“الشعبُ .. يُريد .. الطابة” بقلم المهندس باسل قس نصر الله
كلنا ساهمنا في اشعال النارفي أوطاننا، عندما أغلقنا عيوننا عن الفساد وعندما ارتهنّا إلى مدنٍ غريبة نبعث برسائل الموت منها.
كلّنا ساهمنا في ذبح الوطن، عندما نسينا مشاكل تراكمت على مر السنين، وجلسنا نرمي الأخطاء على غيرنا.
كلنا ملامُ، “ولا أستثني نفسي” عندما كان علينا أن نتكلم بصدقٍ فصمتنا نتيجة خلفيات وحسابات سياسية ومصلحية.
كان “نُمير”، إبن أخي “سامر”، ولداً صغيراً لم يتجاوز التاسعة من عمره، عندما بدأت أحداث الربيع العربي عام ٢٠١١، من تونس وليبيا واليمن ومصر ثم سورية.
عندَ بداية هذا الربيع العربي، نَقَلَتْ لنا الأقنية الفضائية مشاهدَ من المظاهرات والاحتجاجات في عدة عواصم عربية، وكانت أشهر الشعارات التي يَتمّ ترديدها هي: ”الشعب .. يريد .. تغيير النظام”، حتى أصبحت الجملة على قدَرٍ من الشهرة، إلى درجةِ يمكن استخدامها كعناوين مسرحية أو دعايات أو غيرها.
أعود الى ابن أخي “نُمير”، عندما كان في الصف الرابع، حيث انتهت في أحد الأيام، الحصة الدراسية في مدرسته بحلب، فخرج هو ورفاقه الى الباحة ليلعب بالطابة أي “الكرة”، وكَكلّ الأطفال، كانت “الطابة” تُنسِيهم كلّ ما يحيط بهم، حتى قُرِع الجرس، وبدأ الأولاد يصطفّون في أرتال ليدخلوا إلى الصفوف، وكان ابن أخي الصغير من المتأخرين، يَسيرُ متثاقلاً، وهندامه “ملخبط”، حاملاً الطابة التي يزيد حجمها عن حجمِ رأسهِ.
أنَّبَتهُ المعلّمة على تأخيره مع زملائه وصادَرَت “الطابة” منه وَدَعَته للإلتحاق بأولادِ صفّه، فمضى متثاقلاً حزيناً.
أنا واثق تماماً أن “نُمير”، الذي كانت ترتسم على وجهه مسحة من الحزن، لم ينتبه خلال الدرس إلى ما تعطيه المعلمة، وكان جلّ اهتمامه في الطابة التي صادرتها منه.
فتحَ دفتره وخط بقلمه بضع كلمات، وارتمست حينها على وجهه مسحة الفرح المشوبة بالدهاء والشيطنة الطفولية، وانتهت الحصتين الدراسيتين، وبدأ الأولاد يخرجون إلى الباحة مجدداً، وكان نمير يجمع رفاقه ويتّفق معهم، ثم اتجه الجميع إلى إدارة المدرسة، ضمن مسيرة طلابية لم يتجاوز عددها أربعة طلاب وهم يصرخون ببراءة في نفس الوقت الذي رفع نمير دفتره الذي كتب عليه:
“الشعب .. يريد .. الطابة”
وتم تكرير الصيحات عدّة مرات، فما كان من الإدارة إلا ان أعطتهم الطابة ليسكتوا، وحتى لا تُفهَم صيحاتهم بشكل خاطىء.
لا شك أن مشاهد المظاهرات والإحتجاجات التي نقلتها الأقنية الفضائية، كان لها تأثير كبير على الجميع، وهي كانت من القوة، أن اطفالاً أصبحوا يقلدونها لأجل تحقيق مطالب لهم.
وفي المقابل تسأل “فيروز” جدها “نصري شمس الدين” في إحدى مسرحياتها مع الرحابنة وتقول له: “جدي، لماذا كل بيان انقلاب يبدأ بالجملة “بعد الإتكال على الله والشعب”؟ فيجيبها الجد “سأكتبها بالعامية” “لأن الله والشعب بيطَولوا (أي يطيلون) بالهن كتير”.
وبين فيروز وجدّها من طرف ومطالبة الأولاد بإرجاع الطابة من طرف آخر، تلعب الأقنية الفضائية على وتر الإثارة اللفظية، وتسقط دول وحكومات ورؤساء، بطابة الثلج المتدحرجة من قمم الأقنية الفضائية المشبوهة وصفحات الأنترنيت الصفراء، إلى ببغاوات الكلمات المكررة.
أسمع اليوم عن عمليات الخطف والاغتصاب.
أسمع عن جنون هيستيري، ودعاة للتعقل ضمن نهر من الدماء.
أسمع عن مؤتمرات وطنية وأرى الكثير من الشخصيات الكرتونية، والفلسفة الخنفشارية.
أرى الكثير ممن يعتقدون أن السحر في أيديهم، وأنهم لو كانوا في سلطة الحكم لـ “جابوا الديب من ديلو”.
وأرى سحنات الوقار المختلط مع بعض حمرة الخدود، والبيبي جونسون، والبريانتين بعد صباغات الشعر المضحكة على رؤوس تتدلى منها كرافاتات الايف سان لوران.
الكثير منهم يحللون ويناقشون ويفتحون أوراقهم الذي كتبها لهم الآخرين، وينفخون أنفسهم كالبالون.
وننسى الوطن الجريح والحرائق التي تشتعل فيه.
نُمير “ابن اخي وصديقي الفيسبوكي – من كلمة الفيس بوك” إجمع رفاقك مرة ثانية وثالثة وعاشرة والف، والعبوا بالطابة لأنها أفضل بكثير مما نفعله نحن باللعب في الوطن.
اللهم اشهد اني بلغت