إسْتِشْعارُ الحُبِّ والعِشْقْ
بِقلمِ: د. حسين أحمد سليم الحاج يونس / رئيس تحرير القسم الثقافي
تتثاقلُ الأعباءُ الكُبرى على كاهلي, المحْمولِ على راحِلةِ الزّمنِ القدريِّ, فيغدو واهناً مُنْهكاً منْ تثاقُلِ الأعباءِ, في أرْحِبةِ الدّنيا الفانيةِ…
جسدي الذي أرهقتهُ أنواءُ الحياةِ بعذاباتها المُتعاقِبةِ, راحَ ينوءُ رازِحاً تحتَ نيرِ تعاظُمِ الهُمومِ, التي ارتضاها وعيي قناعةً لهُ في استمراريّةِ العيشِ, فهرِمَ هيكلي قبلَ أنْ تهْرمَ آمالي, وشاخَْ جسدي قبْلَ أنْ تشيخَ رُؤايْ…
وتحوّلتْ القِوى الخفيّةُ في جسدي النّحيلِ الضّعيفِ, الذي جفّتْ الدّماءُ في شرايينهِ, ويبِستِ اللّحومُ التي تُغطّي العِظامَ, وازرقّتِ الطّبقةُ الجِلْديّةِ, ترقّقتْ في هيكلي العِظامْ, ذلِكَ جسدي الذي كانَ يضُجُّ بالحياةِ تحوّلَ إلى بقايا رميمْ…
تِلكَ نِهايةُ حُزمِ السّيّالاتِ المادّيّةِ الأرضيّةِ, التي وُلِدتْ منَ الحمأ المسْنونِ, والتي شاءَ فنفخَ فيها اللهُ الرّوحَ للحياةْ…
تتعاظمُ التّكاليفُ والمسْؤوليّاتُ في وِجْداني وضميري, رِسالةَ جدارةٍ إيمانِيّةٍ وقناعةٍ باطِنيّةٍ, تقلْبنَ بها عقلي تسامياً في عالمِ الطّهارةِ, وتعقْلنَ بها قلبي ترقِّياً في معارِجِ تشاغُفِ الّنُبلِ…
فحملتُ في شِغافي الحنينَ الإيمانيِّ شوقاً عارِماً, وتأبّطْتُ تكاليفي قناعةً في عُنْفوانِ النّفسِ, ووعْياً باطِنيّاً وعرفاناً ذاتيّاً, موروثاً على ذَمّةِ التّاريخِ منْ سُلالةِ الطّهْرِ…
وحزمتْ أمري مُتوكِّلاً على بركةِ اللهِ, ورَكِبْتُ شراعي مُنادياً في كّوّةِ الأملِ المُرْتجى, فتهاببتْ الأنسامُ لطيفةً في مرفأ السّلامِ, تعاظمتْ شيئاً فشيئاً عِندَ التِقاءِ الأمواجِ بالرّمالْ, فانْسابَ شِراعي بين ثنايا الأمواجِ الحانيةِ, مُودِّعاً البيوتَ والنّأسَ والمرْفأَ والشّاطيء والرّمالَ, ويمّمْتُ وجهي ناحيةَ قِبلتي التي اخترتُ, منْ بينِ الخوافِقِ, أسترْشِدُ رؤى الآمالِ, بِومضاتِ نجْمةَ الصّبحِ, التي تتماهى مُشْرِقةً في الأفقِ الشّرقيِّ لأرضي…
تركْتُ معقلي رُغماً عن قناعتي, وقسوتُ في قلبي على “حجرِ الحُبلى”, الذي ما زالَ يتفجّرُ دمْعاً حارّاً, باكياً مُنْتحِباً على الفِراقِ…
وما زالَ جاثماً مِنْ هولِ الصّدمةِ الكُبرى, عِنْدَ المدْخلِ الجنوبيِّ لمدينةِ الشّمسِ, مُتّجِهاً إلى الشّمالِ مُشيراً للنّجمِ القُطبيِّ…
وحججتُ تيمُّماً إلى القبْرِ القديمِ, الذي يرقُدُ في روضتهِ الجُثمانُ الخوليُّ الطّاهِرْ, جنوبِ الحجرِ العظيمِ, الذي كانَ يجثُمُ على طرفهِ الشّماليِّ, النّسرُ العربيُّ المُحلّقِ, قبلَ أنْ ينْطلِقَ هائماً في امتداداتِ الفضاءاتْ, زائراً صومعةَ الوليِّ الصّالِحِ الطّائعْ, مُصلّياً في رِحابِ مسْجِدِ نبيِّ الرّشادْ, حيثُ لي في روضتهِ الجنوبيّةِ, أجدادَ وأعمامَ وأخوالْ, أشْجارَ أرزٍ باسِقةْ, ولي بينها فلْذةَ كبِدي الكُلثوميّةَ غرسةَ ريحانْ… أبكيهمْ وأنتحِبُ لِفراقِهِمْ والهِجرانْ…
ارتحلتُ في أرْحِبةِ وبِقاعِ الأرضِ, طِفلاً صغيراً يلعبُ وبراءةَ الأطفالْ, حملتني أمّي القرويّةَ الرّيفيّةَ, هدِيّةَ إيمانٍ وهناءٍ وحُبٍّ وعِشْقٍ لِلحياةْ…
وقدّمتني قُرْبانَ رؤايَ على مذْبحِ الفنونِ والخلقِ والإبداعْ, فولجتُ المتاهاتَ جامِحاً جُموحَ عُنْفوانِ الشّبابِ, وامتطيتُ صهواتَ البّذْلِ والعطاءْ, وأقِمتُ لِلحُبِّ صروحاً, ولِلعِشْقِ بيوتاً, تحِجَّ إليها قوافِلُ العُشّاقِ والأحبابْ…
وكتبتُ الحُبَّ والعِشقَ, بِشاراتَ الماضي والحاضِرِ والمُستقبلِ, تتماهى في دندناتِ على أوتارِ الكلِماتْ, تُهْدى لِكُلِّ عاشِقٍ آمنَ بالله والحُبّْ, وحملَ في كينونتهِ المودّةَ والرّحمةَ من لدُنِ اللهْ, ونادى في أذُنِ الأبديّةِ, اللهُ أكبرْ, حيَّ على المودّةِ, حيَّ على الرّحمةِ, حيَّ على الحُبِّ, حيَّ على العِشقِ, حيَّ على الحياةْ…
اليومَ, يا أبناءَ الحُبِّ والعِشقِ والحياةْ…
أحْمِلُ بقايايْ التي تفْتقِرُ لِكُلِّ شيءٍ, أسافِرُ بِها على راحلةِ العذاباتِ, تُرافِقني الذِّكْرياتُ الأليمةُ المرارةِ, ويعضُدني يراعي الذي أبى أنْ يتركني وحيداً, وبعْضُ الوريقاتِ البيضاءَ, التي تغارُ من بقايا الشَّعْرِ في رأسي الأشيبِ…
أرودُ فراديسَ التّجلّياتِ النّفسيّةَ والرّوحيّةَ, في صومعةَ الحُبِّ المُقدّسِ, المحفورةُ في قلبِ الصّخْرِ الأصمِّ, عِنْدَ تِلكَ القِمَّةِ التي تتماهى عُنفواناً, تتحدّى الغُيومَ والرّياحَ والليّلَ والآفاقْ, وتتعملقُ مُتشامخةً بالإيمانِ والحُبّْ…
أرى من تِلكَ التّلّةِ الشّمّاءَ جُموعَ العُشّاقِ في زُرافاتٍ ووحْدانْ, وأُبْصِرُ قوافِلَ الأحبابْ في طلائعٍ وأفواجْ, ترودُ دروبَ الحياةَ, تحُجُّ صومعةَ الحُبِّ والعِشقِ, وتطوفُ وتشوطُ حولَ بيتَ الحُبِّ والعِشْقِ, وتُقدِّمُ القرابينَ والذّبائحَ على نِيَّةَ الحُبِّ والعِشْقِ لمرضاةِ اللهْ…
تموّجاتِ الأنسامِ الأثيريّةِ وثناياها اللطيفةْ, تحْمِلُ لي ما تحْمِلُ, على صهواتِ التّخاطرِ في البُعْدِ, والإسْتِشْعارِ عنْ بُعْدْ, والتّواصُلِ عنْ بُعْدْ, والتّجلّياتِ النّفسيّة والرّوحيّة والفكريّةِ والسّمعيّةِ والبصريّةِ والمشاعريّة…
بِما تتشاففُ بِهِ الأحاسيسُ طهارةً ونقاءً وصفاءً, فتترقّى شفيفةً خالِصةً في مِعْراجِ العُلا, وتتسامى وامضةً كالضّوءِ المتلألئ في البُعْدِ, المُكوكبِ الإشْعاعاتِ والسّيّالاتِ, النّورِ المُرْتحلِ في امتداداتِ مساراتِ الخيطِ الفِضِّيّْ, المُنْتَصِبِ مُستقيماً صاعِداً بينَ أديمِ الأرَِضِ وأبوابِ السّماءْ…
لِتتماهى عرائِسُ الحُبِّ في أوشِحتها الحورِ البيضاءْ, وتتراءى ملِكاتُ العِشقِ يرْفُلنَ في ثِيابِهِنَّ الشّفيفةِ بياضاً ونقاءً وطهارةْ…
شفافيّتي التي ترقَّتْ بها نفْسي إلى درجاتِ النّعيمِ, بعدَ الإنْعِتاقِ قدراً منْ ريقاتِ الجسدِ في دركاتِ الجّحيمِ…
تحْمِلُني على صهواتِ التّجلّياتِ الرّوحيّةِ, وترْتحِلُ بي في الإمتداداتِ إلى حيثُ تأخذها العنايةُ العُظْمى…
فأُبْصِرُ وأنا أهيمُ انسياباً روحيّاً أثيريّاً في الأجواءْ, وأرى عرائِسَ الحُبِّ والعِشقِ, يتكوكبنَ أنواراً وأطيافاً وهالاتْ, تتوامضُ بالحُبِّ الأطْهرِ والعِشقِ الأقدسِ, فتطمئِنَّ نفسي وترتاحَ روحي, فأتموسقُ بِالحُبِّ وأترنَّمُ بِالعِشقِ, وأسْتلُّ يراعي الحاني, أُمسِّدهُ بِدِفء أناملي النّحيلةِ, وأصِلهُ بِشراييني الدّقيقةِ, وأمُدُّهُ بِمُدادٍ من دمائي القانيةِ, فينتعِشُ ويهتزُّ ويرتعِشْ ويهيمْ…
ويزْرُفُ دُموعهُ الحارَّةِ حمراءَ على الأوّراقِ البيضاءْ, ويكتُبُ نثائِرَ لِلحُبِّ والعِشقِ والحياةْ, بِحُروفَ وخواطِرَ وكلِماتَ وهمساتَ وأغْنياتْ, في ترانيمَ وموسقاتَ وتراتيلَ وتجاويدَ وتهجُّداتَ وتهاليلْ…
يُترْجِمها قلبي ووجْداني في حُروفٍ وكلِماتٍ وتأوّهاتٍ, كأنّها دندناتٌ على أوتارِ الكلماتْ…
أرْفعها هدِيّة عاشِقٍ مُتيّمٍ وَلِهٍ مجْنونْ, في باقةٍ من الورودِ والأزهارِ واللينوفارِ المُقدّسِ, لِلحُبِّ والعِشْقِ والأحبابِ والعُشّاقْ…
إلى مليكة الحبّ والعشق في أمبراطوريّة مدينة الشّمس بعلبك محور الكون…