أنطون خليل سعادة

دراسة توثيقيّة لعظيم من عظماء بلادنا

 

 

ولد أنطون سعاده في 1 آذار عام 1904 في بلدة الشوير في جبل لبنان.  والده الدكتور خليل سعاده كان طبيباً مارس مهنته في لبنان وفلسطين ومصر. و كان كذلك لغوياً  ألـّف أول قاموس إنكليزي-عربي , ومترجماً بارعاً نقل إلى العربية بعض الآثار العلمية والأدبية الغربية, وروائياً أتقن الكتابة بالعربية كما بالإنكليزية.وهو من رجال النهضة .

والدة أنطون سعاده السيدة نايفة نصير من مواليد الشوير لكنها نشأت في الولايات المتحدة حيث هاجرت عائلتها في أواخر القرن التاسع عشر , وقد سنحت لها الفرصة حيازة الشهادة الثانوية في شيكاغو ممّا مّيزها عن بنات جيلها في الوطن. في زيارة لها إلى لبنان تعرّفت إلى الدكتور سعاده وكان زفافهما.

و في الشوير نشأ أنطون سعاده الى ان انتقلت العائلة إلى مصر حيث دخل أنطون سعاده إلى إحدى مدارس الجالية السورية في القاهرة لسنوات قليلة وبعد وفاة والدته اضطر  للعودة إلى لبنان 1913 .

في ّذلك العام سافر الدكتور سعاده والد انطون  إلى الأرجنتين بعد أن كان أولاده الكبار إرنست وأرثور وشارلي قد التحقوا بخالهم في الولايات المتعدة لمتابعة علومهم. أما أنطون وأخوته الثلاثة الصغار سليم وإدوارد وغريس (عايده) فعادوا إلى الشوير تحت رعاية جدتهم لأبيهم وأحد أعمامهم , على أن تجتمع العائلة فيما بعد.

الحرب العالمية الأولى دهمت العائلة وهي مشتتة بين القارات وانقطعت المواصلات المباشرة بين أنطون وأبيه. وسرعان ما تتابعت الويلات عليه بوفاة جدته وعمه ثم بمرض أخته الصغرى. وكان على ابن العاشرة أن يتدبر وحيداً أمره وأمر أخوته الذين في عهدته. ومع اشتداد المجاعة في جبل لبنان الذي كان خاضعاً للاحتلال العثماني تسنى له ولأخوته الالتحاق بمأوى برمانا للأطفال والنساء حيث أمضى أمرّ سني الحرب.

مع انتهاء الحرب الحرب العالمية  ومع عودة الاتصال بأبيه, سافر أنطون بحراً بمرافقة أخوته الثلاثة إلى الولايات المتحدة حيث التقى بأخوته الكبار وعمل لبضعة أشهر في محطة لسكك الحديد. في هذه الأثناء كان الدكتور سعاده والد انطون قد غادر الأرجنتين في طريقه للقاء أولاده. وعند توقفه في البرازيل وجد فرصة لممارسة التوعية الصحفية والأدبية في الجالية السورية, فقرر البقاء فيها, وكتب إلى أولاده لملاقاته. وهكذا انتقل أنطون وأخوته إلى البرازيل, أما أخوته الأكبر سناً فبقوا في الولايات المتحدة لمتابعة علومهم ولم يتسنّ للعائلة أن تجتمع بعد ذلك.

في البرازيل اختار أنطون أن  أن  يشارك والده في الإدارة وإصدار جريدة الجريدة. وكان عمل أنطون في البداية يقتصر على بعض الأعمال الإدارية والمالية والطباعة. ومع اتساع خبرته وثقافته في ظل عناية والده بدأ يساهم بالكتابة في الجريدة.

خلال عامي 1922 و1923 نشر عدّة مقالات في شأن استقلال سورية وبعض المواضيع الاجتماعية. لكن متطلبات الجريدة اليومية كانت أكبر من قدرة الدكتور سعاده، فرأى أن يوقف الجريدة ويعيد إصدار مجلة المجلة التي كان قد أصدرها خلال سني الحرب في الأرجنتين. وكان أنطون سعاده يقوم بإدارة المجلة ويساهم في كتابة مواضيعها ولا سيما في مسائل السياسة الخارجية التي أولاها اهتماماً منذ ذلك الوقت. وفي المجلة بدأت اتجاهات أنطون سعاده النهضوية التحررية بالظهور، وفيها أيضاً برزت همومه القومية ونزعته التجديدية.

في مقالاته  بدأت تظهر البوادر الأولى لإتجاه أنطون سعاده نحو تأسيس “حركة سورية منظمة تنظر في شؤون سورية الوطنية ومصير الأمة السورية”. ظهر هذا الاتجاه في مقال له نشره في مجلة “المجلة” تحت عنوان “الصهيونية وامتدادها”. دعا فيه بوضوح إلى تأسيس حركة نظامية معاكسة للحركة الصهيونية، وإلّا فإجراءات الحركة الصهيونية سيكون نصيبها النجاح.

وخلال عمله في الجريدة أولاً ثم في المجلة انكبّ أنطون على الدراسة والقراءة، فدرس البرتغالية والألمانية والروسية وتوسع في علوم التاريخ والاجتماع والسياسة. ولم يقتصر نشاطه التحريري على الكتابة الصحفية بل امتد إلى محاولة التنظيم السياسي، فانخرط عام 1925 في مجمع ماسوني سوري يرأسه والده، وحاول الاثنان توجيه أعمال المحفل باتجاه الالتزام السياسي بمشاكل وهموم الوطن لكنهما لم يوفقا فآثرا الاستقالة.

حاول أنطون سعادة خلال عام 1926 تأليف حزب عرف فيما بعد باسم “الرابطة الوطنية السورية”، فتركها وأسس عام 1927 حزب “الوطنيين الأحرار” في البرازيل أيضاً. لكن مصير هذا الحزب لم يكن بأفضل من مصير “الرابطة”. وكانت المجلة قد توقفت مع بداية 1926، فانصرف أنطون إلى التعليم في بعض اللجان التربوية التي أقامتها الحكومة البرازيلية للإشراف على البرامج التعليمية.

في 1930 أنهى أنطون سعاده جميع ارتباطاته في البرازيل وعاد إلى الوطن و بعد إمضاء صيف ذلك العام في الشوير، انتقل أنطون إلى دمشق لدراسة إمكانية العمل السياسي فيها كونها العاصمة التاريخية التقليدية لسورية ومركز المعارضة السياسيةمعة  في وجه الانتداب الفرنسي.  لكنه سرعان ما اصطدم بعقلية السياسيين التقليديين والوجهاء. حينها فكر أنطون أن ينتقل إلى بيروت ويدرس إمكانية العمل السياسي الحزبي فيها.

في بيروت عام 1931 بدأ أنطون سعاده محاولاته لتشكيل حزب جديد فأعطى دورسا خاصة باللغة الألمانية لطلاب الجامعة الأمريكية خارج ملاك الجامعة فكانت هذه فرصة له للالتقاء بطلبه الجامعة وأساتذتها.

أما المستوى الثاني لعمله فكان في إيجاد المنابر الصالحة لبثّ الأسس العامة لدعوته. لذا كان يحاضر في تجمعات عديدة وجمعيات طلابية مثل “العروة الوثقى” و”جمعية الاجتهاد الروحي للشبيبة” و”النادي الفلسطيني”. وكانت نتصوص هذه المحاضرات تحمل أسس الدعوة بخطوطها العامة لتهيئة الجو الثقافي ــــ السياسي العام من دون الإعلان عن الجسم السياسي الحزبي الذي كان قيد التكوين.
وفي خريف 1932، أسس سعاده “الحزب السوري القومي” بصورة سرية من أربعة أعضاء فقط.  ونما الحزب تدريجياً في ظل عاملي الاعتناق التتابعي والإدخال السري البطيء. وفي عام 1933 أعاد أنطون سعاده إصدار المجلة في بيروت لتساهم في نشر وتوضيح أسس النهضة التي يسعى إليها الحزب. وعلى صفحات المجلة ظهرت للمرة الأولى في الوطن دراسات تحليلية لمعنى الأمة أصبحت فيما بعد نواة كتاب أنطون سعاده العلمي نشوء الأمم. وبعد ثلاث سنوات من تأسيسه، بات الحزب يضم نخبة الشباب المثقف في البلاد. وكانت موارد سعاده المالية ضحلة إذ كان يكسب القليل من مهنة التعليم، لكنه رغم ذلك كان لا يكفّ عن العمل والنضال، قاطعاً مسافات طويلة لتنمية نشاط الحزب في مناطق الجبل والبقاع والداخل الشامي وطول الساحل السوري حتى شماله.

في الأول من حزيران سنة 1935، أقام الحزب اجتماعه العام الاول في بيروت في منزل أحد مسؤولية، نعمة ثابت بصورة سرية . في هذا الاجتماع ألقى سعاده خطاباً مكتوباً هو من أهم الوثائق الفكرية ــــ الثقافية التي تشرح العقيدة القومية السورية وطبيعة النهضة التي يهدف إليها الحزب.
قامت قوات الإنتداب الفرنسي باعتقال سعاده وعدد من معاونيه يوم السادس عشر من تشرين الثاني 1935، بتهمة “تشكيل جمعية سرية هدفها الإخلال بالأمن العام والإضرار بأراضي الدولة وتغيير شكل الحكم”.وصدر حكم المحكمة المختلطة (فرنسية ــــ لبنانية) بسجنه ستة أشهر أكمل خلالها مؤلفه العلمي نشوء الأمم.

عند خروجه من السجن عام 1936، وجد سعاده نفسه أمام عدّة متناقضات على الساحة السياسية والحزبية. لقد أثار انكشاف الحزب الكثير من الاهتمام والإقبال على الانتماء من بعض الأوساط، لكنه في الوقت ذاته دفع بالقوى المناوئة إلى الاستعداد لمحاربته. علنية الحزب جعلته هدفاً واضحاً للقوى المعادية وللمؤسسات الدينية والسياسيين التقليديين.

بعد 6 اسابيع من اطلاق سراحه اعيد الى السجن مرة ثانية .وعند خروجه من الاعتقال وجد سعاده أنّ نشاط القوى المعادية قد أخذ أشكالاً تنظيمية جديدة إذ أخذت تظهر على الساحة السياسية عدة أحزاب طائفية مذهبية. وبعد عمل دؤوب على حلّ المشاكل الحزبية التي طرأت أثناء سجنه، وضع سعاده الحزب على مسار المشاركة الفعلية الكثيفة في الحياة السياسية والثقافية في البلاد. وتمثلت هذه المشاركة عبر الاتصالات السياسية الواسعة وإصداء البيانات والمذكرات في شؤون الانتداب، ومسألة الإسكندرونة، والعلاقات بين الكيانات السياسية السورية، والاشتراك في المؤتمرات وإقامة الاجتماعات الحزبية العلنية في المناطق. وأثار هذا النشاط الباهر مخاوف السلطات المناوئة فاستفادت من حادث بسيط خلال احتفال حزبي في بلدة بكفيا لشنّ حملة على الحزب واعتقال زعيمه.. فدخل سعاده السجن للمرة الثالثة .
تنبه سعاده إلى مخاطر السجن المتكرر على سلامة الحزب وفرص نجاح العمل السياسي، فكان خروجه من السجن الثالث نتيجة “هدنة” بين الحزب والحكومة اللبنانية. وقد استفاد سعاده من ظروف هذه الهدنة لإصدار جريدة حزبية يومية هي جريدة النهضة التي ظهر عددها الأول يوم 14 تشرين الأول 1937.

على صفحات النهضة ظهرت مواهب النخبة الثقافية الشابة التي كان سعاده قد اهتم باستقطابها إلى الحزب. وكان سعاده يكتب بشكل يومي، ويتناول مسائل السياسة الخارجية، ومسائل الأمور الفكرية العامة، ونقد القوى السياسية المناوئة، لا سيما مقالاته في الردّ على البطريرك الماروني، والأحزاب اللبنانية، ومقالاته حول الكتلة الوطنية الشامية.

وفّرت النهضة لسعاده وحزبه منبراً واسعاً في المسائل السياسية والفكرية ووجوداً مميزاً على الساحة القومية. لكن هذا النجاح كان دائماً عرضة لحملات قوى الحكومة وقوى الانتداب.

مع حلول ربيع 1938 بدأت العلاقات بين الحزب وسلطات الانتداب تتأزم وشعر سعاده والمسؤولون في الحزب بقرب عودة حالة الاضطهاد، فسارع إلى مغادرة بيروت  إلى الأدرن بجواز سفر يحمل اسم “أنطون خليل مجاعص” مما مكنه من اجتياز مراكز الحدود دون أن تتنبه السلطات إلى سفره إلا بعد حين. ما إن غادر سعاده بيروت حتى قامت سلطات الانتداب بمداهمة مراكز الحزب بقصد اعتقال سعاده وعطّلت صحيفة النهضة ومنعت العمل الحزبي بشتى الوسائل. في ذلك الوقت، انتقل سعاده من الأردن إلى فلسطين، حيث تفقد فروع الحزب في مدن الساحل الفلسطيني، ثم انتقل إلى قبرص في انتظار اكتمال التحضيرات لرحلته إلى المهاجر السورية.

أمضى سعاده بضعة أسابيع في قبرص غادر بعدها إلى روما ومنها إلى برلين، بدعوة من فرع الحزب هناك، الذي نظّم له محاضرة ألقاها بالألمانية في جامعة برلين. وفي هذه المحاضرة ظهرت للعلن للمرة الأولى أفكار سعاده حول الحدود الشرقية للوطن السوري وموقع جنوب العراق في هذا الوطن.

كان وصول سعاده إلى البرازيل في كانون الأول 1938 حيث استقر في سان باولو مدينة صباه. وخلال الأسابيع الأولى من زيارته التقى سعاده العديد من أعيان الجالية وأبنائها وأصحاب الصحف والمثقفين والأدباء. لكن هذه الحفاوة تبددت حين تبيّن لأعيان الجيالية التقليديين أنّ اتجاهاً جديداً في العمل السياسي وقيادة جديدة في السياسة والأدب والثقافة آخذة في توطين أسسها في المهجر مع دخول الحزب السوري القومي. وتبيّن سريعاً لأعيان الجالية التقليديين أنّ زيارة سعاده ليست زيارة عادية عارضة بل زيارة هادفة مصممة على توجيه جهود الجالية في خطة سياسية دقيقة.

تزامنت هذه التحولات مع تداخل جهود محازبي فرنسا وعملائها وسعيهم مع السطات البرازيلية لتعطيل عمل سعاده في البرازيل. في هذه الأثناء كان سعاده يعدّ لإصدار صحيفة في البرازيل تحمل صوت النهضة تحت اسم سورية الجديدة. وصدر العدد الأول من هذه الجريدة الأسبوعية في 11 آذار/مارس 1939. وفي 23 آذار/مارس 1939 أقدمت قوات الأمن البرازيلي على اعتقال سعاده واثنين من معاونيه بتهمة الدعوة للسياسة الفاشستية والمسّ بسلامة العلاقات الإنترناسيونية للدولة البرازيلية. وسارعت الجهات المثقفة إلى الدفاع عن سعالده فأرسل رئيس جمعية الصحافة في سان باولو رسالة استفهام إلى دائرة الأمن العام. وخلال فترة الاعتقال تقدم قنصل فرنسة بطلب تسليم سعاده لتحاكمه سلطة الانتداب، لكن السلطات البرازيلية رفضت الطلب. وبعد تحقيق قضائي دقيق، تبيّن للمحكمة برائة سعاده من التّهم الموجهة إليه، وأفرجت عنه وعن معاونيه في 30 نيسان/أبريل 1939.

إثر خروجه من السجن غادر سعادة بعد أسبوعين إلى الأرجنتين. وهناك بدأ بالاتصال بالصحافة الأرجنتينية والصحافة السورية وإلقاء المحاضرات والأحاديث في اجتماعات الجالية. وتابع في هذه الأثناء اهتمامه بجريدة سورية الجديدة وأعمال الحزب في الوطن والمهجر.

طال بقاء سعاده في الأرجنتين. ومع حلول أيار 1940 حاول تجديد جواز سفره عبر السفارة الفرنسية هناك، لكن السفارة رفضت ذلك.
وفي حزيران 1940 أصدرت سلطات الانتداب في لبنان حكماً غيابياً قضى بسجنه عشرين سنة وإقصائه عشرين سنة أخرى، فأصبح سعاده نتيجة ذلك شبه أسير ضمن حدود الجمهورية الأرجنتينية لا يستطيع مغادرتها ويكاد إذن البقاء فيها أن ينفد، فسارع إلى التقدم بطلب إقامة رسمية، وقد استجيب طلبه في آب 1941. بسبب هذه التعقيدات الإدارية القانونية اضطر سعاده أن يلزم الأرجنتين حتى عام 1947.
ومع اضطراره للبقاء في الأرجنتين وضرورات العمل الحزبي فيها، رأى سعاده أن يصدر جريدة فيها أسماها الزوبعة، ذلك أنّ سورية الجديدة في البرازيل كانت عرضة لمشاكل إدارية وسياسية مستعصية بسبب شراكة في ملكيتها حالت دون التزامها دائماً سياسة الحزب، ولا سيما اعتماد موقف الا إنحياز في الصراع الدائر بين دول المحور والحلفاء. مع إصدار الزوبعة وجد سعاده منبراً جديداً لآراء الحزب، وعلى صفحات هذه الجريدة الأسبوعية ظهرت أهم كتاباته الفكرية والسياسية. صدر العدد الأول من الزوبعة في أول آب 1940

خلال هذه الفترة تعرّف سعاده بالآنسة جولييت المير، وهي من عائلة طرابلسية كانت قد هاجرت إلى الأرجنتين يوم كان عمرها لا يتجاوز العشر سنوات. وكانت جولييت وأخوها قد انتسبا إلى الحزب في الأرجنتين وأظهرا تفانياً ونشاطاً كبيرين في صفوفه مما قرّب العائلة بأسرها من سعاده. ثم نمت عواطف الحب بين سعاده وجولييت واتفقا على الزواج، وتم ذلك في نيسان/أبريل 1941 ورزقا ثلاث بنات، اثنتان منهن ولدن في المهجر (صفية وأليسار) والثالثة بعد العودة إلى الوطن (راغدة).

مع وجود صحيفتين للحزب في أميركا الجنوبية، وتأسيس فروع جديدة له أخذ الحزب يتحول من حركة جديدة في الوطن يمكن التواصل معها عن بعد، إلى حركة حقيقية في المهجر تواجه القيادات السياسية والفكرية التقليدية في الجاليات السورية. وهكذا ظهر إلى العيان صراع بين سعاده وأقطاب هذه المواقع التقليدية من مثل الشاعر القروي رشيد سليم الخوري والشاعر إلياس فرحات وزكي قنصل وإيليا أبو ماضي وغيرهم. وأفردت الزوبعة صفحات عديدة بقلم سعاده للرد على هجمات هؤلاء على سعاده وعلى الحزب.

لم يكن إلى جانب سعاده مجموع من الشباب المثقف الذي كان قد درس عنه العقيدة والنظام. في المغترب كان على سعاده أن يقوم بمعظم الأمور بمفرده مما أرهقه حتى كاد ينفد صبره. ورغم أنّه وجد بين المغتربين السوريين بعض الأعضاء من ذوي الثقافة العاليه والإخلاص الفريد، إلّا أنّ الكثيرين كانوا إما ضعيفي الثقافة  أو من متربصي الفرص.

ولم تنحصر معاناة سعاده من هؤلاء على الصعيد الحزبي فقط بل طاولت الأمور الخاصة. فمع انقطاع اتصاله بالوطن واتساع مسؤولياته العائلية وضعف وتقطع الإعانات الحزبية لمكتبه، بدأت الضائقة المالية تهدد مقام الزعامة الحزبية ومصير سعاده وعائلته. فاستدان مبلغاً من المال ودخل في شراكة صناعية ــــ تجارية مع رفيقين في الحزب، لكنها لم تنجح.
بعد هذه التجربة، رأى سعاده أنّ عليه أن يقوم بمفرده في العمل، فانتقل إلى منطقة توكومان في الأرجنتين حيث أنشأ محلاً تجارياً استمر في إدارته حتى تاريخ مغادرته الأرجنتين عام 1947.
تضافرت الصعاب على عرقلة العمل الحزبي وأرهقت سعاده وأنقصت نتاجه الفكري وتأخرت الزوبعة عن الصدور. لكنه لم يتوقف عن حض رفقائه على العمل والنضال. ومن بين أقرب الرفقاء إلى سعاده كان فخري معلوف الذي كانت خسارته عام 1945 من أمرّ المحن التي واجهها سعاده في اغترابه القسري.

كان فخري معلوف من أكثر القياديين الحزبيين قدرة على فهم فلسفة سعاده ومعانيها العميقة. وشكلت كتاباته أفضل ما ظهر في تلك الفترة حول النواحي الفلسفية للعقيدة القومية. انتقل فخري معلوف إلى الولايات المتحدة في بداية الحرب العالمية الثانية لمتابعة دراسته الفلسفية واستمر يراسل سعاده ويعمل بنشاط في سبيل القضية. ولكن، مع اتصال فخري معلوف من خلال دراسته وعمله بالجهات اللاهوتية الكاثوليكية، بدأ يتأثر بها، وظهر التغيير. فما أن صدرت مقالة سعاده في أيلول/سبتمبر 1944 حول “نفوذ اليهود في الفاتيكان” حتى كتب فخري إلى زعيمه رسالة يدافع فيها عن المؤسسة الكنسية ويثير مسائل تعارض مزعوم بين القضية القومية والكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها.

راسل سعاده فخري معلوف حول مسائل التمييز بين الإيمان الديني وفلسفة النهضة وعدم تعارضهما، وكان يتعامل معه بصبر طويل علّه ينجح في استرداد هذا المفكر البارز إلى صفوف النهضة. واستمرت هذه المحاولات دون نتيجة حتى 1946 حين أصدر سعاده مرسوماً بفصل فخري معلوف عن جسم الحركة القومية.

وكانت الزوبعة قد توقفت عن الصدور في عام 1943، وكان بذل سعاده جهوداً عديدة لإعادة إصدارها لكن ذلك بقي متقطعاً لأسباب مادية في أكثر الأحيان. وفي أوائل 1946 وصل إلى الولايات المتحدة غسان تويني مفوضاً من قبل إدارة الحزب في الوطن للاتصال بالزعيم. وكانت مراسلات الزعيم مع رفيقه الشاب فرصة للإطلاع منه على حالة الحزب والوطن وفرصة لتوضيح مسائل له في تاريخ الحزب وفلسفته. وفي 1946 بعدما تأمن الاتصال المباشر بين سعاده ومركز الحزب وبدأت ترده نشرات الحزب ومطبوعاته، أخذ يلحظ فيها بعض الأمور الشاذة عن سياسة النهضة وفلسفتها، وفي هذه الأمور المواقف السياسية في خطب رئيس المجلس الأعلى الأمين نعمة ثابت ومقالات عميد الثقافة فايز صايغ. ومع أن سعاده كتب إلى الأمين ثابت في هذه الأمور، إلّا أنه رأى تأجيل البحث التام في هذه المسائل حتى العودة إلى الوطن.
بقي سعاده في الأرجنتين الى ان تمكن من الحصول على جواز موقت من السفارة الفرنسية في الأرجنتين سمح له بالسفر إلى البرازيل. وهناك تمكن بمساعدة رفقائه من الحصول على جواز سفر لبناني وذلك بعد قيام الجمهورية اللبنانية .

في أواخر 1946 أنهى سعاده أعماله التجارية وقرر السفر جواً إلى الوطن بمفرده على أن تلحق به عائلته فيما بعد عن طريق البحر وبعد زيارة قصيرة للبرازيل سافر عن طريق البرتغال وأفريقية الشمالية ووصل إلى القاهرة في 18 شباط 1947. هناك التقى برئيس المجلس الأعلى في الحزب الأمين نعمة ثابت وبأسد الأشقر وتباحث معهما في أمر العودة إلى الوطن والموقف السياسي المتوجب اتخاذه في هذا المجال.
في لقاء القاهرة مع نعمة ثابت وأسد الأشقر تبيّن لسعاده مدى التغيير السياسي الذي طرأ على أعمال حزبه، إذ اتخذت إدارة الحزب العليا قراراً بحصر عمل الحزب ومهمته في الداخل اللبناني، وبنت على هذا القرار تحالفاتها السياسية.

وفي 2 آذار1947 وصلت طائرة سعاده إلى بيروت، وكان في استقباله حشد شعبي كبير لم يعرفه لبنان من قبل. خلال ذلك الاستقبال التاريخي ألقى سعاده خطاباً حدد فيه بوضوح موقفه من الاستقلال اللبناني وقضايا الوطن ومستقبل الحزب. وأمام هذا التحديد الواضح لم يكن من المستغرب اندفاع أعداء الحزب في حملة سريعة لتعطيل النتائج المتوقعة لعمل الحزب بعد عودة سعاده.

وكانت الحكومة اللبنانية قد منعت القوميين من عبور وسط العاصمة بيروت يوم الاستقبال، كما بعث الأمن العام بطلب حضور سعاده ليلاً للتحقيق. ورأى سعاده أنّ وراء هذه التدابير خطة عدائية، فرفض الإذعان لطلب الأمن العام واعتصم في الجبل في منطقة المتن. فأصدرت الحكومة مذكرة توقيف بحقه وسيّرت الحملات البوليسية إلى الجبل بهدف القبض عليه. وهكذا بدأت معركة “مذكرة التوقف” التي استمرت من آذار 1947 حتى تشرين الأول 1947 ولم تنته إلا مع استرداد الحكومة مذكرتها .

كانت غاية الحكومة آنذاك واضحة: إبعاد سعاده عن ساحة العمل السياسي خلال الانتخابات النيابية في أيار 1947، وإذا أمكن لفترة أطول. وكذلك مضايقة الحزب بهدف عرقلة نشاطاته السياسية والإعلامية عن طريق حملات الاعتقال وتعطيل الصحافة الحزبية. فقد أصدرت الحكومة قراراً بتعطيل جريدة صدى النهضة الناطقة باسم الحزب .

خلال أشهر الملاحقة المتكررة اتّبع سعاده خطة سياسية هجومية على الحكومة والأحزاب الرجعية الموالية لها. فقرر خوض الحزب المعركة الانتخابية، وأرفق ذلك بإصدار سلسلة بيانات سياسية إلى الشعب يشرح فيها برنامج الحزب الانتخابي وحقيقة صراعه مع الحكومة. كما قابل في مراكز اعتصامه عدداً كبيراً من الصحفيين المحليين وممثلي الوكالات الصحفية العالمية، واتصل به العديد من سياسيي المعارضة. وبالرغم من الملاحقة تنقّل سعاده شخصياً في مدن وقرى الجبل اللبناني متحدثاً إلى المواطنين ومجتمعاً إلى أعضاء الحزب. وأمام صلابة موقف سعاده والالتفاف الشعبي حوله والاهتمام الإعلامي الواسع بالمواجهة بينه وبين الحكومة، تراجعت هذه الأخيرة عن موقفها الأول وتمت اتصالات ومفاوضات سياسية كان من نتيجتها أن سحبت الحكومة مذكرة التوقيف وأعلن سعاده انتصار الحزب على القمع السياسي الحكومي.

لم تكن المعركة الخارجية مع الحكومة اللبنانية الأزمة الوحيدة التي واجهها سعاده، بل تزامنت مع مواجهة داخلية مع بعض أعضاء الإدارة العليا في الحزب مثل نعمة ثابت ومأمون أياس وأسد الأشقر وكريم عزقول. فقد رأى هؤلاء أنّ عودة سعاده ومواقفه السياسية تتعارض وسياستهم في التوافق مع القوى الحاكمة في لبنان. ولما وقعت المواجهة بين سعاده والحكومة، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: الإذعان للمسار التصحيحي الذي يدعو إلى العودة إلى ساحة الجهاد القومية الكبرى، أو محاولة إضعاف سلطة الزعامة. فطالبوا بتعديل الدستور للحد من سلطة الزعيم وعارضوا موقف سعاده من الحكومة والخلاف معها واتهموه بالعناد السياسي ودسّوا الشائعات المغرضة ضده داخل الحزب. فوجد سعاده نفسه في صراع خارجي مع الحكومة، وصراع داخلي مع القوى المسيطرة على الإدارة الحزبية العليا. وبقدر ما كان تعامله مع القوى الخارجية حاسماً بقدر ما كانت معالجته للمعركة الداخلية متروية وهادئة. لكنه وجد بعد حسن أنّ استمرار المعركة الداخلية يعرّض مصير الحزب إلى خطر خسارة المعركة الخارجية فقام بحلّ الإدارة العليا في الحزب، ثم مع استفحال المعركة الداخلية وخروج أخصامه إلى العلن، قام بطرد هؤلاء وعلى رأسهم نعمة ثابت ومأمون أياس وأسد الأشقر الذي ما لبث أن عاد إلى صفوف الحزب بعد فترة قصيرة.

بانتهاء معركة “مذكرة التوقيف” ومع حسم الخلافات الداخلية في الحزب أصبح بإمكان سعاده العمل العلني لمواجهة الأوضاع القومية المصيرية، وبخاصة في فلسطين فمع اقتراب ذكرى وعد بلفور في تشرين الثاني 1948، وترافقها مع اجتماع منظمة الأمم المتحدة للنظر في مسألة فلسطين، دعا سعاده إلى مهرجان شعبي كبير يقام في بيروت لإظهار الرفض والمقاومة لما يجري في فلسطين، لكن الحكومة اللبنانية رفضت السماح للحزب بإقامة المهرجان فاستعاض عنه ببيان من سعاده حول مسألة فلسطين أعلن فيه حلولاً عملية لمواجهة الكارثة القادمة. وبحلول آخر تشرين الثاني،  أصدرت منظمة الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين. وعبثاً حاول الحزب الاشتراك الواسع في الأعمال العسكرية الدائرة في فلسطين إزاء رفض الحكومة تسليح القوميين حتى في أشد فترات القتال. لكن القوميين شاركوا في المعارك كلما سنحت لهم الفرصة وسقط من بينهم عدد من الشهداء. ومع وقوع النكبة وقيام الدولة اليهودية في جزء من فلسطين رأى سعاده أنّ الاعتماد على القوى السياسية الحاكمة لإنقاذ فلسطين أمر دون جدوى، وبدأ العمل بهدوء لتشكيل جهاز قيادي حزبي من بين أعضاء الحزب يشكل نواة عمل تحريري مقبل.

إلى جانب نشاطه الفكري العقائدي، قام سعاده خلال 1948 بعدة جولات في المناطق اللبنانية، وراح يخطب في الحشود المجتمعة للقياه ويحثّها على الانخراط في صفوف العمل القومي. ثم أخذ بتوجيه اهتمامه السياسي إلى الداخل السوري فزار دمشق مراراً مجتمعاً بالطلبة والهيئات السياسية فيها. وفي خريف 1948 قام بجولة امتدت من دمشق إلى حمص وحماه وحلب والساحل السوري الشمالي. وكانت جولات سعاده السياسية الحزبية تثير الاهتمام الواسع في أوساط الشعب .

أمام نجاح الأعمال السياسية الإعلامية بقيادة سعاده ازداد الضغط الحكومي على حزبه في لبنان. وعادت قوى الحكومة إلى أسلوب منع الاجتماعات الحزبية العلنية العامة، واشتدت المواجهة حتى كادت تؤدي إلى صدامات خلال احتفالات حزبية في أول آذار 1949.

في أواخر آذار 1949 قام قائد الجيش الشامي حسني الزعيم بانقلاب مسلح في دمشق بدا في حينه وكأنه رد على نكبة فلسطين. لذلك لم يتوان سعاده عن الاتصال بحاكم دمشق الجديد، خصوصاً في ظل العلاقات المتردية للحزب مع الحكومة في لبنان. لكن هذه الاتصالات لم تؤد عملياً إلا إلى وعود مخادعة، كما أنها عجلت في تحرك الحكومة اللبنانية لمباشرة تنفيذ مخططها للقضاء على سعاده والحزب، بالتواطؤ مع حسني الزعيم وجهات خارجية.

وفيما كانت الحكومة بحاجة إلى مأخذ يسهّل لها علنياً وإعلامياً المباشرة بتنفيذ خطة تصفية “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، توفر لها هذا المأخذ في حادث افتعلته الدولة بواسطة حزب “الكتائب اللبنانية”، إذ هاجمت عناصر منه مطبعة جريدة الجيل الجديد وأحرقتها. استفادت الحكومة اللبنانية من هذا الحادث وبدأت قواها فوراً بمداهمة مراكز الحزب ومنازل قيادييه وأعضائه، وألقت القبض عليهم. وبعد أيام قليلة كان ما يقارب الثلاثة آلاف من أعضاء الحزب في السجن، وقسم كبير من القياديين قيد الملاحقة. وبالفعل تمكنت قوى الحكومة من مباغتة قيادة الحزب، ونجحت حملة الاعتقالات الواسعة في إضعاف القدرة التنظيمية واستعدادات المقاومة المنظمة السريعة. لكن قوى الحكومة لم تنجح في اعتقال سعاده الذي وصل بعد أيام قليلة إلى دمشق بشكل سري، وبدأ يعمل في التحضير لعمل منظم يحمي الحزب من الاندثار أمام الهجوم الحكومي الشرس في لبنان. وكانت مقاومة سعاده للحكومة اللبنانية تتطلب أن يكون للحزب شيء من حرية العمل السياسي والعسكري ضمن أراضي الجمهورية السورية كمركز انطلاق. فاجتمع مجدداً بحسني الزعيم من أجل هذا الغرض، ولقي منه استعداداً ظاهراً للمساعدة المعنوية عبر السماح بالعمل السياسي المحدود. عندئذٍ باشر سعاده وأعوانه بالتحضير للمقاومة الشعبية في لبنان يجمع القوى الحزبية الباقية والتخطيط للثورة الشعبية المسلحة.

لم يتلقَّ الحزب أيّة مساعدة عملية تذكر من حكومة حسني الزعيم. وحتى الوعد بتسهيل العمل لم يتحقق كما هو متوقع، فسار الحزب في عملية الثورة الشعبية في لبنان معتمداً على قواه الذاتية، فيما كانت الاتصالات بين بيروت ودمشق والقاهرة تسير باتجاه التقريب بين الحكومتين اللبنانية والشامية. فما أن أعلن الحزب الثورة في الرابع من تموز 1949 حتى وجدت قواه المتوجهة إلى داخل الحدود اللبنانية نفسها وقد وقعت ضحية خيانة حكومة حسني الزعيم لها، إذ مهّد لانهزامها أمام قوى الحكومة اللبنانية بإعلام هذه الأخيرة بخطط القوميين وأماكن تجمّعهم. وفي السادس من تموز اعتقلت قوى الأمن في دمشق أنطون سعاده  وسلّمته إلى قوى الأمن اللبناني التي كانت مكلفة بتصفيته خلال الرحلة القصيرة من دمشق إلى بيروت. لكن يقظة الضمير لدى أحد كبار الضباط المكلفين بهذه المهمة منعت هذا الأمر من الحدوث، ووصل سعاده إلى بيروت مع صباح السابع من تموز. واستمر التحقيق معه حتى الظهر، وانعقدت محكمة عسكرية للنظر في قضية الحزب مباشرة في اليوم ذاته. رفضت المحكمة إعطاء محامي الدفاع أيّة مهلة للتحضير، فتولى سعاده الدفاع عن نفسه، واستمرت المحكمة حتى مساء السابع من تموز. وأصدرت مباشرة الحكم المحضّر سلفاً بإعدام سعاده على الفور. ورفضت الحكومة طلب لجنة العفو القضائية إعطاءها مهلة النظر في الحكم، فجرى إعدام سعاده في الساعة الثالثة والثلث من صباح الثامن من تموز دون السماح له بمشاهدة زوجته وبناته للمرة الأخيرة.

جرت محاكمة سعاده المختصرة وتمّ إعدامه بسرية تامة وفي ظل أشد الاحتياطات الأمنية. لكن وقائع المحاكمة المغلقة السرية ولحظات حياته الأخيرة قبل الإعدام تسرّبت سريعاً، ورأى الشعب في هذه الوقائع ما عهده من شجاعة أنطون سعاده وثباته وتفانيه. وهكذا أصبحت لحظات حياته الأخيرة أمثولة في التاريخ السوري الحديث.

اعدام سعادة :

في مثل هذا اليوم 8/7/1949 حدثت جريمة استثنائية راح ضحيتها رجل استثنائي في تاريخ سوريا كانت جريمته الوحيدة عشق سوريا ورغبته أن تكون دولة عظيمة جديرة بإرثها التاريخي واسمها الذي تحمله هذه البقعة من العالم، وهذا جزء من رواية الكاهن الذي شهد على هذه الجريمة :

(( كان الزعيم يبتسم صامتاً هادئاً مجيلاً عينيه من وجه إلى وجه وكأنه يودعنا مهدئاً من روعنا. هنا انفجرت أنا بالبكاء، وبكى معي بعض الضباط، بل إن أحدهم أجهش وانتحب.

وبعد أن شرب القهوة، طلب لقاء زوجته وبناته، فرفض طلبه
وسئل لمن يريد أن يترك الأربعمئة ليرة التي وجدت معه، فأجاب أنها وقطعة أرض في ضهور الشوير هي كل ما يملك، وهو يوصي بها لزوجته وبناته بالتساوي.
وطلب مقابلة الصحافيين، فأخبروه أن ذلك مستحيل، فسألهم ورقة وقلماً، فرفضوا، فقال: إن لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ. فصرخ به أحد الضباط منذراً: “حذار أن تتهجم على أحد، لئلا نمس كرامتك” فابتسم الزعيم من جديد وقال: أنت لا تقدر أن تمس كرامتي، ما أعطي لأحد أن يهين سواه، قد يهين المرء نفسه، وأردف يكرر: “لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ، وأن يسجلها التاريخ”.
فسكتنا جميعاً، في صمت يلمس سكونه ويسمع دويه.

أصارحك أنني كنت في دوار من الخبل، ومن المؤكد أنني لا أعي كل ما سمعت، ولكن الراهن أني سمعته، سمعته يقول: “أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعد السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد”.

عظامي لترتجف كلما ذكرته.
وحين خرجت إلى الباحة رأيت إلى يميني تابوتاً من خشب. من خشب الشوح لم يخف الليل بياضه. وتطلع الزعيم إلى نعشه فلم تتغير ملامحه ولا ابتسامته.
وقبل أن يرتقي ال”جيب”، طلب للمرة الثالثة والأخيرة أن يرى زوجته وأولاده. وللمرة الثالثة والأخيرة، سمع الجواب نفسه. فتبينت ملامحه، وفي تلك اللمحة العابرة فقط من عمر ذلك الليل لمحت وميض العاطفة خلال زوبعة الرجولة.

وسار ال”جيب” بالزعيم يحف به الضباط وخلفه تابوته، وقافلة سيارات وشاحنات من ورائه وأمامه ملأى بالجنود المسلحة. ولعل مساً من البله اعتراني، فبدا لي أن تنفيذ الإعدام سيؤجل، أو أن عفواً سيصدر. سيطر عليّ هذا الوهم فخدرني، حتى انحرفنا عن الطريق العامة إلى درب ضيقة بين كثبان. ووقفنا في فجوة بين الرمال كأنها فوهة العدم.
وقفز من بينهم، مكبلاً، إلى عمود الموت المنتظر، فاقتربوا منه ليعصبوا عينيه، فسألهم أن يبقوه طليق النظر، فقيل له: القانون.
أجاب: “إنني أحترم القانون”.

وأركعوه وشدوا وثاقه إلى العمود. وكأن الحصى آلمته تحت ركبته فسألهم إن كان من الممكن إزالة الحصى، فأزالوها، فقال لهم: “شكراً”، “شكراً”، رددها مرتين، وقطع ثالثتها الرصاص.
فإذا بالزعيم وقد تدلى رأسه وتطايرت رئته، وتناثرت ذراعه اليسرى، فلم يعد يصل الكف بالكتف إلا جلدة تتهدل.
وكوموا الجثة في التابوت، وتسارعت القافلة نحو المقبرة، وهناك كادوا يدفنونها من غير صلاة لو لم يتعال صياحي. أخيراً قالوا لي: “صل، إنما أسرع، أسرع، صل من قريب”.

ودخلنا الكنيسة، ووضعنا التابوت على المذبح، ورحت أصلي، والدم يتقطر من شقوق الخشب، ويتساقط على أرض الكنيسة نقاطاً نقاطاً، ليتجمع ويتجمع ثم يسيل تحت المذبح.
وخرجنا من المعبد، ووقفت أمام بابه أواجه الفجر الذي أطل وأناجي الله، وأسمع رنين الرفوش ترتطم بالحصى وتهيل التراب.))

هكذا أسدلت تلك الرفوش التراب السوري على تلك الجريمة لرجل ندر أن يحب أحد سوريا كما أحبها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *