العلاقَةُ بينَ السَلامِ والإنسانية: ليبيا المكلومة نموذجًا
على الرُغم من أنَّ المُشير خليفة حفتر قائد “الجيش الوطني الليبي” سطع نجمه كعسكري وسياسي فإنّ نجله الأكبر الدكتور الصديق حفتر الحائز على دكتوراه في الحقوق الدولية يسير في طريق آخر مميز عنوانه السلام الاجتماعي.
الدكتور مازن مجَوَّز
تُجَسِّد العلاقةُ بين السلامِ والإنسانية التلاقي في المساحة الهائلة للقِيَمِ الروحية والإنسانية، هي علاقةٌ راسخة في سجل الإنسانية منذ القدم، إذ عرفتها الكثير من العهود ولا تزال تنادي بها الكثير من المنظمات الأممية وعشرات الدول حول العالم.
فالسلامُ هو أحدُ مقوّمات الإنسانية، وهو يُشَكّلُ الاستقرارَ النفسي والاجتماعي والسياسي في المجتمعات. وهذا العامل الجوهري في الحياة الإنسانية لا يقف عند السلام السلبي، والذي يعني غياب الحرب وإنما يتجاوزه إلى السلام الإيجابي، والذي يعني غياب الاستغلال وإيجاد العمل الاجتماعي التضامني.
وبصورةٍ شاملة، يُعَدُّ السلامُ عمليةً اجتماعية لها العديد من المستويات، وذلك بدءًا بالسلام العائلي – ثم المجتمعي، مرورًا بالإقليمي والدولي وانتهاءً بالعالمي، أَوَلَيسَ السلامُ الاجتماعي حالةً من الوِئامِ والمُصالحة بين جميع المكوّنات السكانية؟
في هذا السياق تُعتَبَرُ ليبيا واحدة من أبرز البلدان العربية التي تحتاجُ في منظومتها إلى هذا النوع من السلام المصحوب بمستوياته كافة، وهو عاملٌ تفتقده اليوم لكنه لطالما شكّلَ إحدى سماته في الكثير من العهود التي مرّت بها .
هذا ما يؤكد عليه الدكتور الصديق حفتر، الإبن الأكبر للمشير خليفة حفتر، القائد العام لـ”الجيش الوطني الليبي”، متوقِّفًا عند العديد من السمات التي طالما تميّزَ بها الشعب الليبي، خصوصًا تلك الضرورية من أجل تحقيق المساهمة الفعّالة في ورشة إعادة إعمار ليبيا “المُنتَظَرة” وأبْرزها ترسيخُ مَبدَإِ المُصالحة بين كُلّ أفْراد الشعب الليبي، وطيُّ صفحةِ الماضي، وفَتحُ صفحةٍ جديدة للسلام في البلاد تستند على المحبة والثقة بالنفس لدى كل ليبي وليبية، والثقة المتبادلة ، والإرادة الصلبة وخبرات جيل الشباب “كي نُحَقِّقَ طريق السلام والإنسانية معًا”.
ينطلق حفتر من أن “ثقافة السلام تتقاطع بمكوّناتها مع المعاني التي تحملها الإنسانية من الإحساس والرحمة والرعاية والتعاطف مع الآخرين، ولا يمكن أن يعمل السلام والإنسانية معًا لخلقِ عالمٍ أفضل وأكثر استدامة وسعادة للجميع، قبل أن نُعزِّزَ السلام والإنسانية في دواخلنا”.
ليبيا، وككثير من الدول العربية والإقليمية والعالمية شهدت حروبًا ونزاعاتٍ وصراعاتٍ دموية وتحدّياتٍ كبيرة، لكن المؤسف أنَّ في أغلب هذه الصراعات كان الشعب هو مَن يدفع الفاتورة الباهظة في الأرواح والممتلكات. وبالطبع لا تخلو هذه الأثمان من عوامل مؤسفة ومُحزنة من إبادةٍ وقَتلٍ وتحقير، وأَسرٍ ونزوحٍ قسري وتهجير، واضطهادٍ وتشريدٍ وتعذيب، مصطلحاتٌ تُعبّرُ عن أصعبِ ما يُصيبُ الإنسان جرّاء حروبٍ يشنّها عليه أخيه الإنسان.
هذا الواقع المرير غالبًا ما يَختَتِمُ مساره السوداوي بالحوار والتفاوض والوساطة، وحلّ الخلافات بطرقٍ سلمية لا عنيفة، وهذا ما تفرضه المصالح القومية والعليا للدول المتناحرة في الكثير من التجارب في العقود السبعة الأخيرة، لينعم بعدها البَلَدان المُتحاربان ( كما الدول المشاركة معها في الحرب أو الصراع ) بالسلام والعدل وحماية المصالح المشتركة. ألا يستوجِبُ الأمرُ منّا جميعًا العملَ سويًا لتحقيق السلام والاستقرار؟
من هنا يرى حفتر أنه إزاء النزاعات الحاصلة والخسائر المادية والبشرية الهائلة التي خلّفتها ولا تزال، إضافة إلى ما تتركه في نفوس المصابين من تداعيات نفسية، خصوصًا أجيال المستقبل من الفئات العمرية الصغيرة والشبابية، “لا يسعنا إلّا أن نُجَدِّدَ الدعوة لدوائر القرار في كلِّ بلدٍ يشهدُ حربًا أو يشنُّ حربًا على بلدٍ آخر، أو يتحضَّر لحربٍ قريبة على بلد آخر، إلى التفكير بالسلام بدل الحرب، والتضامن والتكاتف الإنساني بدل الكره والانتقام، فكفى الإنسانية حروبًا”.
ويسأل : “ألا نرى كيف يقود تغيّرُ المناخ العالم نحو كوارث متعددة غير مُتَوَقَّعة ونحو خوفٍ كبيرٍ من المستقبل؟ لقد آن الأوان لنتكاتف سويًا في صناعة السلام وحماية الإنسانية، لا أن نكونَ حليفًا ل”تغير المناخ” في تدمير الإنسانية والبشرية من دون رحمة” .
إنَّ السلامَ لا يبدأ إلّا حينَ يُدرِكُ الناس أنَّ سلامَ غيرهم لا يُنقِصُ من هنائهم شيء، وثقافة السلام هذه هي أكثر ما نحتاج إلى زرعها في نفوس وعقول الأجيال، خصوصا جيل الشباب، نظرًا إلى الأدوار المهمة التي تلعبها المشاركة المجتمعية في تعزيزِ روابط السلام والإنسانية، من طريق المشاريع التطوّعية والمساهمة الفعّالة في خدمة المجتمع، والعمل على زيادة درجة الوعي والإدراك لديهم، حول كيفية تأثير أعمالنا الفردية والجماعية على السلام المحلي والإقليمي والعالمي، والإضاءة على سبل تعزيز هذه المستويات، إنه أحد مظاهر التكاتف الإنساني المحلي في سبيل بناء عالم أكثر أمانًا واستقرارًا.
هذا التكاتف كان الحافز وراء الجهود التي يبذلها الصديق حفتر منذ سنوات على نطاق واسع لتحقيقِ نجاحِ وإنجازِ إعادة الإعمار، ودعم المشاريع الهندسية في ليبيا. فهو يتعاون مع الجهات المعنية لتنفيذ مشاريع البنية التحتية بكفاءةٍ وفعالية، ما يُسهِمُ في تحسينِ الظروف المعيشية وتعزيزالتنمية الشاملة. واليوم وبعد “إعصار دانيال” تضاعفت حاجة البلاد إلى هذه الجهود، خصوصًا لجهودِ شخصٍ أكاديمي من حملة الدكتوراه في الحقوق الدولية، والذي وفق جليل الحرشاوي، المتخصص في الشأن الليبي، والزميل المشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، “عندما عاد والده إلى ليبيا في 2011، ظل الصديق بعيدًا من الأنظار، ولم يرتبط قط بأيِّ جماعةٍ مُسَلَّحة أو بمسائل أمنية، بل كان مواطنًا مدنيًا، وهذا ما جعله يكتسب أهمية خاصة”.
إنَّ العالمَ العربي بات اليوم في حاجةٍ ماسة إلى حملةٍ واسعةِ النطاق من أجل ترسيخِ منظومة القِيَمِ المُتعلّقة بالسلام، ولا نعزو ذلك إلى افتقار منطقتنا إلى تراثٍ عميق في هذا المجال، إذ أنَّ التجاربَ التاريخية تؤكّدُ تمتّعها بهذا التراث، لكن ما يدعو التوقف عنده مَلِيًّا هو أنَّ تقاليد السلام والتسامح والمحبة الموروثة هذه باتت مُهَدَّدة بالتفكك والتلاشي نتيجة عوامل متعدّدة وشديدة التعقيد، ويكفي النظر إلى النزاعات في البلدان الشقيقة: اليمن والسودان والعراق وسوريا، لنتلمّس أنها ليست سوى عيّنات كاشفة عن هذا التآكل المتسارع في هذه القِيَم. والدليل أنَّ شعوبًا عدة في المنطقة لا تزال تتغنّى حتى اليوم بمظاهر التمييز التي صاحبت أكثر من عصر وتجربة مرّت بها .
في مقاربة حفتر لهذه المسألة نجد أنَّ “مَن أرادَ السلام فعليه أن يبقى يبحث عنه، وأن يعرفَ جيدًا السُبُلَ الآيلة الى تحقيقه”، والمشكلة هنا أن الكتلة ذات النوايا العدوانية في العالم أقوى من الكتلة المؤتلفة ذات النوايا الحسنة، فالسلام “الفضيلة الصعبة” اليوم له صراع طويل مع الحروب.
في الختام، وبعيدًا مِمَن يمكن له أن يلعبَ دورًا في تحقيق السلام بين البشر أكثر من غيره، فإنَّ السلامَ لن تكونَ له جذورٌ حقيقية إلّا باستعادة العلاقات ومعالجة ما جرى في الماضي، والبدء بمسارِ مُصالحةٍ إنسانية جديدة نحو الأمام، ومداواة اللٌحمة الاجتماعية التي تمزّقت طوال النزاع ونقل الناس إلى علاقةٍ ودية وتبييض العلاقات السوداوية. إنها بعض المسارات التي يمكن أن تساهم في تحقيق عالم أفضل وأكثر استدامة لجميع البشر.