الشّهادات التّقديريّة بين السّلب والإيجاب
الشّهادات التّقديريّة بين السّلب والإيجاب
د. حسين أحمد سليم الحاجّ يونس
باحث ومهندس فنّان، رئيس تحرير القسم الثّقافي. عربي من لبنان
الشّهادات التّقديريّة، بمختلف أنواعها ومستوياتها، ما هي إلاّ فعل تكريم لشخص ما، أبدع أو إبتكر شيئا ما، أو قدّم للإنسانيّة خدمة جليلة مُعيّنة، وتكون تقديرا لنبوغه، وتميّزه في الإبداع أو الإبتكار، حيثُ يتمّ منحه شهادة تقديرية، أوّ درعًا تكريميّا، أوّ وسامًا تمييزيّا، من جهة رسميّة أكّاديميّة وذات شأن متميّز، ومسموح لها المنح قانونيّا، ويجب أن يوازي المنح حجم الإبداع أو الإبتكار أو العطاء…
ولا يصحّ لكلّ من هبّ ودبّ، من الشّخصيّات الإضطّرابيّة المرضيّة، أو الجهات غير المُجازة بالمنح، أن تقوم بتقديم درع الإبداع، أو الشّهادة التّقديريّة، أو الوسام التّمييزي، أو الدّكتوراة الفخريّة، أو ما شابه، لمبدع ما، أو غيره، كائنًا من كان، وفقًا للمزاجيّات وتقاطع المصالح الأنويّة الضّيّقة…
فواقعنا الرّقمي، عبر الشّبكة العنكبوتيّة العالميّة للمعلومات ( الأنترنت )، وبالتّحديد عبر منصّات التّواصل الإجتماعي، على مُختلف مستوياتها، ومناهجها، وأهدافها، تشي وتعكس بأنّنا أمام ظاهرة فوضى واسعة، يختلط فيها الحابل بالنّابل، وكلّ من فيها يُغنّي على ليلاه، ويأتينا من كلّ وادٍ عصا لتكريمها، في قضيّة منح الدّروع الإبداعيّة، والأوسمة الإمتيازيّة، والشّهادات التّقديريّة، ومنها شهادات الماجيستير الفخريّة الرّقميّة، والدّكتوراه الفخريّة الإفتراضيّة، والبروفّيسّور الفخري، هذه الشّهادات التي غدت، فعل إسفافٍ وغثاثةٍ، فكثُرت، وهزُلت، وحُقِّرت، وغدت سُخرية…
ولقد دأب عدد من المؤسّسات المدنيّة، الثّقافية والإجتماعيّة والرّياضيّىة والفكريّة، على منح المشاركين في فعاليّاتها، شهادات تقديريّة مختلفة ومتنوّعة، كما ودأب الممنوح لتلك الشّهادة، بعرضها على جميع صفحات وسائل التّواصل الإجتماعي، للتّباهي والمفاخرة والتّنافخ، و(شوفيني يا جارة من أنا)…
موضوع الشّهادات التّقديريّة، قضيّة تستحقّ أن نقف عندها، درسًا وتمحيصًا وتنفيذًا إجرائيّا، والعمل على تشذيبها ونهذيبها وضبطها، لأنّها إكتسحت مساحات كبيرة من النّشاطات الثّقافيّة والمدنيّة بالعموم، حتّى أنّنا بتنا نسمع بأشخاص، ليس لهم أيّ منصب أو نشاط متميّز، ولا هم بنجوم للمجتمع، تمّ منحهم للشّهادات التّقديريّة، ولكلّ من هبّ ودبّ؟!…
وهو ما أدّى لإنتقادات جدّا لاذعة وجارحة، وهو إنتقاد منطقي ومُحقّ، سيّما وبعض الجهات المانحة لتلك الشّهادة، تمنحها عشوائيّا، لأنّها لا تمنحها لمن إجتهد وعمل بجدّ وإخلاص وتميّز عن زملائه، بل تمنحها لكلّ من حضر وليس بالضّرورة ان يكون مشارك بواحدة من الفعاليّات؟!… فما يهمّها هنا هو توثيق تلك الفعاليّة، وتوثيق فقرة تسليم الشّهادات التّقديريّة وعرضها، ربّما على الجهة المانحة لها دعمًا لنشاطاتها…
أنا شخصيّا حصلت على عدد كبير جدّا، من الشّهادات التّقديريّة المُتنوّعة، على مختلف مستوياتها، من قِبل عدد من المؤسّسات والمنتديات والجهات الثّقافيّة والإجتماعيّة والإعلاميّة، لجهدي في مجالات: الفنون الأدبيّة والتّشكيليّة والإعلاميّة والفلسفيّة والنّقديّة، ومنذ البدء، كنتُ مُدركًا بأنّ هذه الشّهادات الرّقميّة الإفتراضيّة، لا تعبّر عن مدى جهدي وبذلي وإنتمائي، ولا تتناسب مع حجم العمل المناط بي، خاصّة وأنا أعمل بجدّ وإخلاص ووفاء، دون إنتظار شكر من أحد، بل أعمل لأنّي أحبّ عملي ونشاطي الثّقافي والفنّي والإعلامي والفلسفي، وأقوم بواجبي الإنساني الأخلاقي، مُساهمة فاعلة في التّنمية المعرفيّة المُستدامة، لتحقيق الوعي الثّقافي والمحبّة والأخوّة والسّلام العادل، من منطلق تطوّعي بمودة ورحمة، تعارفًا وتآلفًا وتكافلاً وتكاملاً مع الآخرين على قاعدة مصداقيّة الإيمان بوحدة وجوهر الأديان…
وهناك جهات مُحترمة، تعتني بموضوع الشّهادات التّقديريّة وتهتمّ بها، وهذا نابع من تقديرهم الحقيقي، لمن سيُمنح هذه الشّهادة، فنراها تبدو أنيقة وبرّاقة، وبها جهد واضح، وحرص كبير، على أن تكون محطّ إعجاب وفرح الممنوحة له… فشهادة التّقدير لا بدّ أن تكون ممنوحة بمحبّة صادقة، وتقدير حقيقي، وليس مجاملة لأحد، أو لسدّ فراغ في الفعاليّة، وحتّى تكون شهادة حقيقيّة للمشاركين، وليس مجرّد شهادة رقميّة إفتراضيّة…
نعم… هي ظاهرة فوضويّة عارمة ومخيفة، في حركة فعل تقديم الشّهادات التّقديريّة، والتّنوّع في طرائق وأساليب التّكريم، ما يجعلنا نتساءل بغرابة واستعجاب عن ماهية الأسباب التي تكمن وراء هذه الظّاهرة، وما طبيعة تقييمنا لها؟! حيثُ لا توجد معايير عادلة، لتنظيم هذه الفعاليّة المهمّة، التي تدخل في إطار تشجيع المبدعين والمبتكرين، على مواصلة إبداعهم وابتكاراتهم…
وغياب الضّوابط أو ضعفها، هو ما أدّى إلى إستفحال هذه الظّاهرة وشيوعها، فأصبح البعض من المُصابين بالإضطّراب الشّخصي، ويملك صفحة منتدى رقمي تواصلي، يُمارس فعل الغثاثة والإسفاف، ضُعفًا وهُزالاً وإبتذالاً، مُتّسمًا بالتّكلّف والتّصنّع اللذين يتعارضان مع الفطرة والسّجيّة أو التّلقائيّة، مُضحّيًا بالوقار الذّاتي في سبيل جذب الأنظار، بأنماطه التّهويليّة الأمور، والمبالغة في تناولها، والتّحايل والمراوغة…
فالشّخص الذي يتمّ تكريمه قد يكون لا يستحقّ ذلك، لكنّه يشعر بالسّعادة والتّميّز مع أنّه في قرارة نفسه يؤمن أنّه لا يستحقّ التّكريم، لأنّه هو أعرف النّاس بنفسه، وهو يعرف بأنّه لم يصنع شيئا متميّزًا ومغايرًا وجدبدًا، يجعله مستحقّا لهذا التّكريم أو ذاك، ومع ذلك هو يستقبل الشّهادة التّكريميّة، أو الدّرع أو الوسام، ويظنّ بأنّ ذلك استحقاق له على شيء يجهله…
والمنظّمات أو المؤسّسات أو الشّخصيّات، التي تقوم بمنح الشّهادات التّقديريّة، أصابها إضطّراب نفسي وشخصي، في حركة فعل التّكريم الفخري الإفتراضي، فتعدّدت وتنوّعت، وحملت أسماء وعناوين، ما أنزل الله بها من سلطان، حتّى أنّ مواقع التّواصل الإجتماعي، أُتخِمَتْ وتنافخت كالطّبول الفارغة، بصور التّكريمات والشّهادات التّقديريّة والدّروع والأوسمة، حتّى غدت بعض أنواع الشّهادات تمنح المُكرَّم صفات أكبر من حجمه، تُثير الشّكوك والإرتياب والإستغراب والإستعجاب، حول مدى صحّتها ومصداقيّتها؟!… ما دفع بالعديد من الأصدقاء، من الكُتّاب والشّعراء والفنّانين والمُفكّرين وغيرهم، الإستهجان لمنح مثل هذه الشّهادات لغير مُستحقّيها، والتي تخلق تحدّيًا إحباطيّا نفسيّا، وعدم ثقة بالجهات المانحة، وفقدان هذه الجهات للعديد من المميّزين والمبدعين فعليّا؟!…
وهنالك منظّمات، أو حتّى شخصيّات، تمنح هذه الشّهادات وتكتب في أعلى الشّهادة (دكتوراه فخريّة من الدّرجة العليا، أو بروفّيسّور درجة أولى أو ماجيستير مميّزة أو سفير فوق العادة أو سفير السّلام…)؟!… وحينما نبحث عن المبرّرات القانونيّة، أو حتّى المعنويّة لمثل هذه الصّفات، التي غالبا ما تٌقَّدم لأشخاص لا يستحقّونها، فإنّنا نتساءل من هو الذي منح هذه المنظّمة تقديم شهادة، تحمل صفة الدّكتوراه الفخريّة وما شابه، وعلى أيّ القوانين إستندت، وما هي المبرّرات التي تستند إليها؟!… علمًا أنّ شهادة الدّكتوراه الفخريّة، وما شابهها، يُمنع منحها قانونيّا في جميع أنحاء العالم، إلاّ من قِبل جامعات رسميّة ومجازة قانونيّا، من دولها، وفي أنظمتها مُدرج منح شهادات الدّكتورة الفخريّة، وما دون ذلك فمنحها من الغير، خرق للقوانين المرعيّة الإجراء، ويُحاكم عليها المانح والممنوح معًا، ولا يجوز للممنوح هذه الشّهادة، إستعمال لقب دكتور أمام إسمه، كون هذه الشّهادة فخريّة وليست أكّاديميّة، وحفاظًا على مستوى اللقب العلمي الأكّاديمي لها… وفي حال إنتحال هذه الصّفة غير القانونيّة، يُعرّض نفسه للمساءلة القانونيّة والسّجن لسنوات عديدة…
فهل من الجائز أن نبقى في ظل هذه الفوضى المزلزلة؟!، وأن نتلقّى أو نتعامل مع هرطقات التّكريم بلا ضوابط قانونيّة أو معنويّة واضحة، وهل يجوز أن يستمّر ذلك دون تشريعات ضابطة؟!، وزيادة الشّيء أكثر من الطّبيعي، سوف تسيء له، وعندما يصبح التّكريم حالة شائعة، لا تحكمها ضوابط، أو تقنيّنات صحيحة، فإنّ النّتائج ستكون عكسيّة تمامًا…
وفق متابعتي لهذه الظّاهرة، وحواراتي الإستقصائيّة مع العديد، من الحائزين على شهادة الدّكتوراه الفخريّة، من جهات عديدة غير قانونيّة، تبيّن لي أنّ البعض من المُكرّمين عشوائيّا، لم يحصل أحدهم على الشّهادة الإبتدائيّة، وتمّ ويتمّ تكريم الكثير بشهادات فخريّة رقميّة تقديريّة رفيعة المستوى، من بعض المنظّمات الرّقميّة التّواصليّة، ومنحتهم شهادة الدّكتوراه الفخريّة من الدّرجة العليا؟!… حيثُ وصل الأمر إلى هذا الحدّ من الإستسهال والفوضى… فماذا بقي وسيبقى للمبدعين المتميّزين والمبتكرين الحقيقيّين؟!… وهل يصحّ أن يتساوى المبدع مع من يدّعي الإبداع؟!، مع القناعة بأن الشّهادة ليست هي المعيار الوحيد للتّميّز، ولكن ليس صحيحًا أن ننثر الشّهادات التّقديريّة والدّروع كيفما اتّفق، مجاملة لهذا أو لذاك من دون استحقاق…
كما أنّ الجهة المانحة لمثل هذه التّكريمات المعنويّة، يجب أن تحمل صفة أحقّيّة منح هذا التّكريم للمتميّزين، وهذا يمكن معرفته من دور المنظّمة، أو المؤسّسة في التّطوير والتّغيير والمساعدة، على دفع النّاس في طريق التّقدم…
فهل هناك حلول ناجعة يُمكن أن تحدّ من تأثيرات حركة هذه الفوضى التي تسبّبت بها، هذه الظّاهرة، التي ضجّ بها العالمين الواقعي والإفتراضي؟!…
ونحن تطرّقنا إلى هذه الظّاهرة، لأنّها خرجت عن جادة المقبول من السّلوك والنّوايا والأهداف، على أن تتمّ عمليّة التّكريم وفق آليّات مقنّنة واضحة، تضمن حقوق المتميّزين بالتّكريم، وتمنع الجهات والشّخصيّات القائمة بالتّكريم، من إستغلال فعاليّة تحقيق مصالح مرسومة مسبقًا…