فرنسا وأفريقيا : بين نهاية ” النهب الإستعماري ” والإستعمار بأقنعة جديدة
يُعتبر يوم السابع والعشرين 27 من يونيو / حزيران من العام 1977 يومًا مُهينًا ومُذِلاً جدًّا بالنسبة لواحدة من أقوى وأعْتى الدول الأوروبية، حيثُ أنهى الإستعمار الفرنسي إسميًّا من القارة الإفريقية ، لتحصل دولة “جيبوتي” على الإستقلال كآخر مستعمرةٍ فرنسيّةٍ في القارة، إلّا أنّ الإستعمار الفرنسي لأفريقيا إستمرّ بصورة أُخرى ونهجٍ مُختلف، ففرنسا وأفريقيا بينهما علاقة غريبة عجيبة ومُعقدة، تمتدّ لحوالي أكثر من 400 عام، لكنها في الفترة الأخيرة أصبحت أكثر تشويقًا وإثارة من خلال دخول أفرقاء متعدّدة بها.
فما هي تلك العلاقة التي تربط فرنسا بأفريقيا ؟ وكيف إستطاعت الأولى بناءُ إقتصادها وثرواتها ونهضتها على حساب شعوب القارة ومن ثروات أغنى قارّة في العالم؟ وما هي الإمبراطورية السرّيّة والخفية التي تملكها فرنسا ولا يعلم بها أحد ؟ وهل إستقلّت الدُول الأفريقية عن فرنسا بالفعل ؟ أم أنّ هذا الإستقلال ما هو إلّا كذبةٌ وخديعة كُبرى ؟.
كانت الإمبراطوريّة الفرنسيّة إحدى أقوى الإمبراطوريات في تاريخ البشرية . وفي أقصى إتساع لها ،كانت فرنسا تُسيطر على 8.5 بالمئة من مساحة الكرة الأرضيّة، من جنوب شرق آسيا وصولاً إلى شرق أفريقيا والأمريكيتين. وكانت فرنسا قوّة إستعماريّة مُهيمِنة، حيث إعتبر الفرنسيون أنفسهم مسؤولين عن إدخال الحضارة للعالم المتخلِّف والبلاد الفقيرة وعلى رأسها أفريقيا.
إلا أنّ هذا الإعتبار لم يكن إلّا شعاراً برّاقاً يخفي وراءه نهمًا وجشعًا إستعماريًّا تحت ظلّ ما يُسمَّى بـ “المهمّة الحضارية”. وتحت شعار وراية إدخال الحضارة لأفريقيا، إنطلقت فرنسا في هجمةٍ إستعماريّةٍ شرسة ووحشيّة لإحتلال وغزو تلك القارة، فتاريخ الهيمنة الفرنسية على قارة أفريقيا قديمٌ ويعود إلى العام 1624 ، حينها بدأت فرنسا بإحتلال مناطق صغيرة في دولة السنغال، إلّا أنّه سُرعان ما إكتشف الفرنسيون مدى الثروات الطبيعية والغنى الذي تتمتّع به أفريقيا، عندئذٍ بدأ الإستعمار الفرنسي يأخذ تدريجياً مُنعَطفًا أكثر منهجيّة.
وكانت البداية الحقيقية لفرنسا في أفريقيا مع إحتلال الجزائر في العام 1830 حيث إتّخذتها نقطة إنطلاق لإستعمار بقيّة الدول في القارة الغنيّة، فإحتلّ الفرنسيون “ساحل العاج” عام 1843 ، و”تونس” عام 1881 ، و”بنين” و”مالي” بعد ذلك بعامين، و”غينيا”والنيجر” عام 1890، وتوالى سقوط البلاد الأفريقية الواحدة تلو الأخرى إلى أن إبتلعت فرنسا غرب أفريقيا بالكامل مع حلول العام 1920.
وهل لك أن تتخيّل كيف أخذ الفرنسيون من أفريقيا كلّ شيء حرفيًّا، فلم ينهب الفرنسيون المواد الخام وثروات القارة فقط، بل سرقوا أيضًا البشر، حيث قاموا ببيع خمسة ملايين وثلاثمائة ألف أفريقي كعبيد، وتصديرهم كسلعة للعمل بالسخرة في المستعمرات الفرنسية في الأمريكيتين، إضافة إلى أنّهم أرغموا ملايين الأفارقة على المشاركة في الحروب، التي كانت تخوضها فرنسا في الحرب العالمية الأولى والثانية، ووضعوا الأفارقة في الصفوف الأولى، وعلى الجبهات المُتقدمة، حتى يُقتَلوا فداءً للمستعمِر والمُستعبِد الفرنسي.
وكما نتج عن الإستعمار الفرنسي الإجرامي ملايين الضحايا في كافة أنحاء القارة، فعلى مدار قرنٍ كامل خضعت أراضي عشرين دولة أفريقية حاليّة – أي ما يُعادِل نصف دُول القارة الأفريقية تقريبًا – للإستعمار الفرنسي، ولكن هذا لم يكن مجرّد أمرٍ مضى وتاريخٍ قد إنتهى، فلم يختلف الوضع الحالي عن سابقه، ولم تحصل أفريقيا على الإستقلال بشكل تام وحقيقي.
إذ هناك ما يُسمَّى بالإمبراطورية السرّيّة، وهي موجودة على أرض الواقع، ولكن بصورة غير رسمية، ففرنسا وحتى يومنا هذا لا تزال تحتلّ أربع عشرة دولة أفريقيّة ، لكن ليس في صورة ونمط الإحتلال التقليدي المعروف، والذي إنتهى زمنه، وإنّما في صورة الإحتلال الإقتصادي أو ما يُسمّيه العلماء بالإستعمار الحديث.
فما معنى هذا الكلام ؟ وكيف نشأت هذه الإمبراطورية ؟ وما هي هذه الدول؟
في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك موجة كاسحة لحركات الإستقلال والنهضة الوطنية وإنهاء الإستعمار، وقد إمتدّت عبر قارة أفريقيا خاصّة، وفي العالم عامة، وعلى الرغم من المشاكل التي عانى منها الفرنسيون بعد الحرب، فإنهم كانوا حريصين على الحفاظ على إمبراطوريتهم الإستعمارية في أفريقيا بأيّ ثمن. حيث إستخدمت فرنسا القوّة العسكريّة، وقمعت مُحاولات الإستقلال، إلّا أنها فشلت أمام حركات المُقاومة البطولية، مثل الثورة الجزائرية ونضالها البطولي ضد الإستعمار الفرنسي.
هذا الأمر أرغم فرنسا على منح الإستقلال لمُستعمراتها في العام 1960 ، وبدأ حينها الفرنسيون يفكّرون في حلٍّ جديدٍ ، لا زالت نتيجته وتأثيراته موجودة حتّى اليوم. ويمكن تسميته بالخدعة العبقريّة، حيث قررت فرنسا الإحتفاظ بإمبراطوريتها في غرب ووسط أفريقيا ، من خلال خطّة خبيثة ولكن في منتهى البساطة.
وكانت هذه الخطة وبإختصار شديد ، تستند إلى منح الدول الأفريقية إستقلالها عن فرنسا ، ولكنه إستقلال منقوص ومشروط على الورق فقط، حيث تظلّ فرنسا إمبراطوريّة على أرض الواقع، وكان عَراّبُ هذه الخطة حينها الرئيس الفرنسي “شارل ديغول“.
فقد أيقن “شارل ديغول” أنّ فرنسا وسُمعتها ومكانتها مُرتهنة بقدرتها على تأمين إحتياجاتها من المواد الخام وبأبخث الأسعار ، وبناءً عليه أنشأ منظومته الإستعماريّة الجديدة في أفريقيا ، وأوكلها إلى رجلينِ وهُما :
“بيار غيوما ” وزير المحروقات ، و” جاك فوكار ” أمين عام الأليزيه والمهندس الحقيقي لشبكات فرنسا أفريقيا : كشبكة ” فرانس أفريك” .
وخلال فترة قصيرة أصبحت هذه الشبكات الصيغة الحديثة للإستعمار الفرنسي، مع حقيبة مهام خطيرة لا تخضع أبداً لمؤسسةِ السياسة الفرنسيّة أو لوزارة الخارجيّة ، بل تُدار مباشرة من الرئيس الفرنسي .
ومن أبرز هذه المهام :
– تدبير الإنقلابات أو إفشالها .
– تعيين الرؤساء أو الإطاحة بهم .
– تمويل حركات التمرّد أو مُحاربتها .
– الإغتيالات السياسيّة .
–جملة أهداف كانت تُحرِّك مؤامرات شبكة “فرانس أفريك ” في أفريقيا ومنها :
* الحفاظ على تدفّقات موارد الطاقة والمواد الخام ، وعلى رأسها اليورانيوم .
* ضمان شبكة تصويت مُوالية للفرنسيين في المؤسّسات الدوليّة .
* إيقاف التوسّع الشيوعي في أفريقيا إبّان الحرب الباردة .
ومع وصول الرئيس الفرنسي “ساركوزي” إلى الحكم، دُشِّنت حقبة جديدة من الإستعمار الإقتصادي ، وذلك عبر أباطرة الصناعة الفرنسيّة مثل : “بلورييه ” ، “بويج” ، و”توتال” .فقد عمل مبعوثاً لحماية مصالحهم منذ اللحظة الأولى .
وفي عهد الرئيس الفرنسي الحالي ” إيمانويل ماكرون ” لا بوادر لإيقاف الهيمنة الفرنسيّة على القارة السمراء . إذ لا تزال القوّة العسكريّة الفرنسيّة تتمركز في ثمانية بلدان أفريقيّة على الأقل. ولا تزال جحافل الهيمنة والإستعمار الإقتصادي جليّة من خلال الشركات الفرنسيّة : ” توتال إنرجي – كونسورتيوم ، فينسي كونسينيون ، سوجا ساتوم ،ميرديان – ترانسديف ، ماتيير ، فولتاليا ، توتال وشركة GE GRID SOLUTION , أورانو أريفا…..” وذلك عبر سيطرتها على العقود الجديدة في معظم المناطق الأفريقيّة الناطقة بالفرنسيّة .
في وقتٍ لا يكُفُّ فيه الرئيس الفرنسي عن إلقاء المحاضرات على مسامع الأفارقة حول تجاوز آثار الإستعمار وفتح صفحةٍ جديدة مع القارة السمراء . وما أكثر الوعود !
فما هي الدول الأفريقية السيئة الحظ ؟
–إنّ هذه الدول عددها أربع عشرة دولة أفريقية : السنغال، غينيا، بيساو، ساحل العاج، بوركينا فاسو، التوجو، بنين، مالي، النيجر، تشاد، أفريقيا الوسطى، الكاميرون، جمهورية الكونغو، الغابون وغينيا الإستوائية، حيث ما زالت فرنسا تتحكّم بها من خلف الستار حتى اليوم.
فعندما كانت كل دولة أفريقية تحصل على إستقلالها من فرنسا كان يتمّ إرغامها على توقيع إتفاقيّة تعاوُن مع المُحتل الفرنسي، ولكنها في الحقيقة هي إتفاقية إستعمار بوجه جديد.
فقد فرضت فرنسا على تلك الدول في هذه الإتفاقيات شروطًا قاسية جدًا على المستعمرات السابقة .
فعلى سبيل المثال:
– إشترطت فرنسا إعتماد اللغة الفرنسية هي اللغة الرسميةّ للبلاد.
– السماح بالوجود الفرنسي والتدخّل العسكري.
– تقييد حركة التجارة للدول الأفريقية في ما بينها .
– منح الشركات الفرنسيّة الأولويّة في العقود الحكومية.
– إرغام الدُول الأفريقية على إستخدام عُملة جديدة : “الفرنك الأفريقي” .
فهذه العُملة ليس لها أيّة علاقة بأفريقيا إلّا بالإسم فقط، حيث يتمّ طباعتها وإصدارها في باريس عن طريق البنك المركزي الفرنسي، وتمّ ربطها بالفرنك الفرنسي ومن ثمّ باليورو، وكلّ الدول الأربع عشرة الّتي تستخدم هذه العُملة مُلزَمةٌ على إيداع 50 % بالمئة من الإحتياطي النقدي بالعُملة الأجنبيّة الناتجة من تصدير المواد الخام الأفريقي، في البنك المركزي الفرنسي ، ولا يُمكن لأيّة دولة من الدُول الأفريقيّة الحصول على أموالها إلا بموافقة من فرنسا الّتي لا تسمح بالحصول إلّا على 15 % بالمئة منها خلال العام الواحد فقط.
وإن إحتاجت هذه الدُول المزيد من النقد، فإنها تحصل عليها على صورة قُروض من الحكومة الفرنسية مُقابل فوائد عالية ، أي أنّ فرنسا إحتالت على هذه الدُول وسرقتها، ومن الممنوعٌ أن يكون لدى هذه الدول سياسة نقديّة مُستقِّلة سواء أكان هذا بعملة مُستقلّة أو ببنكٍ مركزيٍّ مُستقِلٍّ.
ولكن ما هو السبب الذي جعل فرنسا تقوم بهذه الإجراءات
السبب هو الإستمرار في أخذ وسرقة موارد القارة المتمثِّلة في النفط واليورانيوم والذهب وغيرها مُقابل طباعة الأوراق النقديّة لدول تلك القارة والتي ليس لها أي إستخدام وتداول ٍ في العالم الخارجي، وهذا النظام عُرف بإسم نظام “أفريقيا – فرنسا“.
وما الذي جعل الأفارقة يقبلون بكل هذا الإذلال والمهانة ؟ ولماذا لا يُغيِّرون الوضع السيى للقارة ؟
في الواقع لقد رفض الأفارقة هذا الوضع وحاول عددٌ من الرؤساء الأفارقة بعد الإستقلال عن فرنسا الخروج من هذا النظام، ومثال ذلك رئيس غينيا “أحمد سيكو توري الذي حافظ على مكاسب الولاء والإنتماء ” والذي صرّح :”أنّه يُفضِّل أن يكون حُرًّا فقيرًا على أن يكون عبدًا غنيًا.” وقام بإصدار عملة خاصة بغينيا، فما كان من فرنسا إلّا أنّها جعلته عبرةً لمن يُعتبَر من الرؤساء الأفارقة الآخرين، وقامت بخلعه عن الحكم وأغرقت “غينيا” بعُمُلاتٍ مُزوَّرةٍ بهدف تدمير الإقتصاد الغيني، والقضاء على العُملة الجديدة، ممّا أدى إلى إنهيار غينيا بالكامل.
كذلك حاول بعض الرؤساء الآخرين مثل “سيلفانوس أوليمبيو” رئيس دولة “توغو” من العام 1960 حتى العام 1963 ، حيث رفض التوقيع على إتفاقية التعاون مع فرنسا، وأصدر عُملةً خاصةً بتوغو في العاشر من يناير / كانون الثاني من العام 1963، ولكن بعد ثلاثة أيام فقط قامت مجموعة من الجنود المدعومين من فرنسا بإغتياله.
وكان عدد الرؤساء الذين دخلوا في القائمة الفرنسيّة كبيرًا جدًا ، من ضمنهم رئيس “بوركينا فاسو”:” توماس سانكارا” القائد المناضل والثوري الشيوعي والملقب ب تشي جيفارا أفريقيا، حيث هاجم الإستغلال الفرنسي لأفريقيا عام 1984، وكان مصيره القتل أيضًا.
إنّ هذه الحوادث ليست إلّا جزءاً بسيطًا جدًّا ممّا إقترفته فرنسا في أفريقيا، ففي خلال السنوات الخمسين الأخيرة قامت فرنسا بتنفيذ 67 انقلابًا في 26 دولة أفريقية، وكان 16 إنقلابًا منها في المستعمرات الأفريقية السابقة، وبالطبع كان الهدف هو إحكام القبضة الفرنسية على أغنى قارة في العالم، وإختارت فرنسا كلّ الرؤساء الأفارقة في غرب ووسط أفريقيا، وكان من شبه المستحيل أن يكون هناك رئيسٌ لإحدى هذه الدول غير تابع أو غير مدعوم من فرنسا. وكان من أهمّ الأضلاع في خطة فرنسا لنهب أفريقيا شبكة إستخبارات أسّستها فرنسا في القارة السمراء بهدف التحكّم في رؤسائها وإزاحتهم فورًا في حال الشعور بأيّ خطر أو تهديد للمصالح الفرنسية.
ولما كان هذا النظام يفشل في بعض الحالات، كانت فرنسا تسترجع الطريقة القديمة أي التدخل العسكري المباشر. فمنذ عام 1960 وحتّى يومنا هذا قامت فرنسا بغزو أفريقيا ليس مرة أو مرّتين أو حتّى عشر مرّات، بل أكثر من 50 مرّةً خلال 70 سنًة فقط، ومن هنا نعرف ما هو النظام الإستعماري الجديد الذي أسّسته فرنسا بهدف سرقة أفريقيا.
ولكن ما هي المكاسب التي حصلت عليها فرنسا من نهب القارة الأفريقية؟
إنّ من أهمّ بنود إتفاقيات التعاون التي وقّعتها فرنسا مع الدول الأفريقية المستقلة عنها كان دفع تعويضات لفرنسا، حيث إعتبرت أنّ إستعمارها للدول الأفريقية هو نوعٌ من التطوير أو التنمية، فقد شملت بنية تحتيّة، قامت فرنسا ببنائها في هذه الدول خلال فترة إستعمارها. وبما أنّ أفريقيا كانت تطمح إلى الإستقلال، فعليها دفع تعويض لفرنسا كعربون شكرٍ مُقابل إستعمارها لهذه الدول، وبلغت هذه التعويضات مبالغ ضخمة وصلت في بعض الحالات مع دولةٍ مثل “التوغو” إلى 40 % بالمئة من الناتج المحلي، فأصبحت كلّ المُعاملات الماليّة والتجاريّة والنقديّة، الخاصة بهذه الدول الأربع عشرة ، تمرّ أوّلاً عبر فرنسا.
لا شكّ أنه ومن دون أفريقيا لأصبحت فرنسا وعاصمتها باريس المعروفة بمدينة النور مُظلِمةً، ولكانت مدينة الظلام التام ، وسبب ذلك أنّ 70 % بالمئة من الكهرباء التي تنتجها فرنسا مصدرها محطات الطاقة النووية التي تحتاج إلى اليورانيوم الموجود في النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغيرها، وفي هذه المناجم يعمل الأطفال والنساء في ظروفٍ غير إنسانية لإنارة فرنسا، في حين أن أغلب هذه الدول الأفريقية مثل النيجر ومالي لا يوجد فيها كهرباء من الأساس.
إنّ فرنسا ستُظلِم وتتحول إلى مدينة الظلام بلا شك، لو أنّ هذه البلاد قامت بقطع اليورانيوم عن فرنسا بشكل تام، والأمر لا يقتصر على الطاقة فحسب، فمن المفارقة أنّ الدولة الفرنسية التي لا يوجد فيها مناجم ذهب نهائيًا تحتلّ المرتبة الرابعة عالميًا بإحتياطي من الذهب يُقدَّر بـ 2436 طنًّا، أمّا “مالي” التي يوجد فيها 860 منجم ذهبٍ وتنتج 70 طنًا سنويًا من الذهب، فيبلغ إحتياطي الذهب فيها صفر، وسرّ ذلك أنّ كلّ ما تنتجه “مالي” من ذهب يذهب إلى فرنسا.
فهذه هي الإمبراطورية السرية التي تملكها فرنسا في أفريقيا، ففرنسا تعيش حاليًّا من خيرات هذه الإمبراطورية السرّيّة: فاليورانيوم المستعمَل في محطات الطاقة النوويّة الفرنسيّة مصدره النيجر وبوركينا فاسو، حتى الشوكولاتة الفرنسية مصدرها الكاكاو من ساحل العاج، والوقود الفرنسي مصدره نفط الجابون وتشاد.
هذا الأمر جعل البعض يصف حجم أموال الموارد التي يتمّ سرقتها ونهبها من أفريقيا لصالح فرنسا بأكبر سرقةٍ في القرن الواحد والعشرين ، حيث تنهب فرنسا من أفريقيا سنويًا ما يُقدَّر بين 400 إلى 500 مليار يورو، وذلك من دول تُعتبَر هي الأفقر في العالم، ومن بين الدول العشرين الأفقر في العالم تدخل ستة دول منها في نظام الفرنك الأفريقي والتي كانت مستعمرات فرنسية سابقة.
هذه البلاد الفقيرة هي السر الحقيقي وراء كون فرنسا من أغنى واعظم دول العالم، فأفريقيا ذات أهميّةٍ قُصوى لفرنسا، وقد صرّح أحد أهم رؤساء فرنسا السابقين جاك شيراك قائلا: “بدون أفريقيا سوف تنزلق فرنسا إلى مرتبة دول العالم الثالث”، وكذلك صرّح وزير الخارجية الإيطالي عام 2019 قائلاً: “لولا المستعمرات الفرنسية في أفريقيا لكانت فرنسا في المرتبة الإقتصاديّة الخامسة عشرة عالميًّا”، في حين أنّها تُعتبَر سابع أكبر إقتصاد في العالم في الوقت الحالي، وذلك بفضل الثروات الطبيعيّة الأفريقيّة .
وإن تقبّلنا هذا النظام الإستعماري الجديد ، فكيف لنا أن نتقبّل نتائجه الكارثيّة ! ولا أعني هنا الفقر الصادم في أغنى قارات العالم ، بل أن يُترَك بلدٌ عائمٌ على بحرٍ من النفايات المشعّة !
وهذا ما حصل في النيجر ، هذا البلد الّذي يُعدّ ُ سبب الضوء في فرنسا ، فسبعون بالمئة 70 % من الكهرباء الفرنسيّة سببها اليورانيوم من منجم “سومير” في النيجر . فبماذا كافأت فرنسا هذا البلد ؟
المكافأة كانت بأن تركت شركة “أورانو” الفرنسية مُخلِّفات أستخراج اليورانيوم أو الكعكة الصفراء دون تخزين في أحواض مُخصَّصة مُغلقة ، ممّا أدّى إلى تحوّل بقايا اليورانيوم الخام إلى غاز مُشعٍّ يُعرَف بإسم الرادون ، وهو المسبِّب الرئيسي لسرطان الرئة، وتشير التقديرات إلى أن الرادون يسبب ما بين 3 إلى 14 % بالمئة من مجموع حالات الإصابة بسرطان الرئة على مستوى بلد ما ، ومع تقلّص المياه الجوفيّة أُصيبت حيوانات الرعي بأمراضٍ نتيجة تلوُّث المراعي بالغبار المشع.
هذه هي الصورة الجديدة من الإستعمار !! ففي الوقت الحالي تُواجِه فرنسا تحدّيات كبيرة جدًا في الحفاظ على إمبراطوريتها السريّة في أفريقيا ؛ فإنّ الجميع أصبح على علم بحقيقة السرقة الفرنسية للقارة خاصةً مع دخول مُنافسين لفرنسا في أفريقيا مثل روسيا والصين، أو حتى بعض الدول الإسلامية التي تحاول إنشاء تنمية حقيقية وتعاون مع الأفارقة، بالإضافة لمحاولات دول القارة بالتمرّد على فرنسا ، والخروج من هيمنتها ؛ مما يجعل الوجود والإستغلال الفرنسي لأفريقيا مسألة وقت.
بالإضافة إلى مجازر الإستعمار الفرنسي في أفريقيا ومنها :
مجزرة الثامن من مايو / أيار من العام 1945 حين دَمرَّ الجيش الفرنسي 44 قرية جزائرية في 15 يوماً وكانت حصيلتها 45 ألف شهيد جزائري .
التجارب النووية الفرنسية في مدينة رقان الجزائرية الآهلة بالسكان، وكان أول تفجير نووي فرنسي في المنطقة في 13 من فبراير / شباط من العام 1960 عندما أطلقت فرنسا أولى قنابلها هناك والتي حملت إسم “اليربوع الأزرق ” وهي قنبلة ملوثة للغاية ضاهت قوتها 4 أضعاف قنبلة هيروشيما ، ولا تزال الآثار السلبية لهذه التجارب مستمرة بين الأجيال المتعاقبة لسكان منطقة رقان الجزائرية .
مجزرة كبكب . إذ دعا القادة العسكريون الفرنسيون في 15 نوفمبر / تشرين الثاني من العام 1917 ما يقارب 400 عالم وزعيم محلي مسلم من كافة ربوع تشاد لمناقشة حلول وسطية، تتعلق بإدارة البلاد، ودون سابق إنذار تعرض المجتمعون لهجوم مجموعة من المسلحين بالأسلحة النارية والسواطير وقتلوا كل المدعوين، وعلى إثر تلك المجزرة إستولى الفرنسيون على تشاد بعد أن أزاحت القوات الفرنسية كل مقاومة عسكرية أو ثقافية.
وفي الخامس من شهر أغسطس / آب من العام 1907 قامت القوات العسكرية الفرنسية بعملية ضد مدينة الدار البيضاء، فقصفت البوارج الحربية شوارع المدينة مما أدى إلى إستشهاد نحو 6 ألاف مغربي من أصل 30 الف نسمة آنذاك، ودُمرت جميع احياء المدينة ما عدا الحي الأوروبي، الذي بقي آمناً وسليماً نظراً لأنه كان يضمُ السفارات والقنصليات الأوروبية بالمغرب.
وفي ليلة 29 إلى 30 يناير /كانون الثاني من العام 1952 وإثر إندلاع المقاومة الوطنية التونسية المُسلحة إرتكب جيش الإحتلال الفرنسي مجزرة تازركة بولاية نابل التونسية بقيادة جون دوهوت كلوك، وذلك بإخراج رجال القرية من بيوتهم وتجميعهم في بطحاء تحت الحراسة المُشددة، ثم إقتحم الجنود الفرنسيون البيوت وأغتصبوا النساء التونسيات ، ثُم دهسوا الرُضع بالسيارات العسكرية والمصفحات الفرنسية.
فهذه هي قصّة فرنسا مع مُستعمراتِها السابقة وتُراث مئات السنين من الإستعمار، ومن نهب الخيرات والثروات الطبيعية لتلك القارة، ومن الإستغلال حتى للثروات البشرية وإستعبادها وقتلها وتجريدها من حقوقها ومكتسباتها الوطنية ومن إستغلال خيراتها لبلادها !
فهل ستتمكّن فرنسا من الحفاظ على هذه الإمبراطوريّة السرّيّة ؟!
أم أنه آن الأوان لطردها ومُعاقبتها ومُحاسبتها على ما إقترفته في أفريقيا ؟!
وهل بدأ الحساب العكسي لمحاسبة فرنسا على جرائمها بحق البشر والثروات والحجر في القارة الأفريقية ؟
وهل حسم الأفارقة الأمر وشدوا الأحزمة لإستنهاض شعوبهم في ثورة ضد الظلم والقهر والإضطهاد الفرنسي لشعوبها وإقتصادها وخيراتها؟ .
أم أن ما يحصل هو نتيجة تحريض من دول إقليمية لها مصلحة في طرد المستعمر الفرنسي وملحقاته من ألقارة السمراء، ليأتي مستعمر آخر بسياسة مختلفة ونهج جديد، ليُكمل الخطة الفرنسية من النهب والسرقة والإستعمار؟
وهل يحق لدولة كفرنسا أفقرت وأذلت وأغتصبت وهجّرت وسرقت الشعوب والمكتسبات والخيرات والحقوق والعائدات لأفريقيا وشعوبها ، بأن تحمل مبادرات سلام وإستقرار للشرق الأوسط وآخرها إلى لبنان تحت حجة إنهاء الفراغ الرئاسي، أم لإنهاء توقيع عقود إستثمارية في لبنان والاسواق الشرق أوسطية بعد خسارتها القارة الإفريقية؟
كل ما طرحناه وما ذكرناه يؤكد ثوابت حقيقة واحدة، أنه يجب على الشعوب التفكير مليا بمصالحها القومية وإنتمائها الوطني للنهوض والإستقرار بدل من حكم الإستعمار.
الصحفي خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل .
عضو نقابة الصحافة البولندية.