الشِّعرُ الليبيُّ بينَ التقاليدِ والتطوّرِ عبرَ العصورِ
معروفٌ أنّ عاداتِ أيِّ شعبٍ وتقاليدَهُ تبرزُ من خلالِ خصائصِهِ، وتعبّرُ عن أصالتِهِ. يقولُ كبيرُ الأدباءِ الليبيين، علي مصطفى المصراتي: “ليبيا ليست مجرّدَ صحراءَ شاسعةٍ ولا آبارٍ وبراميلَ للبترول، في ليبيا تاريخٌ ثقافيٌّ وإرثٌ حضاريٌّ…”.
تُعتَبَرُ عناصرُ الثقافةِ في ليبيا متعددةً جدّاً، ولعلّ الشعرَ الشعبيَّ أبرزُها. لم يكنِ الشعراءُ في ليبيا يوماً بمعزلٍ عن حركةِ التطوّرِ التي سادَتِ الوطنَ العربيَّ، لقد واكبوا حركةَ النهضةِ وتأثروا بمدارسِها واتجاهاتِها، والمتتبِّعُ لتاريخِ الأدبِ فيها يعرفُ أنّ الشعرَ الليبيَّ مرّ بمراحلَ متعددةٍ، فكان عهدُهُ الأولُ عهدَ يقَظَةٍ، وعهدُهُ الثاني عهدَ انتقالٍ، أما عهدُهُ الثالثُ فهو عهدُ الانطلاقةِ الجديدةِ.
كانت أغراضُ الشِّعرِ في مطلَعِ عهدِ النهضةِ تقتصرُ على المدحِ والرثاءِ والموعظةِ، لتتسعَ تلكَ الأغراضُ وتتنوّعَ وفقاً للتحرُّكِ الوطنيِّ والاجتماعيِّ. وبرزَتْ روحُ النضالِ للوصولِ الى حضارةٍ أرفعَ وحياةٍ أفضلَ، فاهتمَّ الشعراءُ بكتابةِ قصائدَ تعالجُ مواضيعَ وطنيةً وسياسيةً واجتماعيةً، وكان الأسلوبُ متأثراً بالقدماءِ، ليصبحَ بعدَها مزيجاً من شعرِ القُدماءِ والمُحدَثين، وهذا ما أتاحَ للشعراءِ عدمَ التقيُّدِ بأوزانِ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديّ، فتصرّفوا في التفاعيلِ كما تُحبُّ أذواقَُهُم.
مرَّتِ الحياةُ الشعريةُ في ليبيا إبانَ الحُكمِ العثمانيِّ بحالةٍ منَ الركودِ، حتى إنّ شعراءَ اللغةِ العربيةِ الفصحى كانوا منَ الفئةِ النادرةِ، وكانَ أشهرَهُم محمد فالح الظاهريّ ومحمد الطائفيّ وعبد الرحيم المغبوب، وقد اتَّسمَ شعرُهُم بالتكلُّفِ في البلاغةِ. وفي عهدِ النهضةِ شهِدَتِ الساحةُ الليبيةُ ظهورَ عددٍ من الشعراءِ، وكانَ الكثيرُ منهم على صلةٍ وثيقةٍ برموزِ النهضةِ في مصرَ، أمثالِ مصطفى بن زكري وأحمد الشارف وإبراهيم باكير، الذين امتدَّ عطاؤهم الشعريُّ حتى منتصَفِ القرنِ العشرين. وديوانُ الشاعرِ بن زكري، الذي طُبِعَ في مصرَ سنةَ 1892، أولُ ديوانٍ شعريٍّ ليبيٍّ في العصرِ الحديثِ، وقد شكَّلَ شعرُهُ بدايةَ الوعيِ السياسيِّ. وبعدَ صدورِ ديوانِ سليمان الباروني، ظهرَ جيلٌ جديدٌ من التلامذةِ الذين تأثروا بأشعارٍ فيها نزعةُ التصوّفِ.
بالخُلاصةِ، تطوّرَ الشعرُ الليبيُّ عبرَ العصورِ المختلفةِ، وتأثرَ بالتقاليدِ العربيةِ والأمازيغيةِ والأفريقيةِ، وهو تطوّرٌ اقتُبِسَ من المراحلِ التاريخيةِ الثلاثِ: “العهدُ العثمانيُّ الثاني”، “الاحتلالُ البريطانيُّ” ومرحلةُ “ما بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ”، وهي المرحلةُ التي اعتبرَها النُّقادُ الانطلاقةَ الحقيقيةَ للشعرِ الليبيِّ. شعرٌ بدأ بالتعبيرِ عنِ الحياةِ اليوميةِ والمعتقداتِ الدينيةِ والثقافيةِ، وتوسّعَتْ أبوابُهُ لتُحاكيَ الرومانسيةَ وتشمَلَ القضايا الوطنيةَ والقوميةَ. من هنا، يضعُ الدكتور الصدّيق حفتر في أولوياتِهِ مسألةَ الحفاظِ على الشعرِ الليبيِّ، وإعطاءِ الشعراءِ متسعاً منَ الاهتمامِ، حتى يبقى هؤلاءِ طليعةَ حمَلةِ الثقافةِ الليبيةِ وإرثِها الضاربِ في أعماقِ التاريخِ.