إمارة الحرافشة
الأستاذ علي محمد يونس / النبي رشادة / بعلبك
في الحديث عن إمارة الحرافشة في زمن التحوٌلات الكبرى ( ١٧٦٢ – ١٧٨٩ ) نجد أنٌ الأحداث المحليٌة تتكاثر ، والجهود الدوليٌة تتضافر مع نفوذ الدولة العثمانيٌة التي تتبنٌى وتؤيٌد وتتآمر ، مستجيبةً لنداءات السياسة الفرنسيٌة التي تنضمٌ وتموٌل وتتآزر ، لتغيير ديمغرافيا الجبل اللبناني بإنشاء الوطن الماروني مكان البيت الشيعي في جبل لبنان ، مهما قاوم الشعب وكابر ، وكابد المشقٌات العظيمة والمِحَن الجسيمة ، وكافح وناضل وثابر !
وكان قد بدأ التخطيط لإحداث هذا التغيير الكبير منذ أربعة قرونٍ على أقلٌ تقدير ، أي منذ انتهاء الحروب الصليبيٌة ( ١٢٨٣ – ١٣٠٥ ) ظاهريٌاً على الأقلٌ كما تشير التقارير ، لإيجاد موطىء قدَم متقدٌم للغرب في هذا الشرق ، بإنشاء الكيان اللبناني المستحدَث كوطن قومي مسيحي ، يُستفاد من وجوده ودعمه على مرٌ العصور ، بعد أن يُغادِر الإفرنجي الأرض ، ويتحوٌل التفكير !
وابتدأ تنفيذ المشروع الخطير ، مستفيداً من كُره العثمانيٌين للشيعة على هذا المسرح الكبير ، فعمل له الصدر الأعظم منذ عهد السلطان محمود الأوٌل ( ١٧٣٠ – ١٧٥٤ ) ، بعد أن حصلَت فرنسا على امتيازات جديدة داخل السلطنة العثمانيٌة ، وتوثٌقَت عرى الصداقة وروابط الألفة بين القسطنطينيٌة وباريس في عهد خلَفِه السلطان عثمان الثالث ( ١٧٥٤ – ١٧٥٧ ) إلى مدى غير مسبوق مِن ذي قَبل ، ولم يكن له نظير !
وفي عهد السلطان العثماني مصطفى الثالث ( ١٧٥٧ – ١٧٧٤ ) ، صدَر عن الصدر الأعظم محمٌد راغب باشا ( ١٧٥٦ – ١٧٦٢ ) فرمان إداري بالخَتم الكبير ، يأمر بِهَدر دماء الشيعة في جبل لبنان ، واستباحة أموالهم وممتلكاتهم لكلٌ راغب بِوَضع يده على هذا الإرث التاريخي الشهير ، خِلافاُ لكلٌ شرع وعُرف وقانون وضمير !
واستجابت الإدارة العثمانيٌة لهذا الطلب ، آخذةً على عاتقها التنفيذ والتقرير ، فعيٌنَت عثمان باشا بن عبد الله باشا الكَرجي ، بعد ولايته على طرابلس ( ١٧٦٠ – ١٧٦٢ ) ، والياً على الشام لمدٌة اثنتَي عشرة سنة غير قابلة للتعديل والتغيير ، بعد أن كانت ولاية مَن سبَقه لا تستمرٌ لأكثر من سنة ، وأحياناً لبِضعة شهور . وعيٌنَت ابنه محمٌد باشا والياً على طرابلس مِن بَعده ، وابنه الآخَر درويش باشا والياً على صيدا ، لكي تتكامل المفاعيل وتتجاوب التقارير !!!
في الحديث عن إمارة الحرافشة في زمن تهجير الشيعة عن مواطنهم ( ١٧٦١ – ١٧٨٦ ) ، وتوطين آخَرين مكانهم في جبل لبنان ، نجد أنٌه في هذا الجبل لم يكن بدٌ من تنصير الأمير لكي يتعامل ويتآمر دون داعٍ للتذكير ، فاستجاب الأمير يوسف الشهابي ( ١٧٦٣ – ١٧٨٩ ) لهذا الغرض في وقتٍ قصير ، على يد مربٌيه ومدبٌره سعد الخوري البشير ، صاحب العصا الغليظة والدَوْر الشهير في إحداث التغيير . فكان يوسف كالحجَر الصغير ، يحرٌكه اللاعبون الكِبار على رقعة الشطرنج ، وهم الذين يعرفون أسرار اللعبة ، ويتمتٌعون بالعِلم الوافر الغزير !
وتبنٌى يوسف الشهابي هذا المخطٌط وهو فتىً غرير ، وراح يعمل حسبما يوجٌهه سعد الخوري المشير ، مِثلما سبق أن استجاب والده الأمير ملحم الشهابي ( ١٧٣٢ – ١٧٥٤ ) الغدٌار الشهير ، لطلب سيٌده العثماني السلطان أحمد الثالث ( ١٧٠٣ – ١٧٣٠ ) الذي أصدر فرماناً يقضي بتدمير ما للشيعة مِن قلاع وقصور ، وجعلهم جميعاً طعاماً للسيوف أو سكٌاناً للقبور ، انتقاماً لنفسه ، وثأراً لِبَني جنسه مِن تغلٌب الصفويٌين عليه ، ووقوعه في هذا المأزق الخطير !
وسارت الرُكبان إلى الغرب تطلب القِرش لهذا الغرض وتقرير المصير !
وفي ساعة الصِفر ، استجاب الشعب الخامل الفقير للأيدي الخبيثة ذات الهوى الذميم الحقير . ودَقٌ النفير لإيقاد نار الفِتنة ، والقيام بالترويع والتنكيل والتقتيل والتهجير للشيعة في جبل لبنان ، بعد فِعل التنصير !
واستمرٌت الحرب على مدى عشر سنوات ( ١٧٦١ – ١٧٧٢ ) ، يسومون الشعب فيها الخسف والذلٌ والهوان ، بغير فتورٍ أو تقصير !
وقاد الأمير حيدر حرفوش الثالث ( ١٧٦٣ – ١٧٧٤ ) حملةً إلى جبال بشرٌي لدعم الشيعة ، وتثبيتهم في أرضهم بعد تعرٌضهم للغزو والتهجير ، منذ قيام المناهضات الأولى في وجههم سنة ١٧٦١ ، فما أمكنه الفوز في سعيه والنجاح ، بسبب دَور باشا طرابلس عثمان باشا الكرجي وابنه محمٌد في ملاحقتهم والتنكيل بهم ، ليغادروا أماكن سكنهم ، ولو أضحَوا على حافٌة الشفير !
ولجأ الحماديٌون إلى الهرمل سنة ١٧٦٧ ، للإحتماء بالأمير الحرفوشي الكبير ، مستعصين بالمال الأميري الذي استَوْفوه قَبل زمنٍ يسير …
وصدر القرار العثماني بتعيين يوسف الشهابي أميراً على بلاد جبيل والبترون ، وهو في السادسة عشرة من عمره ، فدخلها في شهر آذار سنة ١٧٦٣ . وجعل جبيل مقرٌاً له في عهد عمٌه الأمير منصور ( ١٧٥٤ – ١٧٧١ ) ، إلى أن تنازل له عَمٌه عن إمارة الجبل والشوف سنة ١٧٧١ ، فكان أوٌل أمير مارونيٌ عليها في هذه السنة ، دون أن يكون له نِدٌ ، أو يبقى له نعير !!!