البروفيسور بيار الخوري :المصرف المركزي “على الحديدة”، هكذا سيتحرك الدولار في سوق بيروت

لقد اصبحت السلطة النقدية في بيروت “على الحديدة”، حديدة يرسم اطارها اموال الاحتياطي الالزامي من ناحية والذهب المعقم بقانون من ناحية ثانية.

الحديث عن إرتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء في بيروت نحو أرقام تبدو خيالية مثل 15 او 20 الف ليرة ليس جديدا”، وهناك حتى توقعات أخرى تحدثت عن 40 الف ليرة للدولار الواحد. لم يصدر ذلك فقط من مخاوف المواطنين بل ايضاً من مراكز أبحاث محلية ودولية.

لقد تفاعلت هذه التوقعات السلبية مع التصريح الأخير الملتبس لحاكم مصرف لبنان حول الدخول في مرحلة تحرير سعر الصرف، والذي أعاد توضيحه بما يؤكد مضمونه ويؤجل توقيته.

ما مدى واقعية هذه التوقعات؟

إن إرتفاع سعر صرف الدولار الامريكي والعملات الاجنبية في بيروت تجاه الليرة اللبنانية يفترض أن يكون محكوماً بعاملين إثنين :

1 – عامل حجم السيولة المتوفرة بالليرة اللبنانية لخلق الطلب على العملات الاجنبية .

2 – عامل الثقة والتوقعات .

إن تعطيل القدرة على تحريك الحسابات بين العملات بشكل حر في المصارف، يجعل الطلب على الدولار محصوراً بتوفر كتلة السيولة الساخنة بالليرة اللبنانية في السوق M0، وهي المعبرة عن العملة المطبوعة امن قبل السلطة النقدية والمتداولة في خزائن المصارف وبين الجمهور). إن حجم هذه الكتلة اليوم هو 25 تريليون ليرة لبنانيه، أي أننا لو قيمنا هذه الكتلة بسعر صرف الدولار في السوق السوداء لوجدنا أنها لا تتجاوز الثلاثة مليارات دولار.

صحيح أن هذه الكتلة قد إرتفعت كثيراً خلال العام الماضي، من 9 تريليون الى 25 تريليون، لكن قيمتها التي كانت تساوي 6 مليارات دولار، ورغم الطبع غير المسبوق لليرة خلال العام الماضي، قد باتت تساوي 3 مليار دولار!

أين توجد هذه الكتلة اليوم ؟ في الواقع هي كتلة مفتتة جداً، كل منزل فيه مبلغ ما بين مليون ليرة و10 ملايين ليرة وفي المؤسسات هناك ايضا” مبالغ اكبر حجما”. وبحسب الوضع الاجتماعي لوحدات القطاع المنزلي، تكون هذه المبالغ كافية لقضاء الحاجات الشهرية وربما بعض الإحتياط .

على عكس ما كان عليه الوضع مع بداية الازمة، حيث كان أجر بقيمة ثلاثة ملايين ليرة قادر على شراء 2000 دولار، وكان الناس يتهافتون لتحويل أموالهم الى الدولار. نفس ذلك المبلغ اليوم يشتري 300 دولار أي ما يكفي بالكاد للمصاريف الجارية.

إن الكتلة النقدية الساخنة لم تعد قادرة على صنع تغييرات جوهرية في سعر الصرف. للدلالة على ذلك، دعونا ننظر الى سعر الصرف خلال الاشهر السته الماضيه. لقد تحرك سعر الصرف في السوق السوداء ضمن هوامش معروفة صعوداً ونزولاً. (بين 7 و10 آلاف ليرة للدولار).

يمكن تفسير التحركات في هذه الهوامش بعمليات تحقيق الارباح من المضاربة على العملة من خلال الاستجابة قصيرة الاجل للعوامل الموسمية وللمزاج النفسي لدى المواطنين.

