حربٌ ليسَت أوكرانية

طبيعةٌ خلابة وتاريخٌ عريق لبلدٍ تتنازعه تطلّعات نحو أوروبا الغربيّة، وهو البلد الَّذِي ينتمي لبيئةٍ شرقيّةٍ أرثوذوكسيّة.
إنَّها المُفارقة التي إنعكست على معركةً حامية الوطيس، سرعان ما تطوّرت في ألفين وثلاثة عشر ٢٠١٣ إلى ثورةٍ أجبرت الرئيس السابق “فيكتور يانوكوفيتش” على مغادرة البلاد.
كانت الأصوات المُتصاعِدة المُنادِية بالإلتحاق بالبيت الأوروبي تُزعِج الجارة الكبرى -روسيا- التي لم تُخفِ يومًا قلقها إتجاه مُتغيّراتٍ أوكرانيّة جاءت بممثّلٍ نال الرئاسة تحت شعار “مُحاربة الفساد”؛ ليجد نفسه لاحقًا في حربٍ ضد قوّة عُظمى، في سياقٍ يشمل قصّةً مُمتدّة مُعقّدة من النزاع القديم الجديد بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية التي تتزعّم حلف الناتو وأوروبا.
بدأت أوكرانيا في تطوير نفسها كدولةٍ ذات سيادةٍ مُختلفة تمامًا، ليس فقط عن روسيا؛ ولكن عن جميع الجمهوريات السوفياتيّة السابقة.

وها هي أوكرانيا هذه الأيام؛ بلدٌ تتقاسم مُدنه مظاهر الخراب والدمار على نحوٍ أعاده عشرات السنوات وربّما عقودًا إلى الوراء والماضي يحمل مفاتيح كثيرةً تُساعِد في الجواب على سؤالٍ مفصلي … ما الَّذِي أوقد فتيل المواجهة وقاد المنطقة والعالم إلى ما إعتُبِرَ بداية لحربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ مُحتملة؟
لا جواب خارج التاريخ والجغرافيا، وكلاهما يُذكِّران من ينسى أن أوكرانيا التي تمتدّ على مساحةٍ كبيرة تفوق ضعف مساحة بلدٍ كفرنسا لم تنفصل تُرابيًّا ولمراحل زمنيّة مديدة عن روسيا، وكان عليها أن تنتظر إنهيار الإتحاد السوفييتي في الخامس والعشرين من ديسمبر / كانون الأول من العام ألفٍ وتسعمائةٍ وواحدٍ وتسعين كي تصبح واحدةً من الجمهوريّات المُستقلّة حديثًا عن كيان كان يُنازع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الهيمنة على العالم.
روسيا التي إلتقطت أنفاسها شيئًا فشيئًا مع تسليم “بوريس يلتسن” مقاليد الحكم إلى رئيس وزرائه آنذاك “فلاديمير بوتين” ، شرعت تُواجِه تدريجيًّا خطر مزيد من التفكّك وشبح الغرق أكثر فأكثر في أزماتٍ إقتصادية ٍ ونزعاتٍ عرقيّةٍ تُمثِّل خطرًا وجوديًّا على البلاد.
بَسطُ السيطرة على شبه جزيرة القرم كان واحدًا من بين مظاهر عودة الروس إلى ساحتيْ النفوذ الإقليمي والدولي، وهو الهدف الَّذِي التهم أرواح ثلاثة عشر ألف قتيلٍ بين سنتي ألفين وأربعة عشر وألفين وتسعة عشر.
موسكو المعنيّة ،في كل العصور تقريبًا ،بالوصول إلى المياه الدافئة لأسبابٍ أمنيّةٍ وإقتصادية قاهرةٍ، لم تغفل عينها يومًا فيما يبدو عن أوكرانيا، سواءٌ كجارٍ يُمكِن إحتواؤه أو كما يُسوَّق اليوم كتهديدٍ على الحدود أيقظ في الذاكرة الروسية ذكرياتٍ مُزعِجة عن موجات غزوٍ قَدِمَت لروسيا عبر تلك البوابة؛ كان آخرها الغزو النازي. لذا الحرب على أوكرانيا هي الحرب الواسطة بين كلّ الغرب وروسيا .

أرادت “كييف” ذلك أم لم تُرِدُه وجدت نفسها مُربّعًا مُتقدِّمًا في رقعة شطرنج حربٍ باردة، لم تخمد نيرانها تحت رماد المجاملات الدبلوماسيّة والإتفاقات مع الغرب، تلك التي لم تصمد في أوقاتٍ لاحقة.فإقتراب مُنظِّمة حلف الناتو لحدود روسيا هو أمر كافٍ جدًا لكي تكون روسيا قلقة.
حيثُ طرحت زعاماتٌ أميركيّةٌ وأوروبيّةٌ فكرة المجال الأمني المُستقِرّ من فانكوفر إلى فلاديفوستوك؛ لتعزيز أجواء التفاهم التي عزّزتها صفقةٌ روسيّةٌ أميركيّةٌ ضمنيّة : تقوم على قبول موسكو بتوحيد الألمانيّتين مقابل تعهّدٍ بألَّا يتوسّع الناتو شرقًا، الحلف الَّذِي قام عام ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةٍ وأربعين لمواجهة الإتحاد السوفياتي زمن الحرب الباردة.
تقبّل الروس على مضضٍ بالغٍ إنضمام كل من بولونيا والمجر والتشيك عام ألفٍ وتسعمائةٍ وتسعةٍ وتسعين إلى حلف الناتو، على تقدير أن تلك البلدان لا حدود جغرافيّة مباشرة لها مع روسيا، وبالنظر إلى تعهّدٍ من الناتو بعدم نشر قواتٍ وأسلحةٍ إستراتيجية دائمةٍ في ربوعها.
لقد أظهر الروس ،ومنذ البداية، إنزعاجهم من مساعي الناتو للتوسّع في مراحل عدّة، والإقتراب من حدودهم أكثر فأكثر.
فروسيا لم تغفل فيما يبدو عن مراقبة ومعالجة التوازنات الإستراتيجيّة على هذا الصعيد،
ساعيةً نحو خلق أُطُرٍ لإحياء وإستدامة نفوذها في أوروبا الشرقية، وإن بصيغٍ جديدةٍ كما هي الحال مع بعث رابطة الدول المستقلّة منذ ألفٍ وتسعمائةٍ وتسعين.
حيثُ أجَّج إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن ،في ألفين وأربعة، عن إنضمام كلٍّ من بلغاريا وأستونيا ولاتفيا ورومانيا وسلوفاكيا وليتوانيا إلى حلف الناتو، مخاوف الروس من سعيٍ أميركيٍّ لتطويق روسيا وخنقها وتهميشها؛ بل وإعتبروا ذلك دليلًا دامغًا على خيانة واشنطن وغيرها بموسكو ،ضاربةً عرض الحائط ما بينهما من مواثيقٍ وتعهّداتٍ رسميّةٍ وأخرى ضمنيّة.
إنتشر شرارُ ما عُرِفَ بالثورات المُلوّنة قريبًا من الحدود الروسيّة مع إندلاع ثورةٍ سُمّيت بثورة الورود عام ألفين وثلاثة في جورجيا، وأخرى دُعِيَت بالثورة البرتقالية في ألفين وأربعة في أوكرانيا، جمع بينهما هوىً غربيٌ يدعو للإلتحاق بالإتحاد الأوروبي عاجلًا أم آجلًا. عجَلّ ذلك حرارة الحرب الباردة، الأمر الَّذِي أفضى إلى تدخّلٍ روسيٍ عام ألفين وثمانية في جورجيا قاد إلى إعلان إستقلال إقليمي أوسيتيا وأبخازيا كيانين مواليين لموسكو.
أمَّا في أوكرانيا ،فقد قادت جملة تفاعلاتٍ إلى قيام ما عُرِفَ بثورة ميدان سنة ألفين وثلاثة عشر، وهي الثورة التي نادت بالإنضمام للإتحاد الأوروبي مُجبِرةً الرئيس “فيكتور يانوكوفيتش” المُوالي لروسيا على مُغادرة البلاد.
وجد “بوتين” في تلك التطوّرات مسًّا خطيرًا من خطوطٍ حمراء لأمن بلاده القومي، ولم يُتِق من يومها ذِكرًا لرئيسٍ أوكراني قَدِمَ إلى سدّة الحكم من ركح المسرح وشاشات التمثيل ممتطيًا جواد مُحاربة الفساد
فتدريجيًّا تعمّقت أزمة الثقة بين “بوتين” والزعامات الأمريكيّة والغربيّة، رغم كل الزيارات والمجاملات التي تخلّلتها، فالأهم هو ما يجري على الأرض. وعلى الأرض نشر الناتو في رومانيا عام ألفين وستة عشر وفي بولونيا عام ألفين وعشرين أنظمةً صاروخيّةً مُتقدِّمةً لمواجهة صواريخ روسيا الإستراتيجية ولم تقتنع موسكو يومًا أنّ تلك المنظومات إنّما كانت بحسب واشنطن مُوَجّهةً لإيران دون غيرها.
عند هذا المنعطف ،يتفقّد كلّ طرفٍ حلفاءه، ومَن غير الصين التي تُقاسِم الروس رفض ما يعتبره البلدان هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة على العالم لطرح مبادراتٍ وخُططٍ لمواجهة ذلك.
فكانت أوروبا هي الوجهة الأولى للصادرات الروسيّة، لكن الصين بدأت تقضم تلك المكانة شيئًا فشيئًا، وهو ما بلغ ذروته بتنسيقٍ وما يشبه الإندماج بين مشروع طريق الحرير ومُنظّمة التعاون الآسيوي في المجال الأوراسي. “بدجين” تُنشِئ البُنية اللوجستيّة اللازمة لطريقها، وروسيا تتكفل بأمنه في نطاق نفوذها المباشر وغير المباشر.
هكذا تمّ الردّ على ما إعتُبِرَ نوايا أمريكيّة أوروبيّة توسُعيّة بخلق منطقةٍ واعدةٍ إقتصاديًّا تشمل ما يُقارب نصف سُكان المعمورة، ومع إعلان ما بات يُعرَف بالحلف الأوراسي في ألفين وخمسة عشر أكتملت حلقةٌ أُخرى من حلقات التحسّب الإستراتيجي لأجندة القطب الآخر في عالمٍ خَالَ لوقتٍ ما أنّه تخلّص من الثُنائيّة القطبيّة وما تبعها من تجاذُباتٍ حادّةٍ، تداخلت فيها خطوط الإشتباك السياسيّة والأمنيّة والإقتصاديّة مُنذِرةً بأنّ الإستقرار العالمي لا يعدو أن يكون هدوءاً يسبق عاصفةً ما.
فمع تعالي الأصوات في أوكرانيا بقيادة الرئيس” فلاديمير زيلينسكي”، الداعية للإسراع بالإنضمام للإتّحاد الأوروبي، ولِمَ لا حلف الناتو؟ وفي ظلّ إندلاع حربٍ إنفصاليّةٍ في منطقتيْ “لوغانسك ودونيتسك” حيث يُقاتِل إنفصاليون من أصلٍ روسي لإعلان الإقليمين وبدعمٍ من موسكو جمهوريتيْنِ إنفصاليّتيْنِ. تصاعدت المخاوف وتتالت تقاريرٌ إستخباراتيّةٌ أمريكيّةٌ وغربيّةٌ تؤكِّد أنّ الرئيس الروسي حسم أمره في إتجاه غزوٍ عسكري لأوكرانيا.
أليس من حقّ روسيا القيام بدفاعٍ مُسبَقٍ عن نفسها، على إفتراضٍ منها بأنّ الوضع ما قبل الحرب كان سيتطوّر في إتجاهٍ لا يخدم مصالحها.
فلذلك أرادها “بوتين”حرباً سريعةً، أو كما يُقال بالإنجليزيّة أو الألمانيّة “Blitzkrieg” بيلتزكريغ، الحرب الخاطفة، وبالعكس أخذت هذه الحرب فترة طويلة وما زالت حتى يومنا هذا ولا نعلم أيضاً متى تُكتبُ نهايتها .
لقد أزفت ساعة معاهدة بودابست التي تمّ توقيعها عام ألفٍ وتسعمائةٍ وأربعةٍ وتسعين لتُشكِّل أساس المُعادلة الهشّة التي حكمت العلاقة بين روسيا وأوكرانيا ما بعد الإتحاد السوفييتي؛ الإعتراف بالإستقلال مقابل التنازل عن الترسانة النوويّة.
وفي الوقت الَّذِي كانت تستمرّ فيه العمليّات القتاليّة بين طرفيْ الحرب، كانت الأطراف الضالعة فيها، بشكلٍ مُباشرٍ أو غير مُباشر، مُنهمِكةً فيما يُوصَف بحرب السرديّات، سواء لجهة إعطاء عنوان لما يقع على الأرض، فهل هو غزوٌ عسكريٌ أم هي عمليةٌ عسكريةٌ ليس أكثر؟
وهل هي عدوان مُبيَّت أم ضرورةٌ لم يكن مناصٌ من الوقوع فيها؟

بين هذا وذاك ،تُشير الوقائع إلى أنّ فشل المطالب المتبادلة للضمانات الأمنيّة بين موسكو وواشنطن شكَّل مؤشرًا قويًا على أن الأزمة الروسيّة الأوكرانيّة كانت تتّجه بخطواتٍ ثابتة نحو مُنعَطَفٍ دراماتيكي ونحو حربٍ لا مثيل لها.
فهل هي حربٌ بين أوكرانيا وروسيا ؟
أم أنها حرب الإنقلاب الأمريكي على المعاهدات والإتفاقيات بين الطرفين بعد الحرب العالمية الثانية والتي ضمنت أمن حدود روسيا ؟
وهل أمريكا تخطت الخطوط الحمراء سهواً أم مَحت تلك الخطوط من خارطتها لإنشاء خطوط جديدة بقيادتها ؟
وهل فعلاً ستنتصر أمريكا على روسيا في أوكرانيا وتفرض شروطها ، أم أنها ستترك الأوكران لوحدهم بوجه الوحش الروسي ؟
كل تلك الأسئلة سنجدُ إجاباتها في المستقبل ولكن الجواب الحقيقي الذي بين أيدينا ، بأن الحرب الأمريكية الروسية على أرض الأوكران ما زالت مستمرة ولا أحد منا يعلم متى النهاية ومن المنتصر ومن المسيطر •

خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *