لقاء مع الشاعر الجميل داوود أبا زيد

حاوره الشاعر والناقد حسين علي الهنداوي

لقاء مع الشاعر الجميل داوود أبا زيد
حاوره الشاعر والناقد حسين علي الهنداوي
تمهـيـد:
الشعر بساط أخضر منمنم، تستريح عليه النفوس، وتنعم بمعانيه وظلاله الوارفة، وهو روح خالد يبث فيه الشعراء مكنونات نفوسهم، ويعبرون فيه عن القضايا الاجتماعية والإنسانية، ويصنعون منه عالما جميلا، ويبث فيه الشاعر أفراحه وأتراحه وأحزانه ومسراته.
ولقاؤنا اليوم مع شاعر من شعراء العربية، حمل على عاتقه هموم الناس، ورسم من خلال قصائده روح المحبة والخير والجمال.
مع الشاعر: ….. ……

س1 – بداية شاعرنا الجميل: حدثنا عن طفولتك وشبابك الشعري، وكيف بدأت كتابة القصيدة؟
ج1 – الأخ الصديق العزيز، الناقد الشاعر الأديب حسين الهنداوي، لك مني أطيب التحية والشكر على هذه الاستضافة اللطيفة، في موقعكم الأدبي الجميل، مع اعتزازي بمكانتكم الأدبية الرفيعة.. وبعد..
ابتداءً أنت الأجمل. ومن منطلق الجمال هذا، فإنني لا أدري من أين بدأ معي حب الجمال على وجه العموم، وحب الشعر على وجه الخصوص، فربما عشقته من قبل أن أعرف اسمه؛ إذ كانت الوالدة – رحمها الله – وهي من الجيل النسوي الذي كان يقرأ ولا يكتب، كانت كلما ختمت القرآن الكريم ختمت معه كتابا اسمه (دلائل الخيرات) وهو ينتهي بقصيدة (البردة) للبوصيري. وكانت – رحمها الله – تقرأ البردة، وتترنم بها وأنا صغير، لا أعي شيئا من أمر الفن والأدب. هذا أول ما وعيت عليه منهما.
ودخلت المدرسة، وبدأت أتعلم المحفوظات والأناشيد والأشعار، فلم أكن أهتز لها، ولا أرى لها ميزة عن سواها من القراءة والمطالعة. حتى استمعت يوما من إحدى محطات المذياع، إلى قصيدة غنائية فريدة نادرة، سمّعتني أذناي أن اسم القصيدة هو: (نداء الوله) وبما أنني كنت في بداية سن الحلم، فقد طرت مع العنوان والقصيدة واللحن في فضاءات لا حدود لها، وتأثرت بها أشد التأثر، لحنا ونظما.
وفي يوم ما، دفعني هذا (الوله) إلى كتابة أبيات على لحن أحد أبيات القصيدة المذكورة، ولم أكن يومها أعرف البحور والأوزان. وضاعت الأبيات. ولما عرفت اسم القصيدة الحقيقي وهو: (نداء العلا) لم أتغير له كثيرا، وإنما ازددت به إعجابا؛ لأنني كنت قد دخلت مرحلة الرشد.
وفي المرحلة الثانوية، درسنا أدب عصور الدول المتتابعة تحت اسم (عصر الانحطاط) الذي صار لمن بعدنا (عصر الانحدار) ومررنا بأبيات من بردة البوصيري، ولما قرأتها على مسمع أمي – رحمها الله – وجدتها ترددها وتحفظها عن ظهر قلب، بضبط أصح من ضبطي لها، فتحرك في داخلي ما دفعني إلى معارضتها في قصيدة بلغت مئة بيت وبيت، على غرار ألف ليلة وليلة، وكنت أضمنها من المعاني ما لا يفهمه غيري، مما دعا بعضهم إلى الظن – محقاً – بأن النص مجرد كلام مرصوف لا معنى له، كما قال لي أحد أساتذتي رحمه الله. وضاع النص أيضا. وأتصور أنني لو عدت إليه الآن لما فهمت منه شيئا، وحكمت عليه كما حكموا؛ لأنني نسيت الدوافع إلى تأليفه.
ثم سرت مع الشعر، أكتب في بعض المواقف والمحطات، حسبما تمليه الظروف الذاتية الداخلية، والموضوعية الخارجية. إذ لا بد للشعر من حوافز. وكما يحتاج كل عمل فني أو أدبي إلى زمن تتولد فيه الأفكار الدافعة إلى البدء بالعمل، فكذلك قد لا يستطيع الشاعر الارتجال أو الكتابة فورا، وإنما يحتاج إلى وقت تختمر فيه الفكرة، وتثور العواطف وتضج المشاعر.
وأنا عند نفسي لست ممن أوتي موهبة الشعر، ولا ممن امتلأ جوفه شعرا، ولكنني أمارس نظم الشعر بحكم دراستي. والممارسة تقترب من الموهبة. ولذلك قلت في مقدمة ديواني:
أنـا والله لسـت شـاعــر قــوم أنثـر السحـر مـنه حيـث أشـاء
إنـمـا أذرف الحـيـاة فـأفـتـــو …. نــي بـــرؤيــاي أيّـهــا الأدبـاء
أنـا طيرٌ فإن طربـتم لشـدوي أو شـجـيـتـم فأنــتـم الشـعـراء
تسـتثير الأحداث همـة نفـسي فـإذا ضـنَّـت اسـتـجاب الإبـاء
وإذا جَـنَّـــت القـوافـي غــداةً لا تُـلـبِّـثْ حـتى يَجِـنّ المـسـاء
س٢- للشعر معانٍ جميلةٌ يحملها كل شاعر بحثا عن واحة محبة جديدة، فعن أي موضوع تتحدث معاني قصائدك؟
ج2 – الحقيقة أن لدي ديوان شعر مقبول، ومجموعة عديدة من المؤلفات الأدبية والنقدية والفكرية، لم يتح لها مجال للطبع والانتشار، فهي محفوظة لدي، وأنا أشغل وقتي بين حين وآخر بمراجعة هذا البحث، أو تدقيق ذاك الكتاب، أو تأليف جديد من شعر أو نثر.
ولم أطلق على ديواني اسم (مجموعة شعرية) أو (ديوان فلان) كما يفعل بعضهم، ولكنني اخترت له عنوانا خاصاً، وقد أخذت مني التسمية وقتا وجهدا كبيرين، خشية أن أكون مسبوقا إلى هذا الاسم المحفوظ لصاحبه. والعنوان الذي استقر عليه ديواني هو: (أشلاء وأفياء) وقد ترددت فيه كثيرا خشية ارتباطه بكتاب اسمه (دماء وأشلاء) لمحمد المجذوب. ولكنني وجدت أن الدماء والأشلاء بعضها من بعض، فأخذت أحد اللفظين، وعطفت عليه لفظا آخر. فاختلف المعنى، وظل اللفظ متقاربا..
ويشمل ديواني موضوعات شتى وعناوين مختلفة، تقع تحت لونين اثنين، فإما تباريح وآلام، وإما استراحات وأنغام. وقد قسمته إلى أبواب وفصول، تتماشى مع الموضوعات ومراحل التأليف. وهو بشكل عام بساتين وحدائق فيها الزهر من كل عطر والفراشات من كل لون، هذا من جانب، كما هو حقول ورياض برية، فيها الوخز من كل شوك واللسع من كل نحل، وخذا من جانب آخر. قلت: وفيها الشهد أيضا.
وقد افتتحت الديوان بباب حول عقيدتي في الشعر، والحدود التي تفصل بينه وبين النثر. مؤكدا على أن مكانة النثر أعلى من مكانة الشعر، على الرغم من شهرة العكس ، لذا يتدافع القوم للحصول على لقب شاعر، ولا أحد ينافس في الحصول لقب ناقد أو كاتب أو روائي.
ولا ضرورة لاستباق الأمور وبيان موضوعات الديوان وفصوله وأبوابه، ولكن قصائد الديوان تتراوح بين المقطوعات والمطولات، كما أن فيه بابا لما يعرف بـ (شعر التفعيلة) ولم أسمه شعرا أو قصائد، وإن سميته مطولات وملاحم. وإن كنت لا أرى ذلك من الشعر.
س٣- تختلف عباءة الشعر التي يرتديها كل شاعر عن إخوته الشعراء الآخرين. ما شكل عباءتك الشعرية، وهل أنت مع الشعر العمودي
أو الشعر الحديث؟
ج3 – لا أخفي أنني أنضوي تحت عباءة الشعر العمودي، وأنتمي إلى مدرسته، ولا أسمي غيره شعرا، وهذا بالطبع هو رأيي الشخصي. ثم لا يصح إلا الصحيح. والشعر العمودي أو الاتباعي لا يعني الجمود على القديم كما يُظن، وإلا فهل كتب أحد العموديين المعاصرين منذ مطلع عصر النهضة إلى اليوم بيتا، بله نصا، عن الصيد والقنص والطرد والوحش والصحراء، والأطلال؟. حتى أطلال إبراهيم ناجي لا أطلال فيها؟.
ومن حجج الحداثيين أنه لا يمكن التعبير عن المعاني الحديثة بأساليب قديمة، وهذا زعم لا دليل عليه من شعر أو نثر؛ إذ عبر شعراء عصر النهضة بشعرهم العمودي عن أدق معاني التطور والعلوم ومعطيات العصر، لا أقول وصفوا القطار والطائرة، ولكنهم وصفوا حتى الإليكترون والبرقيات: اسمع إلى محمود سامي البارودي يقول:
ليت القطا حين مرت غدوة حملت منـي رسائـل أشـــواقـي إلـى إضـم
مـرت علينا خـمـاصا وهي قـاربة مـرّ العـواصف لا تـلـوي على إرم
كأنـهـا أحـرف بـرقـيــة نـبـضـت بالسـلك فانتثـرت في السهل والأكم
لا شـيء يسـبقهــا إلا إذا اعـتقـلت بنـانتـي فـي مديـح المصطفى قلمي
وهذا البيت الأخير من أجمل ما يتمثل به على حسن الانتقال في الشعر. ولا أظن أن أي نثر فني يمكن أن يقوم بمثل هذا، ويعبر تعبيره.
وقد ترجمت الإلياذة إلى اللغة العربية نثرا، أو (شعرا نثريا) كما يقولون. ولكن أجمل ترجمة وأعظم ترجمة لها هي ترجمة (سليمان البستاني) الذي ترجمها شعرا عموديا بدأه بالقول:
ربة الشعر عن أخيلَ بنِ فيلا حدثينا واروي احتداما وبيلا
حيث قال لي صديق مجاز باللغة الفرنسية: إن ترجمة البستاني للإلياذة من اللاتينية إلى العربية أدق من ترجمتها من اللاتينية إلى الفرنسية. مع أن اللغة الفرنسية هي بنت اللاتينية المدللة. عدا عن أن أدباء (الحداثة) لم يعبروا عن موضوعات العصر بأكثر أو أوضح مما عبر عنه أدباء (العمود) فليس في تحديثهم سوى الثورة على القديم لأنه قديم، دون أي مثال على ما لم يستطع الشعر العمودي التعبير عنه.
وأعظم من كل ذلك، أن منظري الحداثة لم يضعوا لتحديثهم أية قواعد أو ضوابط، بل صرحوا بأن الحداثة تعني الخروج على القواعد، وعدم الالتزام بأية ضوابط. وهذا لا يعني إلا الفوضى. ولا يفسد الأدب والشعر إلا الفوضى؛ فعلى هذا فإن أي إنسان يستطيع أن يكتب أي شيء ثم يزعم بأن هذا هو الشعر، وأن هذه هي الحداثة، والأدهى أن يجبرنا على أن نعترف له بأن ما أتى به هو شعر، وأنه شعر حديث.
س٤- لقصيدة النثر وقع خاص في نفوس الشعراء والمتلقين، ما موقفك من هذا النوع من الشعر؟ وهل ترى أن بوصلة الشعر ستتجه باتجاه هذا النوع الشعري؟
ج4 – يحق لك أن تقول هذا، فلكل امرئ ذوقه الخاص، الذي يقيس به ما يشاء. والأذواق صاعدة هابطة، حتى في العطر والألوان واللباس والطعام والشراب. هذا حتى لا أقول : لكل ساقطة في الحي لاقطة. ألا ترى معي بأن المجتمعات لا تخلو من بعض من يتبدَّلون الخبيث بالطيب؟..
قولك (لقصيدة النثر وقع خاص في نفوس الشعراء والمتلقين) نعم.. لها وقع خاص، ولكن في نفوس الهواة والمبتدئين. أما المحترفون فلا أظن أن يكون لها لديهم مثل هذا الوقع ، وإذا خفف أحدهم من رأيه بهذا اللون الجديد فلأسباب شتى: منها الأسباب الشخصية، ومنها إيثار السلامة، ومنها ركوب الموجة. ولست منهم. فأنا لا أرى هذا شعراً، ولا يمكن أن أسميه شعراً؛ وذلك لعدم تقيده بالقواعد والضوابط التي تفصل بين الشعر والنثر، بل لعدم قدرة مبتدعيه على ابتداع اسم مناسب له؛ فقولهم (قصيدة النثر) تعبير ينطوي على التناقض؛ فلا يمكن للشعر أن يكون نثرا.
وقد ظهر على غرار (قصيدة النثر) نوع جديد سماه مبتدعه (القصيدة التناغمية) وتتكون من كلام موزون على التفعيلة أو البحور، متناغم مع جمل نثرية تفصل بين الموزون، وقد انتشر هذا الفن في بيئة محددة عن طريق منظمة تدعى (منظمة شعراء بلا حدود) ولا أظنكم سمعتم بهذا؛ لأنه نشر في موقع ليس مشهورا على صفحات الشبكة العنكبوتية،
وأنا لا أرى لهذين اللونين: (النثري والتناغمي) وسواهما أي مستقبل، ومصيرهما هو الزوال ولو بعد حين، وذلك لأنهما ليسا من الشعر. كما زال ما سبقهما من الفنون المستحدثة، وكان آخرها الموشح.
والمنطق يقول بأن الشعر شعر والنثر نثر، أو كما قال مارون عبود: (النثر مشي والشعر رقص) وحتى الرقص فليست كل حركة رقصاً، فالدب يرقص، والطير يرقص مذبوحا من الألم. ثم إن النثر والقصيدة لا يجتمعان، فلا قصيدة للنثر، ولا مقالة للشعر. وإن كنت أتوقع أن بعضهم سيقبل بهذا للحصول على ذاك.
وقولهم (قصيدة النثر) كقولهم (مقالة الشعر) قول يحمل في طياته أسباب موته؛ لأنه ينطوي على تناقض واضح؛ فكيف يكون الشعر نثريا؟. وكيف يكون النثر شعريا؟. والأدب في كل أمم الأرض وعند كل شعوب الدنيا، إما شعر وإما نثر, ولا يوجد فن ثالث إلا كاللغة الثالثة التي اختلقها توفيق الحكيم، فلم تعش؛ لأنها كمن خلق نفسه بنفسه، فليس من خلق الله. أو كما زعم طه حسين لما أدركه الغرق، فزعم أن اللغة (شعر ونثر وقرآن) وهو ما لا نقر له به؛ فالقرآن الكريم نثر قولا واحدا، وإن كان نثرا أعلى، وطه حسين جعل الشعر أولا والنثر ثانيا والقرآن آخرا. والترتيب الحقيقي هو العكس مع إدخال القرآن الكريم في حيز النثر.
أما البوصلة فقد تنحرف، فلا تخدعنّك يا صديقي، فموضوع الحداثة باختصار هو أن بعض من استثقل الوزن والقافية، وأراد أن يقال عنه شاعر، من دون أن يدفع ثمن هذا النعت العالي (الشاعر) عندما وجد من يكتب نثرا ويسميه شعراً استسهل ذلك وراق له الأمر وصاح وجدتها، ونادى بالحداثة، ودعا كل ما يتفوه به شعرا.
ولو عدنا إلى الحداثة عند مبتدعيها لرأينا العجب، وأن حداثيينا أخذوا منها شر ما فيها، كما أخذ رصفاؤهم من قبل أسوأ ما في الحضارة، وزعموا أن الحضارة يجب أن تؤخذ كلا واحداً بعجرها وبجرها.
أنا لست ضد الجديد والتجديد، ولا ضد الحداثة والتحديث، بل على العكس، أنا أومن بضرورة ذلك ولزومه، فالحياة تطور والجمود موت، والتطور دليل الحياة، والجمود علامة من علامات الموت. فأنا مع الجيد جديدا كان أم قديماً، فليس كل تطور بجديد ولا كل جديد بجميل. وهذا قول النقاد المنصفين قديما وحديثا. والصراع بين القديم والجديد ليس بجديد، وقديما قال ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء): (… ولا نظرت إلى المتقدم بعين الجلالة لتقدمه, ولا إلى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره … فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله, ويرذل الشعر الرصين ولا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه, أو رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن … بل جعل ذلك مقسوما مشتركا, وجعل كل قديم حديثا في عصره, وكل شرف خارجية في أوله, فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدّون محدثين. فصار هؤلاء قدماء عندنا، ببعد العهد منهم…).
وهذا القول القديم هو قمة الحداثة، أما من يدعون ذلك في عصرنا ويجعل كل منهم من نفسه خالق الحداثة، فلم يتفقوا على أولية من نادى بها. وكأن من تنسب إليه قد وقع على كنز ثمين.
ففي القديم جيد ورديء، وفي الحديث جيد ورديء، وفي كل زمان ومكان جيد ورديء. والمقياس هو مقياس الجودة والرداءة لا مقياس الحداثة والقدم. فكل قديم كان حديثا, وكل حديث سيصير قديما.
ثم إنه لا بد من الضوابط والمعايير، على أن تكون هذه الضوابط قابلة للتطور أيضاً، لا أن تلغى الضوابط وتترك الأمور على عواهنها، ويكون عنوان الحداثة هو الثورة على المعايير.
إن المتمسكين بالقديم مقلدون لتاريخهم، وأما دعاة الحداثة فمقلدون لتاريخ غيرهم. فكلهم مقلد. ويعترف الاتباعيون بالتقليد، بينما يصر الإبداعيون على أنهم أبدعوا، مع أنهم مقلدون، ومقلدون لغيرهم أيضاً..
وإنه وإن أبدى بعض (الحداثيين) إعجابهم ببعض فذلك من باب تبادل المنافع. وكل فتاة بأبيها معجبة. فلننظر من هم أنصار دعاة الحداثة في الشعر: إنهم (دعاة السفور، ودعاة تحرير المرأة، ودعاة الشك في الشعر الجاهلي، ودعاة كتابة العربية بالحرف اللاتيني، ودعاة نبذ العربية والكتابة باللاتينية أو اللهجات العامية، ودعاة تجديد النحو، ودعاة إعادة كتابة التاريخ، ودعاة عدم الاحتجاج بالحديث الشريف والاكتفاء بالقرآن الكريم، ودعاة تجديد الخطاب الديني. الخ.) تنادى بعضهم لنصرة بعض؛ لأنهم لم يجدوا من غيرهم من يناصرهم..
وملاك الأمر أن الشعر العمودي لم يتخلف ولم يفقد مكانته على مر العصور، حتى مع انتشار الفنون المستحدثة، أما الفنون الشعرية المستحدثة (كالدوبيت والكان كان والمواليا) وحتى الموشح الذي كان أعلاها في سلم التطور الفني، فكل منها نال السيرورة زمنا ثم انقرض، كالحضارات التي سادت ثم بادت، بينما لم تتزعزع مكانة الشعر العمودي. ولن تكون هذه الحداثة الحديثة أوفر حظا من الحداثات القديمة.
لقد ظهرت فنون الشعر المستحدثة واستعلت منذ العصر العباسي، ولكن الشعر العمودي لم يفقد مكانته مع وجودها، ثم تراجعت تلك الفنون وظل الشعر (العمودي) ماضيا في سبيله لا يتخلف.
وإذا كنا نؤمن بأن الشعر شعر والنثر نثر فما الحد الفاصل بينهما غير الوزن والقافية؟. فمن زعم بأن الفرق هو في الصورة والعاطفة واللون وغيرها، فكل ما تم طرحه هو من المشترك بين الشعر والنثر، إلا الوزن والقافية. لا تقل لي سجع المقالة قافية، ولا تقل لي رؤوس الآي قافية، فشروط القافية في حروفها وحركاتها والتزاماتها لا تنطبق عليها.
خلاصة القول هي أنني لا أرفض الفنون الجديدة ، وإنما أرفض اسمها فقط، لقد جاء المجددون القدماء بأسماء جديدة لجديدهم فسموا الموشح والمقامة وغيرها وخلاهم ذم، أما مجددو الحداثة، فقد عجزوا عن ذلك، فسموه الشعر الحديث والشعر الجديد، قلنا لهم وماذا سيسمي المجددون الجدد تجديدهم بعدكم ؟.
ذكرني هذا باسم مدرسة مررت بها في ستينيات القرن الماضي اسمها (إعدادية “كذا” الحديثة) فلما بنوا مدرسة ثانية في المنطقة نفسها سموها (إعدادية “كذا” الجديدة) وثالثة سموها (إعدادية “كذا” المحدثة) ورابعة (إعدادية “كذا” المستحدثة) فكان أمرا عجبا.
فالجديد والحديث لا يصلحان اسما أو مصطلحا على شيء؛ لأن كل جديد سيصير قديما، وسيأتي جديد غيره، كما يعلم القدماء والمحدثون.
اعتراضي على التسمية نفسها وليس على التجديد ذاته. فالتجديد ضرورة من ضروريات الحياة، إن لم أقل هو الحياة ذاتها. فمن يقم بالتحديث – وهو حقه – فعليه أن يصطنع له الاسم المناسب، وهو من حق المتلقي. أما أن يعجز المرء من ابتكار اسم لما ابتكره، ثم يريد منا أن نتبنى ابتكاره والاسم الذي لم يفصل على قده.. فليس عدلا..
س٥- ما هي اهم قضية اجتماعية يركز عليها شعرك؟ ولماذا يكتب الشعر؟.
ج- إن القضايا كثيرة، وأهم القضايا هي القضايا الساخنة، وبين هذه القضايا كانت تتولد خواطر ذاتية يثيرها اللاشعور. فلم أكتب في المديح ولا في الهجاء، ولكنني كتبت في الرثاء والشكوى، ولم أكتب في الغزل، ولكنني كتبت في ما يشبه الغزل. ولا جدال في أن الشعر يكتب للتعبير عن شيء ما. قد يكون ذاتيا مغرقا في الذاتية كالشعر العاطفي، ويروق لي أن أسمي هذه الذاتية (الذاتية الجمعية) لأنها مشتركة بين الخلق، وإن كان لكل امرئ خصوصيته فيها. وقد يكون اجتماعيا عاما كالشعر الوطني والسياسي والإصلاحي، وهو ما يقترب من الذاتية أيضا لأن هذا الشعور متغلغل في كل فرد. فالذاتي والجمعي يلتقيان في نقاط معينة هنا وهناك. وقد مارست شيئا من هذا وشيئا من ذاك، في حدود ما تسمح به الحريات والظروف السياسية والاجتماعية، وحتى الثقافية.
ولم أخالف الشعراء في الهيام مثلهم في كل واد، ولكن أوديتي لم تكن كثيرة وإن كانت واسعة، ولم تكن بعيدة وإن كانت عميقة، وكنت أحلق فوقها كالغمام، وأدور حولها كالجياد، ولكنني كنت سريعا ما أفيء من سماوات الخيال إلى حضيض الواقع، كلما تعبت أجنحتي الشعرية، فأجنحتي الشعرية صافات ويقبضن، ما يمسكهن إلا الرحمن.
فإذا اصطففْن حجبن أطباق الفضا وإذا انـقـبضْـن تجـلــت الأجـواء
س٦- هل ترى فيما يكتب من قصائد الشعر المعاصرة على الشبكة العنكبوتية إسهاما في نهضة الشعر العربي؟
ج6 – لا شك في أن الشبكة العنكبوتية منجز حضاري وحداثي عظيم، ولا يمكن أن يتجاوزها إلا المقصرون. وهي منبر واسع متاح لكل من لم يجد منبرا آخر، ويحقق الكثير من الديمقراطية والحرية، وربما العدالة، في النشر والانتشار السريع والمريح.
… …. و الأهم، هو اتساع الشبكة، وعدم القدرة على ولوج كل صفحاتها. فليس في مقدور أحد أن يحيط بها. ولذلك قد يفوت الباحث فيها الكثير من الصفحات المهمة دون أن يشعر، مما يضطر المرء إلى الاكتفاء بالاشتراك والمشاركة في مواقع وصفحات محددة.
ثم إن الشمول وكثرة النشر ليس أمرا إيجابيا؛ فقد يسيء هذا بشكل خاص إلى الشعر، وقد يكون عاملا سلبيا في النهوض به؛ فالنهضة تقوم على أكتاف النخب لا على ظهور العامة. والإكثار يقلل من قيمة الشيء إن لم ينحطَّ به. والمثل العربي يقول: (من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر)
وقد أرجع مصطفى صادق الرافعي السبب في التقصير بالشعر العربي، وجعل أكثره متخلفاً لا يثبت على أفواه الرواة، إلى كثرته وتعاطي كل أحد له، وأنه إذا وجدت أمة كلها شعراء تساقط شعراؤها، حتى لا يثبت منهم ولا يتفرد إلا من كان منهم فوق الطبيعة. ولذلك فكثرة الانتشار ليست أمرا محموداً على الدوام. ومع ذلك تظل الشبكة العنكبوتية ضرورة لازمة لا بد منها، ولا ينكر فضلها وضرورتها إلا معاند أو مقصر، أو قاعد. ومن ينقطع عنها ينقطع عن العالم الخارجي ويعش في قوقعة نفسه. فللشبكة العنكبوتية دور كبير وعظيم ، من حيث إتاحة نشر الشعر وغيره من العلوم والآداب. وربما حصلت لبعضهم الشهرة وقوة القريحة من خلالها. ولكن سهولة النشر شيء والنهوض به شيء آخر. فالنهوض بالشعر ربما يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد النشر والانتشار.
س٧- من يعجبك من الشعراء القدامى والمعاصرين؟ وبم يتميز شعرهم؟
ج7 – من دون مقدمات ولا تطويل، فإنه لا يكاد يخلو شاعر من بيت سائر. أما تحديد شاعر بعينه يعجبني، على طريقة النقاد وعلماء اللغة القدماء، في قولهم: من أشعر الناس؟. ومن أشعر بني فلان؟. ومن أفرس الناس ببيت شعر؟. فإنه يعجبني من الشعراء القدامى:
زهير بن أبي سلمى بقوله: (ومن ومن ومن) ويتميز بالحكمة.
والشريف الرضي، ويتميز بمقدماته ومنها :
مَــن الركبُ مـا بين النقا والأناعم نشاوى من الإدلاج مِيلِ العمائم
كما يتميز بالقوة والحكمة، ويلامس المتنبي والمعري. ومن حِكَمه:
فــلا تطلبــوها ســمعة في معـــرة تحــدث عنكم كل غـــاد ورائح
خمول الفتى خير من الذكر بالخنا وجر ذيول المخزيات الفواضح
والبوصيري: ويتميز بمدائحه النبوية وديوانه الذي لا يضاهى.
أما في العصر الحديث فيعجبني: محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، من حيث الفكر والمضمون وجزالة الأسلوب، وتعدد الموضوعات وسعة الثقافة والاطلاع.
ولا أخفي إعجابي الشديد بديوان أحمد رامي، من حيث الجمال والعذوبة والسلاسة، فكرا وعاطفة، وكما كان البارودي نهضة شعرية وحده قبل عصر النهضة، فقد كان أحمد رامي مدرسة حداثية وحده قبل الحداثة، ومن دون ضجيج؛ حيث قدم النماذج وإن لم يقعد القواعد.
س٨- هل ترى في الحركة الشعرية النسائية المعاصرة إسهاماً جاداً في تطور القصيدة؟
ج8 – بالطبع لا بد أن يكون للحركة الشعرية النسائية دورا رائدا، وإسهاما جادا، ليس في تطور القصيدة العربية الحديثة فحسب، وإنما يجب أن يكون لها دورها المتميز وإسهامها الشامل في حركة المجتمعً، في كل منحى من مناحي الحياة.
ولكنه لم يتح للمرأة شاعرة أو عالمة أو قائدة أن تأخذ هذا الدور في أي عصر من العصور على مر التاريخ، قديما وحديثا. وليست أمتنا بدعا في تهميش المرأة فهذا أمر عالمي.
وما ظهر من الشاعرات وإنتاجهن كان نسبيا أقل بكثير ممن ظهر من الشعراء وإنتاجاتهم. فلم يشتهر من الشاعرات عبر التاريخ غير الخنساء ببكاء صخر. وربما ولادة بنت المستكفي بصحن خدها.
وللرافعي في المرأة كلام جميل اعترف فيه بمساواتها للرجل في القدرة على قول الشعر، وأرجع عدم اشتهار الشاعرات إلى أسباب منها:
1) تفاوت الجنسين في فنون القول لا في القول نفسه.
2) تفاوت الجنسين في براعة الصناعة والإبداع فيها.
3) انصراف المرأة عن الشعر بسبب انشغالها بالحادثات.
4) كانت القبائل تسمي الشعراء “أظفار العشيرة”. والمرأة لا تصلح ظفراً ولا ناباً.
وفي كتاب (نزهة الجلساء في أشعار النساء) للسيوطي ذكر بضعاً وأربعين شاعرة، ولكل منهن بضعة أبيات.. ولكنه أغفل بعض الشاعرات الشهيرات كالخنساء مثلا. ومع أن التاريخ حفظ لنا أسماء عالمات في شتى العلوم كالفقه والحديث والتفسير أيضا، ولكن حظهن في الشهرة لم يكن أكبر من حظ رصيفاتهن الشاعرات والمغنيات.