بشكل أساسي، لبنان يستفيد اليوم من تحويلات المغتربين بما يفوق القيمه الدولارية للكتلة النقدية الساخنة. وبذلك يكون العرض موازياً للطلب في الحد الادنى.

اضافة لذلك، لننظر الى مالية الدولة التي تعتبر المحرك الاساسي لنمو هذه الكتلة. حجم العجز في الموازنة العامة بلغ حتى الشهر التاسع 6 تريليون ليرة .قبل الازمة كانت قيمة هذا المبلغ تعادل حوالي 4 مليار دولار بينما اليوم لا تتعدى قيمتها 700 مليون دولار بسعر صرف السوق السوداء. لننظر ايضا” الى المحرك الآخر للكتلة النقدية الساخنة، وهو سحوبات الودائع على سعر المنصة (3900 ليرة لكل دولار اميركي). كل تريليون ليرة مسحوبه من الودائع كانت تعني ضغط على السوق السوداء بقيمه 650 مليون دولار بينما تعادل اليوم فقط 110 ملايين دولار.

اذاً عناصر ضغط السيولة على إنهيار سعر صرف الليرة قد إختلفت جذرياً. خلال العام المنصرم، وبالتدرج، لم يعد هناك طلب فعال في بيروت على الدولار الامريكي يسمح برفع سعر هذا الدولار في السوق السوداء بشكل دراماتيكي.

إن الطلب الفعال لا علاقة له اليوم بحجم المعروض النقدي، الذي حجم مع إرتفاعات سعر الصرف في السوق السوداء القدرة الحقيقية على الطلب من المواطنين والمتعاملين. في الواقع إن المعروض من كافة المصادر للدولار الامريكي هو أكبر بكثير من القاعدة النقدية المتداولة بالليرة اللبنانية.

لبنان يغرق بالدولارات اليوم من مصادر متعددة، ومن لا يصدق ذلك فليسأل تجار السيارات. فبالاضافة الى المصادر النمطية للاقتصاد كمردود الصادرات وتحويلات المغتربين الى أهاليهم او لشراء العقارات، هناك الدولار السياسي لدى اطراف عدة متناقضة سياسياً، وهناك دولار الجريمة المنظمة من الدولار المبيض والدولار المجلد، الدولار المزور بتقنيات عالية الجودة ، ومعظم هذا المال مرعي بشكل أو بآخر. لا يعرف المتعاملون الصغار في السوق السوداء أي من فئات الدولار يحملون، وليس اكيداً ان المصارف في لبنان تملك التقنيات الكافية لتتبع نوعية هذه الدولارات خاصة الدولار المجلد والدولار المبيض.

لقد اصبحت السلطة النقدية في بيروت “على الحديدة”، حديدة يرسم اطارها اموال الاحتياطي الالزامي من ناحية والذهب المعقم بقانون من ناحية ثانية. تتصدر المشهد اليوم سلطات نقدية رديفة مرعية من إتجاهات سياسية مختلفة ومتناقضة ، تحوز على كميات غير معروفة من الدولارات من كافة المصادر المذكوره أعلاه. ما لم يكن للطرف الاقوى ضمن السلطات الرديفة مصلحة في إرتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء فسيبقى هذا الاخير ضمن الهامش الذي تعود السوق عليه في الاشهر الستة الاخيرة.

السلطات النقدية الرديفة تتحكم اليوم بسعر صرف السوق السوداء كما تحكمت السلطة النقدية الرسمية بالسعر الرسمي قبل الازمة. لننسى عناصر العرض والطلب ولننسى شعور المواطنين النفسي وتوقعاتهم المتشائمة. وكما انفصل التضخم عن سعر الصرف الثابت فيما مضى، سيحلق التضخم في المرحلة المقبلة في ظل ثبات هامش تذبذب دولار السوق السوداء. كل شئ سياسة في بيروت!

لا نرى تطورات دراماتيكية في سعر الصرف في المرحلة المقبلة….والله خير العارفين.

Last Update: Sunday, 10 January 2021 KSA 17:13 – GMT 14:13

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *