بديلُ الصين
ما بينَ إنشغال الصين بحربها الإقتصاديّة مع واشنطن وإنشغال الغرب بالحرب الروسيّة الأوكرانيّة، هُناك عملاقٌ في آسيا بدأ بالنهوضِ والتكشيرِ عن أنيابهِ.
فلقد إستطاعت الهند حماية نفسها وسط عاصفةٍ من صدمات الركود التي تُواجِه الكوكب كلّه، والتوقّعات تزداد وترتفع أكثر فأكثر.
أهِيَ الصين الجديدة أم مُنتجٌ فاشلٌ ؟
إقتصاد سريع النمو أم مُجرّد فوْرة ستنتهي في القريب العاجل؟
وهل يمكن للعام ٢٠٢٣ أن يكون عام النجاح بالنسبة إلى نيودلهي ؟
وهل ستصبح نيودلهي معمل العالم في المدى المنظور ؟
أعدّ البنك الدولي توقّعاته بالنسبة للهند، حيث أظهر نموّاً خلال السنة الماليّة الحاليّة إلى ٦،٩ % بالمئة بدلاً من ٦،٥ % بالمئة ، وإذ من المُتوقّع أن يُساهم الإستهلاك القوي والنشاط المحلي الأكثر قوّة للدولة الآسيويّة على أداءٍ أفضل في الأسواق الناشئة الأخرى .
وأشار البنك في تقريرٍ له صَدر في أوائل ديسمبر / كانون الأول الماضي، بأنّ الهند في وضعٍ جيّدٍ لمواجهة الصدمات العالميّة الخارجيّة ،حيثُ نما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة ٦،٣ % بالمئة ما بين يوليو/ تموز وسبتمبر / أيلول من العام المُنصرِم ٢٠٢٢. وأكّد البنك بأنّه وعلى الرغم من أنّ هذا يُمثِّل حفاظاً على ١٣،٥ % بالمئة في الربع السابق إلّا أنّ الهند نجحت حتى الآن في حماية نفسها من صدمات الركود التي تُواجِه العالم بأسره. ولكن من المُتوقّع بأن تؤثِّر الرياح الإقتصاديّة العالميّة المُعاكِسة بشكلٍ أكبرٍ على الموارد الماليّة للبلاد في العام القادم .
– أمّا بالنسبة للسنة الماليّة القادمة ٢٠٢٤ عدّلَ البنك الدولي توقّعاته ، حيثُ أظهر إنخفاضاً للنمو من ٧ % بالمئة إلى ٦،٦ % بالمئة وِفقاً لبياناتٍ نشرتها مجلة “فورين أفيرز ” (Foreign Affairs).
فمع بداية القرن الحالي ، برزت قوّة الهند في المشهد الإقتصادي العالمي ،حتّى أنّها أثّرت في الخيال العالمي على حدّ وصف الصحيفة وذلك قبل أن تخمد شعلة الصعود الهندي على إثر الأزمة الماليّة العالميّة ، ولكنها عادت لتتصدّر المشهد الإقتصادي خصوصاً مع المشاريع الإقتصادية الصينيّة الحاليّة، وبدأ الحديث جليّاً عن إمكانية إستبدال الصين بالهند وتحويلها إلى مصنعاً للعالم، ومن ثمّ تتّجه لأن تكون المُحرِّك لعجلة النمو العالمي وواحدة من أعلى الدول تحقيقاً لمعدّلات النمو وهو ما أظهرته الأرقام فيما يخصّ الهند في العام المُنصرِم ٢٠٢٢ ، حيث شهدت الهند إرتفاعاً في معدّل النمو وإستطاعت تخطّي أزمتين معاً: أوّلها جائحة كورونا، وثانيها الحرب الروسيّة الأوكرانيّة .
إنّ بيانات البنك الدولي تُظهر أن كلاً من الصين والهند قد وصلتا إلى وضعٍ إقتصادي مُتقارِب لحدٍّ ما وذلك بقياس الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، فكانت الهند قد حقّقت في بعض السنوات ناتجاً يفوق الناتج الصيني ، وبينما تُحقِّق الصين ناتجاً أعلى منها في سنواتٍ أُخرى ، لكن البلدين إفترقا في طريقهما منذ بداية ستينات القرن الماضي، وبدأ الفارق بالإتّساع الكبير من بعدها حيث باتت الصين قوّة إقتصاديّة وصناعيّة عملاقة في العالم، في حين دخلت الهند في دوّامةٍ من الإنهيارات والمشاكل السياسيّة والإجتماعيّة.
فهل يمكن أن تحلّ الهند مكان الصين وتصبح مصنع العالم الجديد؟
وما الذي ستُحقِّقه حتى نهاية العام الحالي ؟
الواقع أنّ الهند تملك أربع مزايا لا تتواجد في دولةٍ أخرى :
١. أنّها وجهةٌ جاذبةٌ للشركات العالميّة. فمن بعض النواحي تُعتبَر الهند أرضاً واعِدةً للشركات العالمية ، إذ تتمتّع بمزايا هيكليّة، كما تُقدِّم الحكومة حوافز إستثمارية كبيرة في مُقابل العيوب الخطيرة للخصوم المُحتملين ، حيثُ تُسيطر الهند على منطقة أكبر ٩ مرات من ألمانيا ،ويبلغ عدد سكّانها كتعداد سكان الصين تقريباً كأكبر دولة في العالم ، كما أنّها من الدول القليلة التي تُعَدّ كبيرة بما يكفي لإيواء العديد من الصناعات الكُبرى بحيث تنتج للأسواق العالميّة ثم للأسواق المحليّة المُزدهِرة ، كما تُمثِّل الهند ديمقراطيّة راسخة ذات تقاليد قانونيّة طويلة وقوّة عاملة شابة وموهوبة وتتحدّث اللغة الإنكليزية بشكلٍ ملحوظ .
٢- لدى الهند أيضاً بعض الإنجازات المُتمثِّلة في تحسين البُنى التحتيّة الرقميّة وقد تجاوزت في بعض النواحي مثيلاتها في الولايات المُتّحِدة .
٣- وكذلك هناك ميزة أخرى تتمتّع بها وهي عدم وجود بديل للهند على المستوى الإقليمي ، فإذا قمنا بنظرة سريعة وشاملة على المنطقة فإننا لن نجد بديلاً أفضل من الهند، بل لن يملك مواصفاتها الحالية ويمكن أن تتّجه الشركات الدوليّة إليه قبل بضع سنوات ، ربما كانت دول آسيا الأُخرى تُعتبَر مُرشّحةً جذّابةً، لكن ذلك الواقع تغيّر اليوم ،فخلال العام الماضي شهدت سيرلانكا أزمة إجتماعية وسياسيّة وإقتصاديّة تاريخيّة ،وكما تعرّضت باكستان لصدمة بيئيّةٍ أدّت إلى تفاقم ضعف الإقتصاد الكلّي الدائم وعدم الإستقرار السياسي .
حتّى بنغلادش التي لطالما كانت وجهة مُفضّلة في التنمية إضطُرّت للإقتراض من صندوق النقد الدولي بعد أن إرتفعت أسعار السلع الأساسية بسبب الحرب الروسيّة الأوكرانيّة ، مما أدّى إلى إستنزاف إحتياطيّات البلاد من النقد الأجنبي .
وبناءً عليه، وفي خِضمِّ هذه الأزمات المُتعدِّدة قي جنوب آسيا تبرز الهند كملاذٍ آمن للاستقرار ،ويمكننا القول بأنّها الناجية الوحيدة من الدول الآسيويّة في الأزمات الأخيرة التي شهدها العالم .
٤- كما لديها ميزة أخرى تعمل على إستغلالها وتتمثّل بتصاعد التحدّيات داخل الصين. فقد عانى نظام الرئيس الصيني، وعلى مدار العام الماضي، من تحدّياتٍ مُتعدِّدة بما في ذلك النمو الإقتصادي البطيء والإنحدار الديموغرافي الذي يلوحُ في الأفق ، فضلاً عن عمليّات الإغلاق الصارمة التي يُمارسها الحزب الشيوعي والإعتداء على القطاع الخاص والتي زادت الأمور سوءاً ودفعت الكثير من المستثمرين الأجانب بالتراجع خطواتٍ إلى الخلف ، كما واجهت “بكّين” عدداً مُتزايِداً من الإضطرابات والإحتجاجات السكانيّة المُناهِضة لسياسة الحكومة ، وبذلك فإن التحوّل الصيني نحو الإستبداد وكمِّ الأفواه في الداخل، والعدوان في الخارج، والحُكم الغير مُتّزِن جعل الهند الديمقراطيّة تبدو أكثر جاذبيّة .
تأتي أخيراً الخطّة الحكوميّة المُتمثّلة بتقديم بعض الحوافز للشركات ،حيثُ إتّخذت الهند خطوات من شأنها أن تعمل على تحسين التعاقد مع الشركات الدوليّة .ففي بداية العام ٢٠٢١، قَدّمت الحكومة مُخطَّطاً للحوافز المُرتبِطة بالإنتاج لتوفير الحوافز الإقتصاديّة لكلٍّ من شركات التصنيع الأجنبيّة والمحليّة، مما حقّق نجاحات ملحوظة على مُستوى الهند بشكلٍ كبير. فبعد تلك القرارات أعلنت شركة ” Apple ” الأمريكية في سبتمبر / أيلول من العام المنصرم ٢٠٢٢ بأنّها تُخطِّط لإنتاج ما بين ٥ إلى ١٠ % بالمئة من نُسَخ ” I Phone 14″ الجديدة في الهند.
– وفي نوفمبر / تشرين الثاني من العام نفسه، أعلنت شركة” Fox Care ” لتصنيع الإلكترونيات بأنّها تُخطِّط أيضاً لبناء مصنع لأشباه المُواصلات .
والتوقّعات الحاليّة تؤكّد بأنّ الهند ستخطو خطوةً للأمام هذا العام، في حال خرجت بنمو وفق التوقّعات المُعلَنة ، إذ سيساعدها ذلك أكثر على الإتجاه لتكون مصنعاً ضخماً يجذب الشركات من مختلف أنحاء العالم، ممّا يُحوِّل الإقتصاد الهندي لإقتصاد مُنافِسٍ للصين، ومُتفوِّقٍ عليها في الصناعات بجودتها ونوعيّتها.
فهل ستتحول الهند لمصنعٍ للعالم وتكون البديل عن الصين لتشكل الضربة القاضية لحلم الصين في التوسع الإقتصادي وطريق الحرير ؟
وهل ستَخرج الشركات العالمية من الأسواق الصينية لتستثمر في الهند ؟
وهل أمريكا اليوم جادة وماضية في مشروعها بدعم مُطلق وموسع للهند لتقضي على الإقتصاد الصيني ؟
وهل ستسمح الصين للهند بالتفوق عليها ؟
وهل تَحرك الصين نحو الخليج والتوسع في الشرق الأوسط هو بهدف البحث عن أسواق جديدة لها قبل أن تسبقها إليها الهند ؟
خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية.