الراعي ترأس قداس اثنين الفصح على نية فرنسا: نصلي لكي تبقى رأس حربة في كل معركة من أجل الحرية وحقوق الإنسان
ترأس البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي في الصرح البطريركي في بكركي، القداس السنوي التقليدي الذي يقام على نية فرنسا يوم اثنين الفصح، عاونه فيه المطرانان بولس مطر وحنا علوان، بحضور السفيرة الفرنسية آن غريو والبعثة الدبلوماسية في السفارة.
وقال الراعي: “لقد دأب المسيحيون المعمدون باسم يسوع المسيح ان يعايدوا بعضهم البعض صبيحة عيد الفصح قائلين “المسيح قام حقا قام” وها نحن اليوم نتوجه اليكم بالمعايدة ذاتها في اثنين الفصح حيث نحتفل في البطريركية المارونية بالقداس التقليدي على نية بلدكم العظيم فرنسا رئيسا وحكومة وشعبا. واذ تمسك المسيحيون بتحية الخلاص هذه، انما لأنهم آمنوا بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات وكان هذا صلب ايمانهم ورؤيتهم للعالم وللإنسانية في مسيرتها نحو الخلاص. في الواقع وبحسب الأناجيل وتعاليم مار بولس فان حياة السيد المسيح لم تنتزع منه بالقوة وانما هو من وهبها من اجل خلاصنا ومن اجل تجدد الخليقة التي لم تعد قادرة على التحرر من الخطيئة والانتصار على الشر لوحدها. ولقد ذهب بولس الى حد القول ان المخلص يسوع اصبح آدم الجديد الذي من خلاله دعيت البشرية المخلصة الى ان تتكون وتتحول. وبفضل قيامة المخلص تحول الصليب الى جسر عبور يتيح المصالحة مع الله ومع البشر ليجدوا اخوتهم الضائعين ويستمتعوا في حياتهم بسلام حقيقي وعميق”.
أضاف: “لقد غلب المخلص الشر آخذا على عاتقه تغيير الإنسان القديم داخلنا وارتداء حلة الإنسان الجديد. وهذا الإنتصار مدعو لأن يتعمم ليشمل الإنسانية فتبنى مملكة الله، وهو بحاجة الى كل واحد منا لكي نصبح صانعي سلام ونبذل جهودنا لنحول حياتنا الى رسالة لخدمة الأخوة والسلام. فلقد علمنا المسيح باعماله ان الأخوة هي اساس السلام. الإنجيل يقدم لنا امثولة جميلة تتعلق بفكرة الأخوة العظيمة بالنسبة لكل البشرية وهي ايضا عزيزة بالنسبة لفرنسا التي تعتمدها مع الحرية والمساواة في شعارها الوطني. ولكن المؤسف انه ومن خلال واقعة ذكرت في الكتب فان اول الأخوة في التاريخ قد قتل اخاه. انه قايين الذي انهى حياة اخيه هابيل تحت ذريعة ان الله يقبل تضحية اخيه اكثر من تضحيته. من هذا التعليم نستخلص ان الأخوة التي هي من اجمل افكار العالم عليها ان تتجسد في الواقع وفي الوقائع. قايين اجاب الله الذي سأله عن مكان اخيه بخفة قائلا:وهل انا حارس لأخي؟” والله يقول لنا في الواقع ان علينا جميعا ان نكون حراسا لإخوتنا واننا جميعنا مسؤول عن بعضنا البعض. والا وفي غياب التضامن ما من عالم يقوم ويصمد وما من حياة تجد السلام”.
وتابع: “لقد قلب يسوع منطق قايين الذي قتل اخيه فمات هو على الصليب من اجل اخوته لإعطائهم الحياة وضحى بنفسه من اجل خلاصهم. لقد اتى لا ليحكم او ليستعبد الآخر وانما ليكون خادما لإخوته الى الممات. وهكذا اصبح مثالا علينا الإقتداء به اذا اردنا معه خلق عالم اخوي وسلمي. وهنا نجد مفتاح تفسير ما يدور في عالمنا من مآسي دموية تملأ سيرة التاريخ في الشرق كما في الغرب. وما يحصل في التجربة الإنسانية انما هو استمرار للصراع بين السيطرة والتضامن. قديما كنا نتحدث عن جدلية السيد والعبد واليوم يجب كسر هذا المنطق واستبداله بمحاربة السيطرة لصالح الأخوة واعتماد خيار التضامن بدل العداوة والإستبعاد. يدعونا المسيح القائم من الموت الى اعادة عقارب املنا الى الساعة. فهو يملأ بالسعادة قلوبنا وبالقوة ارادتنا ويجدد دعوته لكي نصبح حقا اخوة واخوات وننشر الأخوة التي يستهزئ بها كل قايين في العالم. انه يذكرنا باستعداده للمجيء والمساعدة عندما نطلبه وهو جاهز لمساعدة رؤساء العالم الذين يريدون السلام”.
وختم: “اخوتي واخواتي كونوا على ثقة بان الإقتصاد ليس هو من سينقذ العالم وانما خلاص العالم يأتي من قيم الحب والتضامن والعدالة التي وحدها تعطي القيمة لحياتنا. ونحن نعلم جيدا كم ان فرنسا تعمل من اجل السلام في اوروبا وفي منطقتنا الممزقة وكيف انها تستجيب لعهد معموديتها. نحن نصلي على نيتها لكي تبقى رأس حربة في كل معركة من اجل الحرية وحقوق الإنسان والشعوب على الأرض. ولنصلي من اجل لبنان سائلين الله نعمة ان ينبعث وطننا من جديد من تحت الرماد وان يجد دوره في المنطقة وفي العالم”.
وبعد القداس أقام البطريرك مأدبة غداء على شرف السفيرة الفرنسية وأركان السفارة، وألقى كلمة قال فيها: “نكرر شكرنا وامتناننا لما تبذلونه من جهود متواصلة في مهمتكم التي اولاكم اياها فخامة الرئيس ايمانويل ماكرون للوقوف الى جانب لبنان في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها ودعمه له حتى يستعيد حياته الطبيعية ويجد مكانه الخاص في المحافل الدولية. وسط هذه الظروف المعقدة ساستحضر عبارة لSaint Exupery : يقول فيها من يحمل في قلبه القوة والعزيمة فهو الرابح وبما اننا في هذه الأوقات الصعبة متعطشون للتغلب على صعوباتنا والإنتصار على الالم الذي ينهشنا يمكننا ان نستخلص من هذه العبرة درسا لمقاومة اي استقالة قد تقودنا الى المحاكمة امام شعبنا واجيالنا الجديدة”.
أضاف: “مع فرنسا وبفضل مساهمة حكومتها في مؤتمر سلام فرساي في العام 1920 تمكنا من انشاء دولة لبنان الحر والسيادي. التحدي لم يكن سهلا ابدا. فمنطقتنا لم تعرف منذ قرون الا الإمبراطوريات التي لم تكن حدودها في يوم من الأيام ثابتة ونهائية. ومفهوم المواطنة لم يجد له فيها مكانا. حرية المعتقد والتفكير والتعبير والتصرف لم يكن معترف بها. القوى الغربية اخذت مبادرة في القرن التاسع عشر فرضت من خلالها على الدولة المنهكة اي الإمبراطورية العثمانية تطبيق المساواة بين الأشخاص في بعض الديانات التي كانت تنتمي اليها. وفي هذا الإطار ولد لبنان كدولة مستقلة ليكون استثناء في المنطقة ان من خلال نظامه الديمقراطي او من خلال همه بتأمين المساواة وحقوق وواجبات مواطنيه. هنري دو جوفينيل ترك بصمته وفكره في اول دستور لبناني اعتمد عام 1926، وهو لا يزال حتى اليوم يعتبر النسخة الأكثر تطورا بين دساتير دول المنطقة. انه الدستور الوحيد في الشرق الأوسط الذي يسمح بحرية العبادة وايضا بحرية المعتقد والتفكير للجميع من دون استثناء”.
وتابع: “هذا اللبنان ايضا تمتع بامتياز نشر التعايش الإسلامي المسيحي والمساواة بين الجميع وعدم استبعاد احد عن مقاليد السلطة لأسباب الإنتماء الديني. البابا القديس يوحنا بولس الثاني قال ان لبنان هو اكثر من بلد، انه رسالة ومثال للحرية والتعايش للشرق كما للغرب. ولكن لبنان الذي هو استثناء في المنطقة عاش حياة صعبة في محيط غلبت فيه الديكتاتوريات العسكرية والأصولية التي نبتت في الدول المجاورة. ان غياب حل للمشكلة الفلسطينية ووجود خمسمائة الف لاجئ فلسطيني على ارضه وعدم عودة نحو مليوني وثلاثمائة الف نازح سوري الى بلده هددوا امله بالعيش بسلام وتطور نموذجه الانساني في الحوار والمصالحة. حتى انه لم يعد يحكم بسبب عدم تطبيق اتفاق الطائف(1989) نصا وروحا. شعبه ادرك ان الوحدة الداخلية تسير نحو الإنقسام. فبلد غير محكوم يتحول وبسهولة الى بلد غير مضبوط وبالتالي الى بلد مسلوب مهدد بالانهيار”.
وتابع قائلا: “اليوم نحن على حافة الهاوية وحتى اننا في عمق بئر يطلب فيه الشعب الخلاص. وعلى الرغم من ذلك فاننا لا نفقد الأمل. نحلم ببناء هذا الوطن وعلينا ان نبقى كما قال Saint Exupery اصحاب عزيمة لنكون من الرابحين. فنحن لسنا لوحدنا في مواجهة هذا التحدي فاصدقاؤنا معنا وفي المقام الاول فرنسا الصديقة الى الأبد. ويجب الإعتراف ايضا بان المشكلة اللبنانية مرتبطة بالمنطقة. فالصراعات في الشرق الأوسط تؤثر بقوة على لبنان. اولها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يظهر وكأنه قد وجد حلا في عدد من دول المنطقة بينما يشهد تصعيدا في باقي الدول ولبنان عالق بين هذين الإتجاهين. هناك صراع اخطر في الشرق الأوسط وهو العلاقات بين عدد من الدول الشيعية والأخرى السنية. هذا الصراع له انعكاساته السلبية على لبنان وهو ان لم يجد حلا وخصوصا اذا ما اجبر لبنان على ان يكون طرفا. بينما في الواقع فان دور لبنان هو التقريب بين هذين الطرفين لكي يعم السلام في المنطقة. لكل هذه الأسباب اعدنا تسليط الضوء على تموضع لبنان التقليدي واتخاذه صفة الحياد. دورنا اللبناني يقضي بالتقريب بين الأخوة وليس تفرقتهم. ورسالتنا العمل على نشر السلام المبني على العدالة والحق والمصالحة. هذا الحياد لا يعني ادارة ظهرنا لحروب اخوتنا العرب على العكس علينا ان نتضامن معهم لنخلق شرق اوسط عصري يليق بحضارة عريقة منفتحة”.
أضاف: “واذا اردنا ايجاد حل مستديم للبنان علينا العمل من اجل شرق اوسط متصالح ينظر الى المستقبل. وهكذا نقرأ جهود فرنسا في هذا الإطار فهي تعمل على مساعدة لبنان والمنطقة لإيجاد ركائز سلام قوية ودائمة. نعود الى سينودس الشرق الأوسط الذي انعقد في الفاتيكان في تشرين الأول 2010 والذي شدد على نقطتين لكي تتمكن هذه المنطقة من لعب دورها في العالم وهما الحرية والمواطنة. فحرية المعتقد تساعد على استمرار تعددية المنطقة والمواطنة تفتح الطريق امام الجميع للمشاركة في ما هو مصلحة عامة. ان الأمل برؤية الأشياء تتقدم لم يختف تماما. فلبنان اعتمد تجربة الإنفتاح منذ قرون والمسؤولون الروحيون المسلمون ابدوا رغبتهم بتقدم الحوار مع المسيحيين وبملء الثقة بالنجاح. وهنا نرى في هذا التقارب التزاما بمستقبل افضل للمنطقة. منذ قرن حلمنا معا فرنسيون ولبنانيون بلبنان يمثل المنطق والتقدم في هذا العالم. من الطبيعي مواجهة الصعاب فهذا قدر من هم على حق”.
وختم الراعي: “سعادة السفيرة صبيحة اثنين الفصح نقف امام الله القائم من الموت الذي عزز ايمان رسله واعادهم من جديد على طريق رسالتهم في بناء كنيسة الله. نرفع صلواتنا ليساعدونا على بناء وطننا لبنان . نشكر لكم حضوركم وجهودكم المتواصلة كما نشكر الرئيس ماكرون وحكومته على ما يبذلونه في سبيل مساعدة لبنان للخروج من أزمته”.
وردت غريو بكلمة عبرت فيها عن شكرها لتقديم الذبيحة الإلهية على نية فرنسا ونقلت الى البطريرك تحية الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مثنية على “دور الجماعة المارونية في ترسيخ الإيمان ونقله منذ نشأتها”. وقالت: “على اللبنانيين ان يتمسكوا بالأمل وعدم الخوف على غرار رسل المسيح حتى يصلوا الى الخلاص، والخوف الذي يشعرون به جراء عدم تحمل المسؤولين فيه لمسؤولياتهم الوطنية في ايجاد حل للازمة الإقتصادية والمالية التي يمر بها لبنان والتي لا نهاية لها ووسط تعطيل عمل المؤسسات، يضعف لبنان اكثر واكثر ويفقده دوره الأساسي في المنطقة”.
أضافت: “وتماما كبطرس انتم لا تخافون يا صاحب الغبطة، ففي كل احد يرتفع صوتكم ليقود الى الطريق وتدعون الجميع الى مد اليد لكي يبقى لبنان مثالا للتعددية والتعايش والديمقراطية. ومنذ ثلاث سنوات وانا اتنقل في مختلف المناطق اللبنانية واستمع الى هموم اللبنانيين من دون استثناء وتماما كما تقولون غبطتكم وتدعون ندعم الحوار بين الجميع للوصول الى بر الأمان ونستمع الى نصائحكم وتوجيهاتكم ونعمل بضوئها”.
وتابعت: “لقد اخترتم غبطتكم عشية الفصح جمع النواب المسيحيين في اطار رياضة روحية، احيي هذا الدور المهدئ والبناء لقطع شلل المؤسسات الناتج عن الشغور الرئاسي الذي يعاني منه لبنان. لقد تاكدت ان اللبنانيين تجاوزوا عدة محن ونضجهم لا بد من ان يجعلهم يستمعون الى رسالة السلام والحوار والمسؤولية التي تشددون عليها دائما. وكما ذكرتم غبطتكم فان الوضع صعب في لبنان وقيام البلد ستواجهه تحديات ولكنه ممكن فما من موت في لبنان لذلك يجب الإتكال على امل اللبنانيين وعزيمتهم وشجاعتهم كذلك يمكن الإتكال ليس على اللبنانيين فقط وانما ايضا على وفاء فرنسا التي تؤمن بلبنان موحد بسيادته متصالح مع نفسه ومزدهر وقادر على استعادة مكانه في المنطقة وان يكون صلة الوصل بين المتوسط والغرب. وهذا هو معنى تحركنا الى جانب شركائنا في الإتحاد الاوروبي. وهذه قناعتنا التي نعمل من خلالها في كل القطاعات في لبنان سواء في مجال الامن ومساعدة الجيش او في الإقتصاد والحفاظ على كل هذه المساحات الحرة للتفكير والتعبير بحرية”.
وختمت غريو: “نحن فخورون بتعاوننا هذا مع لبنان ولا سيما على الصعيد الثقافي ودعم الفرنكوفونية وفتح آفاق جديدة ثقافية وتعليمية واكاديمية وتقديم المساعدة في هذا الإطار. لقد لمست في قداس اليوم ثقتكم ومحبتكم لفرنسا التي كانت حاضرة دائما في تاريخ لبنان وتعلقها بالأرض اللبنانية وهي ستبقى وفية للبنان ولمواطنيه. لطالما كان لبنان مصدر نور لهذا الشرق وهو على غرار الملح ان فسد فاي شيء يملحه. انه على مفترق طريق بين النور والظلمة وانتم روح ومصدر هذا النور الذي تدعون اليه بالحوار الذي يشكل هوية لبنان الأولى. غبطتكم اعبر لكم عن امتناننا لكم ولصلواتكم وتقديرنا لشخصكم الكريم لكي تقودوا لبنان الى بر الخلاص”.