويُحوِّلُ الشاعرُ الماءَ من مجرَّدِ مادَّةِ خَلْقٍ إلى دلالةٍ للرحلة الداخليّة والتطوير الوجودي. الغَرَقُ هنا ليس هَلاكًا عابرًا ، بل هو قرارٌ عاطفيٌّ بتحويل الفناء إلى وَعْدٍ بالبَعْثِ المُتجدِّدِ:
​«بِتِلْبَقْلِك المَيّ / لا تْموتِي / اْغْرَقي بِالمَيّ / تَيصير موتِك نَعَس / وتْصير شَمْسِك فَيّ».
​هنا، تُبطِلُ أسطورةُ الانبعاثِ سلطةَ الرحيل المُطلَقةِ، وتجعل الرَّدَى مرحلةَ انتظارٍ تسبق ولادةَ الكائنِ مرَّةً أخرى تحت شمسِ الخلود، مُتجاوزَةً ألَمَ الفَقْدِ إلى يقينِ العودةِ الروحيّة.
​أما في أسطورة السقوطِ؛ فهو لا يُركِّز على الخطيئةِ، بل على جُرْأةِ الاكتشافِ المُستمِرّ النّابِعَةِ من الشوق. “جبلُ التُّفَّاحِ” هنا ليس جنَّةَ الطَّرْدِ الغَيْبيَّةَ، بل هو الفردوسُ المحليُّ الذي يُعادُ اكتشافُه يوميًّا:
​«وجْهِك قطْعان المَعَزّي بِجَبَل التُّفَّاح / وجْهك سرْقِة البَساتين».
​تتحوَّلُ “سرقة البساتينِ” إلى رمزٍ لاقتحامِ حدودِ النقصِ البشريّ، وتوقٍ وجوديٍّ للخلاص من قَيْدِ الواقع، مُعيدًا بذلك نَسْجَ القصصِ الكبرى ضمن تفاصيل المشهد اليوميّ البسيط.
​أسطورة العبور والخلود العاطفي: الغياب كحضورٍ دائمٍ
​الأسطورةُ الخَلَّاقةُ عند حيدر لا تُنهِي القصةَ بالرَّدَى، بل تجعلُ منه عُبورًا وتَحوُّلًانُورَانِيًّا، مُكيِّفًا الغيابَ الجارحَ إلى حضورٍ يوميٍّ مُؤثِّرٍ. لا يعود البطلُ جسديًا بالضرورة، بل يعودُ ككيانٍ روحيٍّ وفكرةٍ خالدةٍ:
​«في ناس قالُوا قتِلْ / في ناس قالُوا ماتْ / في ناس قالُوا فَتَحْ / عتمة خَيَالُو وفاتْ».

​يتحوَّلُ الموتُ إلى اقتحامٍ أسطوريٍّ للظَّلام، حيث يفتحُ الإنسانُ “عتمة خياله” ليعبر إلى حالةٍ وجوديةٍ أرقى. وتكمُنُ المأساةُ العاطفيةُ التي يدفعها الشاعرُ هنا في أنّ الرحيلَ لا يتحوَّلُ إلى نجومٍ بعيدةٍ، بل إلى حضورٍ داخليٍّ يوميٍّ يمرّ في التفاصيل الصغيرةِ:
​«في ناس… بِيرُوحُوا وما بيرْجَعُوا، بَسّ بِيْضَلُّوا عَم يْمَرِّقُوا قدّام الذَّاكِرَة كل يَوْم.».
​تفرُّدُهُ يكمُنُ في استبدالِ التخليدِ الكونيّ البعيدِ بـ “التخليدِ الداخليّ” القريبِ، ليُجسِّدَ التحديثَ الأعمقَ بجعله الخلودَ مسألةً إنسانيةً عاطفيةً لا ظاهرةً سماويةً مجرَّدةً.
​اللغة العامِّيَّة كأسطورةٍ حَيَّةٍ
​يُحوِّلُ الشاعرُ اللغةَ العامِّيَّةَ من وسيلةِ تواصلٍ
عاديةٍ إلى لغةٍ أسطوريةٍ حَيَّةٍ قادرةٍ على حملِ ثِقلِ الملاحمِ والإيقاعِ التّرتيليّ، إذ يهدفُ الشِّعرُ عنده إلى صياغةِ الأسطورةِ الشفاهيةِ المُتَجذِّرَةِ في الوجدانِ الشعبيّ، حيث يصبحُ “الدِّيبُ” رمزاً للنِّداءِ الأصيلِ والمُطلَقِ:
​«يا ناطْرين التَّلْج ما عاد بِدْكُن تِرْجَعُوا / صَرِّخْ عَلَيْهِن بالشِّتِي يا ديب بَلْكِي بِيْسْمَعُوا».
​لقد كان شاعرُنا الكبيرُ من أوائلِ الذين حمَّلوا اللغةَ العاميةَ بُعدًا أسطوريًا مانحًا القصيدةَ الشعبيةَ ثِقلَها الكونيَّ وقدرتَها على حملِ الرموزِ الكبرى.
​هذا التكييفُ للغةِ المَحْكِيَّةِ يمنحُ القصيدةَ القدرةَ على التَّجَذُّرِ العميقِ في الوجدانِ الشعبيّ، ليغدو كنزًا أبديًا لحملِ الأسطورة، مُثبِتًا أنّ الكونيَّ يبدأُ دائمًا من نداءِ المَحْكِيِّ والخاصِّ.
​في الختام، يُعلِنُ شِعرُ طلال حيدر عن كنوزٍ إبداعيةٍ ثمينةٍ؛ فهو لم يُجدِّدِ الأسطورةَ فحسب، بل حوَّلَ التفاصيلَ اليوميةَ إلى إمكانيةٍ مُتواصِلَةٍ للإشراقِ. لقد أفْرَغَ النماذجَ الأسطوريةَ من يقينها القديمِ وملأها بسؤالِ الإنسانِ المُعاصِرِ، مُثبِتاً أنّ الأسطورةَ الحقيقيةَ ليست ماضيًا يُستَعادُ، بل هي مفتاحٌ سِحريٌّ لجوهرِ وجودِنا، ينبعُ من الطينِ ويشتعلُ بالشَّوقِ. ليظلَّ شِعرُهُ مُعلَّقًا بين الترابِ والأزل، شاهداً على أنّ الشِّعرَ هو الصَّدَى العميقُ لِلُغةِ التكوينِ الأولى، ومُدرِكًا أنّ سَرمَديَّةَ اللحظةِ تكمُنُ في فَتْحِ أفُقِ التَّأمُّلِ أمام الإشراقِ الكونيِّ الذي لا ينتهي.
​كاتبةٌ وناقدةٌ لبنانيةٌ.
​​فاتن مرتضى….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *