العدو يعاني من ضربات حزب الله القاتلة وهذه البداية فقط
محمد علي صنوبري- لقد كشفت حرب الكيان الصهيوني الجارية في غزة ولبنان عن عنصر حاسم يبدو أن الاستراتيجيين الإسرائيليين وحلفائهم الغربيين قللوا من شأنه وهو مرونة حماس وحزب الله وحلفائهم في محور المقاومة وقدرتهم على التكيف. فعلى الرغم من العمليات العسكرية المتواصلة، فإن سلامة هيكل حماس وحزب الله لا تزال سليمة إلى حد كبير، ويبدو أن دعمهم الشعبي لا يتزعزع. إن هذا الثبات بعيداً عن كونه مجرد ملاحظة هامشية، يشير إلى تحول عميق في ديناميكيات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني واللبناني ويقدم رؤى ثاقبة للاستراتيجيات الجيوسياسية الأوسع نطاقاً.
إن جوهر هذا الصراع يكمن في معاناة كيان الاحتلال لتفكيك حماس من خلال التكتيكات العسكرية التقليدية، مثل الغارات الجوية، والغزوات البرية، والعمليات التي تقودها الاستخبارات بهدف قطع رؤوس قياداتها. ومع ذلك، فإن هذه الأساليب لم تحقق أهدافها المقصودة. والحقيقة أن استشهاد العديد من قادة حماس في مواجهات مفتوحة، وليس الاغتيالات السرية القائمة على معلومات استخباراتية دقيقة، يتحدث كثيراً عن فشل العدو في كسر هيكل قيادة المجموعة. وقد أجبرت هذه المرونة إسرائيل على إعادة تقييم نهجها، مما أدى إلى توسع الصراع خارج غزة، وخاصة في لبنان. ولكن لبنان يطرح مجموعة من التحديات الخاصة به، وهي أرض عانت منها قوات الاحتلال تاريخياً، مما يشير إلى أنها تسير داخل مستنقعٍ آخر.
إن التحول الاستراتيجي للكيان المحتل شمالاً نحو لبنان يرمز إلى أجندة أوسع وأكثر طموحاً، وهي أجندة تتجاوز الهدف المباشر المتمثل في استعادة الجنود الأسرى أو القضاء على القدرات العسكرية لفصائل المقاومة. في جوهره، يشكل هذا الصراع جزءاً من مهمة أكبر دبرها الغرب الاستعماري، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا والقوى الأوروبية، بدعم ضمني من الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات مع العدو. والهدف النهائي؟ تحييد ما يعتبرونه “كابوساً” للكيان الإسرائيلي والغرب وهو تحالف هائل من البلدان والحركات وأنظمة الدعم العام الملتزمة بمقاومة الهيمنة الإسرائيلية والغربية.
إن محور المقاومة، الذي يضم حركات وفصائل مثل حزب الله وحماس وقوات الحشد الشعبي، ليس مجرد تحالف فضفاض من الفصائل المسلحة.
إنه يمثل أيديولوجية متجذرة بعمق للمقاومة ضد الاستعمار والاحتلال والهيمنة الخارجية. إن هذه الحركات، التي كثيراً ما يصفها خصومها بأنها “فصائل أو أحزاب”، هي في الواقع حركات تحرر وطنية ذات قاعدة شعبية لا تتزعزع. وهي جزء من نضال عالمي من أجل تقرير المصير والعدالة وحق الشعوب في التحكم في مصيرها. ولقد فشلت المساعي العسكرية الإسرائيلية، مهما كانت مدمرة، في إطفاء شعلة هذه المقاومة باستمرار. والسبب وراء هذا الفشل ليس عسكرياً فحسب، بل إنه شعبي حيث تترسخ هذه الحركات في العقل الجمعي للعرب والمسلمين وشعوب العالم بقدرتها على مواجهة هذا الكم الهائل من تحالف الأشرار.
إن تماسك هذه الحركات وقدرتها على الصمود ينبعان من قاعدتها الشعبية، وليس من بنية قيادية مركزية هرمية معرضة للهجمات الخارجية. وهذا الترابط يجعل من الصعب بشكل ملحوظ تفكيكها من خلال الاستراتيجيات العسكرية التقليدية. وكما رأينا في حالة حزب الله، فإن اغتيال قادة رئيسيين مثل السيد عباس الموسوي لم يضعف الحركة. بل إن خليفته الشهيد حسن نصر الله حول حزب الله إلى قوة إقليمية. والتوقع هو أن يستمر محور المقاومة في التطور، وربما ينمو بعد الشهيد نصر الله إلى حركة تحرير دولية تتردد صداها بين الشعوب المضطهدة في مختلف أنحاء العالم.
إن ما أخطأ به كيان الاحتلال وحلفاؤه الغربيون في تقديره باستمرار هو عمق الدعم الشعبي الذي يغذي هذه الحركات. فبعيداً عن كونها فصائل يقودها مجموعة صغيرة من النخب، تستمد حماس وحزب الله قوتهما من الجماهير.
ففي غزة، على سبيل المثال، يظل الجمهور الفلسطيني ملتزماً بالمقاومة، حتى في مواجهة المصاعب التي لا يمكن تصورها. وهذا الالتزام لا ينبع من الإكراه أو التلاعب، بل من تاريخ مشترك من التهجير والاحتلال والشوق الجماعي إلى التحرير. وكلما قصفت قوات الاحتلال غزة أو سعت إلى تفكيك نفوذ حزب الله في لبنان، كلما ترسخ وجود هذه الحركات في قلوب وعقول الناس.
إن الغرب، وخاصة الكيان الصهيوني تحت قيادة شخصيات إرهابية مثل بنيامين نتنياهو، يعمل وفقاً لافتراض خاطئ: وهو أن القوة العسكرية وضرب العصب الاقتصادي لمناطق المقاومة من الممكن أن تقمع حركة شعبية متجذرة في عقود من النضال. وقد وجه هذا الافتراض سياسات كيان الاحتلال وجرائمه لسنوات، ولكن استمرار قدرة حماس وحزب الله على الصمود يشير إلى أن هذا النهج ليس غير فعال فحسب، بل وأيضاً غير منتج. إن كل تصعيد عسكري، وكل غارة جوية، وكل محاولة اغتيال لا تؤدي إلا إلى تعزيز رواية المقاومة والاستشهاد التي تزدهر عليها هذه المجموعات.
إن قيادة نتنياهو، على وجه الخصوص، تجسد نمطاً من السياسة يزدهر على الصراع ونزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني. وتعكس سياساته اتجاهاً أوسع نطاقاً داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث لا يشكل العنف ضد الفلسطينيين وتدمير بنيتهم التحتية مجرد تكتيكات حربية، بل يحظى بتشجيع علني من جانب شرائح كبيرة من ساسته ووزرائه. ويشكل هذا التطبيع للعنف جزءاً من اتجاه عالمي أوسع نطاقاً نحو نزع الصفة الإنسانية عن “الآخر”، وهو ما يتردد صداه في جرائم القوى الاستعمارية عبر التاريخ. وفي هذا السياق، لا يشكل نتنياهو انحرافاً بل استمراراً لعقلية استعمارية تسعى إلى الهيمنة على أي شكل من أشكال المقاومة وقمعها.
ومع ذلك، فإن ما تفشل هذه العقلية في إدراكه هو أنه كلما حاولت قمع حركات التحرير بقوة أكبر، أصبحت أكثر مرونة. إن محور المقاومة ليس مجرد مجموعة من الجماعات المسلحة؛ بل هو فكرة، وحركة مدفوعة بإحساس راسخ بالعدالة والتحرير لا يمكن تدميره بالقنابل أو الرصاص. إن المقاومة هي فكرة تتجاوز الحدود والأديان والأعراق، وتوحد الناس في نضال مشترك ضد الاحتلال والهيمنة.
لا يحارب الكيان الصهيوني والغرب حماس أو حزب الله فحسب؛ بل يحاربان فكرةــ فكرة مفادها أن التحرر من القمع أمر ممكن، وأن المضطهدين قادرون على استعادة أراضيهم، وأن المقاومة هي استجابة مشروعة للاحتلال. وقد أظهر لنا التاريخ مراراً وتكراراً أن قتل الأفكار أصعب كثيراً من قتل الناس. قد يفقد محور المقاومة زعمائه بسبب الاغتيالات، وقد تُقصف مدنه حتى تتحول إلى أنقاض، ولكن ما دامت فكرة التحرير قائمة، فإن هذه الحركات سوف تستمر في الازدهار والتكيف وإلهام الأجيال القادمة.
وفي الختام، فإن الحرب على غزة، مثل الصراع الأوسع في المنطقة، ليست مجرد صراع عسكري ــ بل إنها حرب إيديلوجية إسرائيلية غربية ضد شعب أعزل. وما دامت قوات الاحتلال وحلفاؤها يواصلون الاستخفاف بقدرة محور المقاومة على الصمود، فسوف يظلون محاصرين في حلقة لا نهاية لها من العنف الذي لا يستطيع تحقيق أهدافهم النهائية. إن محور المقاومة هنا باقٍ، ليس بفضل قوة أسلحته أو بقاء قادته في رأس الهرم، بل بفضل قوة أفكاره والالتزام العميق الذي لا يتزعزع من جانب الشعوب التي تدعمه.
مدير ورئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية