فؤاد الحركة بين همومه العربية والولاء للبنان -فن – نقد
قلم: لويس الحايك
فؤاد الحركة بين همومه العربية والولاء للبنان -فن – نقد
الزميل فؤاد الحركة، الصديق ورفيق الدرب في ستينيات القرن الماضي، فاجأني بكمٍّ من كتاباته الصادرة خلال فترة غيابي الطويلة خارج الوطن ، وهي تحكي تاريخ نضاله في العمل تحت جناح السلطة التي آمن بها، وتجنَّد لها بكل طاقاته ولم تغب عينه مرة عن المسؤوليات التي أُوكلت اليه ووقوفه بأمانة الى جانب نقيبنا محمد البعلبكي الشامخ على حراك الزمن والعصيِّ على تقلباته .
طريق وعرة، وثّرها بمثابرته الدؤوبة وبكثير من التضحيات وتوّجها بمؤلفات قيّمة ابرزها “الوسيط في الصحافة العربية” الذي جاء جامعاً، ومرجعا موثّقا وواضحا باسلوب موضوعي امين يوفر للطلاب واصحاب
الاختصاص ما يحتاجون الى معرفته في سلطة لا يلامس عتبتها أحد الاّ ويقع في شباك تأسره بالمتاعب وبشغف التسلط المغري وحرية النبش عن القبور المغمورة بغبار النسيان .
لن اتمادى بالحديث عن هذا الكتاب الذي جمعه ووثقه بأمانة، وهو بجرأته ومصداقيته لَيذكِّر، في ما يذكِّر، بأن من يتجنَّد في خدمة السلطة الرابعة، حريٌّ به ان يعرف بأن الصحافي ” يجب ان يكون دائم الحضور بذاكرته وذهنه الى أبعد الحدود حتى لا يظهر الفتور في ما يكتبه أو يحرره… والصحافي هو من يتحرى الصدق والإخلاص في قول الحقيقة ويستمع باستمرار لصوت ضميره تجاه وطنه وأمته… والصحافي الناجح هو من ينشغف بالماضي والحاضر والمستقبل، ويطالع الصحف والكتب المختلفة، حتى ينقد ويدقق ويستفيد . ”
هذا التذكير، مع أرشفة كاملة لأسماء الصحافيين والجرائد والمجلات عمل المؤلف على عرضها بدقته المعهودة في كل ما كتب، وخاصة تلك الطروحات التي شغلته وشغلت الكثيرين بالآمال الكبيرة عن القومية العربية وظلت في دوران لا يسمح لها بالوصول الى حدٍّ واضح كما هي الأوطان التي تحمل اسمها .
فالعروبة التي كان فؤاد الحركة يدافع عنها بحرارة، حتى التطرف احيانا كما يبدو في تأنيبه للمهداوي الذي صرّح بأن العروبة ليست موجودة، وهي بدعة وخرافة .. فأجابه: هذا بالنسبة لك ولإخوانك شيء واضح، لأننا نعرف بأن السيرك توجد فيه حيوانات مختلفة الألوان والأجناس!! وما شخصك يا مهداوي الا واحد من تلك الحيوانات الموجودة في السيرك..
وأضاف: لا يا مهداوي لن تبقى على كرسي القضاء الذي دنسته يوم دخلت محكمة الشعب ..
هذه العروبة التي شغلت عالمها المترامي الأطراف في فترات مهيبة ثمّ عبرت منكفئة على امل نشور آخر، اسمح لنفسي بحكم صداقتي لفؤاد وبالتناغم الفكري بيننا حول مفهوم العروبة، ان اقوم بمداخلة حول هذا المفهوم وتعليله بتعليق على قراءة محاضرته: “بحث في الفكر العربي والإسلامي” التي تم طبعها العام 1988، وقد اكد فيها بان الأنظمة البشرية لا تزال تتغير حسب مقتضيات الخلق الانساني، إنه خلق من التراث والعقل والإبداع. كما أكّد ايضا ان تاريخ الجاهلية البشري كان رحيلا عبر الفلوات الصحراوية من جنوب بلاد ما بين النهرين الى آخر بلاد اليمن والبحرين .
أقول ان من الظلم ان نلصق العرب جميعا بالجاهلية قبل نزول الرسالة . فالتعميم هنا قد يجرنا الى محو تراث كامل لشعوب عرفت بلغتها الشفوية التي لم تقرأ لأنها لم تدوّن فالتدوين يومذاك كان بحاجة الى الكتابة والكتابة كانت تسمى صناعة والصناعة كانت محتقرة وصاحبها كان محتقرا في مجتمع الفروسية والفرسان. وما ان نزلت الرسالة حتى تم تدوين الشعر فاعتبر التدوين صناعة وعندها قيل، فيما قيل، صناعة الشعر .
لن ادخل في تفاصيل عن الشعر بهذا التعليق السريع، لكن لا بد ان نعترف بفضل العرب، في العصر الذي سبق نزول الرسالة الكريمة، وهو توحيد اللهجات المحكية التي ظهرت منها اللغة الفصحى قبل ان تكتب وقبل ان توضع لها القواعد فيما بعد وظلت محفوظة في ذاكرة الشعراء والرواة .
ان صهر اللهجات في بوتقة واحدة كان له الاثر الكبير في مسيرة التوحيد قبل الاسلام وبعده، اذ تركزت اللغة على اصول واسس بنى النحاة عليها قواعد اللغة الفصحى، وهذه اللغة هي جزء لا يتجزأ من تراثنا الذي يُرجع اليه او يرجع اليه الكثيرون في تحديد الانتماء العربي. هذه اللغة التي حفظت لنا تاريخنا بذاكرة الشعراء والرواة، لا بد ان نقيم لها الفضل في حفاظها على الوجود العربي وانتماءاته ومسيرته، وهذا ما عجزت عنه محكياتنا اليوم في معركتها الخاسرة مع الفصحى والتي لنا عودة اليها لاحقا .
أخيرا، ومع الدكتور فؤاد الحركة في خاطراته مع القومية اللبنانية: “ان الولاء للبنان هو ولاء مطلق لا يقدم عليه اي ولاء آخر”، وفي تحليل ما آل اليه الوطن في زمان نعيش فيه ولا نعايشه وهو بحاجة الى “منقذ تتجسد فيه روح النضال الصحيح والاخلاق الحسنة والعمل البناء والشرف والاصالة في سبيل قيامة لبنان، لبنان الحضارة والعدالة والمساواة”. فكأن الحركة في حديثه سنة 1992 يقدم حلا مازال لبنان يبحث عنه بعد نشأته وزوال الوصاية عليه .