ومن هنا فإنني عزفت عن متابعة الحركة الشعرية النسائية القديمة منها التي كانت لا تكاد تَبين، والمعاصرة منها التي لم تزل تحبو ولا تكاد تُبين. بيد أنني كنت متابعا جيدا لنثر (مي زيادة) ومعجبا أشد الإعجاب بأدبها، ومتعاطفا كل التعاطف مع قضيتها؛ فلم تكن ظروفها الاجتماعية بأفضل من ظروف غيرها من النساء.
وأرى في الحركة النسائية عموما، لو تحركت بحق، إسهاما اجتماعيا ضروريا لا يجوز التهاون فيه، فالمرأة هي الجناح الثاني في الحياة، ولا يحلق الطائر إلا بجناحين. ولكننا، مع الأسف، ومنذ أن بدأت الدعوات إلى حقوق المرأة، نجد المجتمعات تستغل هذا الدعوات الطيبة لغايات غير طيبة. وإذا لم ترفع المرأة الوصاية عنها، وتنطلق من طبيعتها، متعاونة مع الرجل لا تابعة له، فلا أمل في حركة نسائية شعرية أو اجتماعية، تسهم في تطور الشعر خاصة والمجتمع عامة
.س٩- هل تتوقع أن ينقرض الشعر مستقبلا وتحل الرواية الأدبية الطويلة مكانه؟
ج9- لا يمكن أن ينقرض الشعر؛ فالفنون والعلوم والآداب تزيد ولا تنقص. فثمة آداب وفنون أصيلة، كالقصة والمسرحية، ويقف على رأسها وفي طليعتها الشعر، فهذه لا يمكن أن تنقرض، وإن كان بعضها ينشط حينا وبعضها يفتر آنا. وثمة آداب وفنون طارئة مرحلية، كالموشح والدوبيت والأطلال والملاحم والمقامات، فهذه يمكن أن تنقرض ويتولد غيرها ثم ينقرض، وهذا ما حصل. وقد تراجع المسرح لمصلحة التمثيل ولكنه لم ينقرض، وظل الشعر العمودي والنثر الفني، من قصة ومسرحية لم يتأثر بشيء من ظهور الفنون المستحدثة وانقراضها.
صحيح أن المقالة ظهرت ولم تكن معروفة من قبل، ولكنها ترسخت وتأصلت في فن النثر، ولا أعتقد بأنها ستنقرض؛ لأنها ليست من معطيات الحداثة، ولم تتخذ اسمها من غيرها، ولم تسم (الشعيرة) على غرار (النثيرة)، ولا (مقالة الشعر) على غرار (قصيدة النثر)، ولم تدخل في اسمها شيئا من المغالطات والتناقضات.
إن الشعر لن ينقرض، وكذلك الرواية، وإن كان الأدب يتجه إلى الإيجاز، وأوجزه الشعر والمقالة والأقصوصة. ولكن ما يمكن أن ينقرض هو صيحات الشعر المتولدة قبل أن تنضج.
ولا يمكن للرواية أن تحل محل الشعر، ولا يمكن لأي فن أن يحل محل فن آخر، فالحياة تتسع للجميع، ولكن ربما يتغير ترتيب أهمية الفنون وأولوية الموضوعات. وبالتالي لا يمكن أن نتوقع انقراض أي فن أصيل، وخاصة الشعر، ولا أن يحل محله أي فن آخر. وإنما يمكن أن يسود فن أكثر من غيره في مرحلة ما، ثم يتغير الميزان. وأكرر بأن ما يمكن أن ينقرض إنما هو الفنون الطارئة، وعندها فلا يهم ما يحل محلها
.س١٠- حبذا لو ترسل لنا مع هذا الحوار أجمل قصيدة من تأليفك هي أحب الاشعار إليك.
ج10 – لست ممن يعدون القصائد كأبنائهم، لا يفضلون بعضها على بعض.. فقصائدي فيها الجميل والأجمل، وفيها غير الجميل والأقل جمالا، وليس للشاعر أن يحكم لشعره بالجمال، وإن كان له أن يحكم عليه بعدم الجمال. ولذا سأضع هنا هذه قصيدة، وللقارئ الحكم:
(الله للنفس)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *