روسيا في سوريا: وسيط العالم… سلسلة الدب الناعم (2)

يعرض الملف الاستراتيجي للمحور الثاني من سلسلة ” الدب الناعم” : روسيا والشرق الاوسط . حيث يناقش الباحثون الخمسة السؤال التالي : ما الذي تغير في الوضع الاستراتيجي الروسي بعد دخولها الى سوريا ؟ خصوصا بعد تبلور العديد من الدوافع التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى هذا التدخل لعل أبرزها : لحماية مصالح روسيا في سوريا، حيث إن لدى موسكو مصالح اقتصادية وعسكرية كبيرة في سوريا وخصوصا القاعدة العسكرية التابعة للبحرية الروسية في مدينة طرطوس، والموجودة هناك منذ فترة الاتحاد السوفييتي. وثانيا : الحفاظ على المصالح الاستراتيجية، حيث يبعث بوتين رسالة للعالم بتدخله في سوريا مفادها أن روسيا لا تزال قوة يعتد بها على الساحة الدولية، وخصوصا بعد الإطاحة بحلفاء مثل صدام حسين ومعمر القذافي. (أدار المحور د. مازن مجوز)
ألكسندر زاسبكين، السفير الروسي السابق في لبنان
إن دخول روسيا الى سوريا كان خطوة مدروسة، وأفشل رهان الخصوم على هزيمة سوريا وحلفائها، وعلى غرق روسيا في المستنقع الارهابي، ومن الناحية الاستراتيجية كان موجهاً ضد مشروع خلق فوضى خلاقة الذي يسعى الغرب إلى تحقيقه، وترافق الدخول مع زيادة إمكانيات روسيا العسكرية والامنية التي تجسدت في صنع أنواعاً من الاسلحة الجديدة المتطورة، ونجاح تحديث القوات المسلحة الروسية بشكل عام، ووضع الدخول حاجزاً أمام استمرار سلسلة التدخلات الغربية من بينها “عملية الناتو “في ليبيا.
كما اصبح دخول روسيا الى سوريا تجسيداً عملياً للمشاركة الروسية الفعالة في مكافحة الارهاب في الشرق الاوسط، وتاكيداً لدعم دولة سوريا ولقدرة روسيا على تحقيق الاستراتيجية طويلة الامد في المنطقة لمصلحة مبادىء سيادة الدول ووحدتها، وقد أدى الدخول الى تغيير موازين القوى في سورية، وإنتقال المبادرة الى الجيش السوري وحلفائه، وإنهاء مشروع إسقاط النظام وتحرير الاراضي الواسعة من سيطرة الارهاب، كما وعزز هذا التدخل مواقف روسيا في سوريا وسمعتها في المنطقة والمجتمع العالمي.
في الواقع، يعتبر كل ذلك مكاسب إستراتيجية تفتح مجالاً للعمل المثمر خلال المرحلة القادمة، بما فيه عملية التطبيع وإعادة الاعمار في سوريا، ومن خلال وجودها في سوريا تحقق روسيا توازناً هاماً مع امريكا والغرب في الشرق الاوسط والبحر الابيض المتوسط، وذلك جزء مهم من التوازن الاستراتيجي العالمي، ومن الواضح أنه خلال المرحلة القادمة ستزداد المواجهات في أكثر مناطق العالم. ولذلك يكتسب الانجاز في سوريا أهمية خاصة لروسيا، لأن الموقع هذا يمتد الى المناطق الاستراتيجية الأخرى، ويجب القول ايضاً أن الحل النهائي في سوريا ليس قريبا، وستواصل روسيا مشاركتها الفعالة في عملية التسوية والبناء على المدى البعيد. ومن المهم الإشارة إلى أن الاهداف الامنية واضحة تماماً وهي تصفية الوجود الارهابي وإستعادة سيادة سوريا في كافة انحاء البلاد، وانسحاب جميع القوات الاجنبية الموجودة بصورة غير شرعية، وتُعتبر هذه الاهداف مهمة مشتركة لسورية وحلفائها، وسيكون لهذه الجهود مساراً أمنياً لعمل روسيا في سوريا، وفي نفس الوقت ستزداد أهمية معالجة القضايا الإقتصادية والإعمارية.

اندريه أنتيكوف، المحلل السياسي الروسي
قبل كل شيء، لا بد من القول إن العملية العسكرية في سوريا كانت بالنسبة لروسيا غير مسبوقة لأن موسكو وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تجر أي عمليات قتالية بعيدة هذا البعد عن حدودها، وبرأيي فإن هذا القرار كان صعبا للغاية. ومن الواضح أن كل حرب تحتاج الى أموال ضخمة وتشكل ضغطا قويا على الاقتصاد. ولكن روسيا كانت مضطرة للقيام لهذه العملية العسكرية وهذا القرار كان متوقعا. بعدما تبين أنه وبعد نهاية عام 2015 أصبح واضحا ان الدول الغربية لن تغلق عينيها عن روسيا، التي تجاوزت الصعوبات والمشاكل التي اصطدمت بها في تسعينات القرن الماضي أي بعد تفكك الانهيار السوفياتي. ووجه الغرب ضربة قوية ضد موسكو بعدما جرى الاستفتاء في شبه جزيرة القرم، ووافق شعبها على انضمام تلك الأراضي الى روسيا. لتتعرض الأخيرة بعدها لعقوبات قاسية.
واللافت أن روسيا لم تتفكك، بل صمدت واكثر من ذلك، ردت بالإجراءات التي أدت الى خسائر اقتصادية كبيرة خصوصا لدى الدول الاوروبية. وبالتزامن مع ذلك، كان يتسع ويتعمق ما يسمى ب”الربيع العربي” وأتى الى سلطة الاخوان المسلمين، وعززوا مواقفهم في مختلف دول المنطقة. وهذه المجموعة تعتبر في روسيا من المجموعات المتطرفة. ففي سوريا تحديداً كانوا جنبا إلى جنب مع المجموعات الارهابية مثل جبهة النصرة وداعش. وبالنسبة لروسيا كان واضح أنه في حال سقوط النظام في دمشق ستصبح سوريا مصدراً ومنبعا للارهاب الذي بكل تأكيد سينتقل إلى القوقاز والى آسيا الوسطى. وهذا سيشكل خطراً كبيراً على الأمن القومي الروسي.
وموسكو كما ذكرنا، كانت آنذاك تعاني من ضغوطات إقتصادية . هذا كان أحد الاسباب الرئيسية لانطلاق العملية العسكرية الروسية في سوريا. حيث ساهم الدعم الجوي الروسي بتحقيق الجيش السوري إنجازات كبيرة في ساحات القتال. واليوم نرى أن روسيا قادرة على فرض نفسها كقوة عظمى يجب على الجميع أخذ مصالحها بالإعتبار.
وهذه المصالح لا تنحصر بسوريا وحدها. فروسيا تنوي أن تبني المركز اللوجستي لأسطولها في السودان وتلعب دورا مهما في تسوية الازمة الليبية، وتفرض رؤيتها لايجاد حل للنزاعات في الخليج وتسعى لتطوير العلاقات مع الدول الافريقية. وأكثر من ذلك، فهي مستعدة لتحمي مصالحها في أنحاء العالم البعيدة عن حدودها مثل فنزويلا التي اصطدمت بالمحاولات الامريكية لاسقاط السلطات في كاراكاس. وللأسف لم تدرك واشنطن وحلفاؤها بعد أن موسكو لها مصالح لا يمكن تجاهلها.

يوسف مرتضى، إعلامي وكاتب، ناشط في المجال السياسي والاجتماعي. منسّق الإعلام في جمعية الصداقة اللبنانية الروسية
روسيا الراغبة والطامحة دائماً لموطئ قدم على المياه الدافئة ، استفادت من طلب استغاثة النظام السوري وحليفه الإيراني في مواجهة التنظيمات الإسلامية المعارضة في سوريا ، فدخلت الميدان السوري واستوطنت بحره وبره ، ليس فقط استجابة لتلك الإستغاثة وتحقيق هدف الوصول إلى المياه الدافئة وحسب ، إنما حققت روسيا بذلك هدفاً استراتيجياً في مواجهة التطرف الإسلامي في المنطقة المحاذية لحدودها الجنوبية . فروسيا تعتقد أن نجاح الإسلام السياسي في السيطرة على سوريا وإمكانية تمدده إلى الحديقة الخلفية لروسيا في آسيا الوسطى، سيشكل ذلك حتماً تهديداً للأمن الروسي الداخلي ولوحدة الإتحاد الروسي، حيث أن الديانة الإسلامية هي الثانية في روسيا بعد الأرثوذكسية، وسبق أن عانت من حروب دامية في حقبة التسعينيات من القرن الماضي مع مسلمي شمال القوقاز “الشيشان وداغستان”، بعد حرب الإتحاد السوفياتي في أفغانستان طيلة عقد ثمانيات القرن الماضي .

د. خليل حسين. أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
تحاول موسكو حاليا تعزيز مواقعها الشرق أوسطية عبر نسج علاقات متوازنة تحاول من خلالها محاولة التوفيق بين المتناقضات.. مثلا علاقاتها مع كل من ايران وتركيا .. وعلاقتها مع العرب واسرائيل.. علاقتها مع تركيا وسوريا… العنوان الرئيسي هو التوفيق بين المصالح، بهدف كسب أكبر قدر ممكن من المكتسبات الاستر اتيجية والعودة بشكل قوي الى المياه الدافئة في شرق المتوسط، وبالتالي تأمين الشراكة الاقتصادية في موارد المنطقة النفطية والغازية.

د. بيار الخوري – ناشر الموقع
نتج قرار موسكو بالتدخل في سوريا عام 2015 عن خطر كبير، كان يمكن أن يمثله سقوط النظام السوري بالنسبة للجيوبولتيك الروسي في العالم.
لقد شكلت القاعدة البحرية في طرطوس وقاعدة باسل الاسد الجويه المعروفة ب “قاعدة حميميم” آخر موقعين عسكريين استراتيجيين لروسيا في المنطقة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومن الارجح أن سقوط النظام كان سيعني خسارة هاتين القاعدتين، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على الامن القومي والجيوبوليتيك الروسي في العالم.
مع حلول العام 2015 بدا أن الغرب قد فقد السيطرة على تطورات الاحداث في سوريا، وفي الوقت ذاته باءت كل محاولاته لكبح تنظيم الدوله الاسلامية” داعش” بالفشل (هذا بافتراض أن هذه المحاولات قد كانت مصممة اساسا لفعل ذلك).وعشية التدخل الروسي كانت سوريا تختزن مجموعة من الاخطار اهمها أن تتحول الى ساحة نفوذ لقوتين إسلاميتين كبيرتين في المنطقة : ايران وتركيا بما يخول سوريا للعب دور مصدر لإضطراب اقليمي غير مضبوط، خاصة ان التنظيمات المتطرفة الاسلامية تعيش تماما في هذه البيئة، ويمكن أن تشكل خطراً اكيداً على مستقبل الامن الروسي، لإحتمالات امتدادها الى جمهوريات آسيا الوسطى كما الى الجمهوريات الواقعة ضمن الاتحاد الروسي.
جاء التدخل الروسي بشكل اساسي لحماية المصلحة الروسية بعيدة المدى ولكن في الوقت عينه كان الغرب يحتاج هذا النوع من التدخل لاعادة ضبط الساحه السورية ومنع تفرد القوتين الاخيرتين المذكورتين بمسار الامور مستقبلاً، وتلك حاجة امريكية واوروبية واسرائيلية على السواء.

لقد لعب الوجود الروسي في سوريا دور الوسيط الممكن وليس الوسيط المفوض بين مجموعة من القوى المتناقضة على أرض سوريا، مع اعتبار أن محاربة تنظيم الدولة هو الهدف الاساسي لوجود القوات الروسيه، وهو هدف لا تستطيع الدول الغربية ان تعترض عليه. قامت روسيا بالرغم من تحالفها مع القوى المؤيدة لايران على الارض في سوريا بتحجيم الدور السياسي الايراني هناك، كذلك لعب الروس الدور العازل لإحتمال تدخل واسع تركي في سوريا، وفرضت على اسرائيل حدود معينه للتدخل في الساحة السورية.
هناك الكثير مما لا نعرفه عن الحرب الخفية التي تمت في سوريا خلال السنوات الخمس الاخيرة، خاصة الجوانب المخابراتية منها، لكن الاكيد أن الروس لعبوا دوراً في تحجيم المخابرات الاسرائيلية ودور المخابرات الغربية في ادارة إتجاه الاحداث في الدولة السورية.
نتيجة لذلك إستطاعت روسيا ان تفعل في سوريا ما لم تستطع اي قوة دولية او اقليمية او داخلية أن تفعله، وهو ايجاد ناظم للقوى المحلية والاقليمية والدولية، في صراع لا يبدو أن له افق منظور للحل. ُيذكر ذلك بالدور الذي لعبته الدولة السورية في لبنان حتى العام 2005 بموافقة او بغض نظر دولي، وذلك بعيدا عن إعتبار الفروقات بين حجم وأبعاد الدور السوري في لبنان وحجم وابعاد الدور الروسي في سوريا.
روسيا اليوم تحمي حديقتها الخلفية من خلال وجودها في سوريا، وهذا الوجود ايضا سمح لروسيا ان تلعب ادوار اكبر في المنطقة العربية مثل السودان والصراع الليبي، وفرضت نفسها حاجة للقوى المتصارعة جميعا للمرور من خلال الدور الروسي، وهذا يعطي افضلية جيوستراتيجية لروسيا على كافة اللاعبين ويجعلها الشريك-الند الاساسي من دون منازع للولايات المتحدة في تقرير مستقبل المنطقة….ومستقبل ثرواتها.

Last Update: Monday, 28 December 2020 KSA 16:01 – GMT 13:01

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *