بناءُ الثقافةِ وصناعةُ الفكرِ الإنسانيِّ هما ركيزةُ النُّهوضِ بالحاضرِ والتأسيسِ لمستقبلٍ زاهرٍ
بِقَلَم الدكتور الصدّيق حفتر:
تُشكِّلُ الثقافةُ بكلِّ أشكالِها بروتوكولاً يسمحُ لنا بتقبُّلِ الآخَرِ في مجالاتِ الحياةِ كافةً، فهي تُعيدُ بناءَ الآراءِ والأفكارِ لتُصبِحَ مُنسجمةً أو أكثرَ انسجاماً مع ما هو مُختلِفٌ في ثقافاتِ الفردِ أو المجتمعِ الآخَرِ. وبمعنىً أشملَ، هي الآلياتُ الفكريةُ التي تسمحُ لنا بالانسجامِ معَ الاختلافاتِ الثقافيةِ القائمةِ بينَ الأفرادِ والمجتمعاتِ، حيثُ تؤدي التفاعلاتُ الثقافيةُ والفكريةُ إلى تماسُكٍ اجتماعيٍّ متناغمٍ بينَ مُكوِّناتِ المجتمعِ الليبيِّ كافةً، تحتَ المِظلةِ الراقيةِ الجامعةِ للوَحدةِ والتسامُحِ والتعايُشِ.
ومما لا شكَّ فيهِ، أنَّ الثقافةَ تلعبُ دوراً مهماً في سلامةِ المجتمعِ، إذ من دونِها لا يُمكنُ أن يقومَ المجتمعُ ويزدهرَ. فالثقافةُ أصلُ كُلِّ الروابطِ التي تُعزِّزُ تماسكَ المُجتمَعِ الليبيِّ وتواصُلَهُ، وذلكَ لأنَّ جميعَ مواطِني المجتمعِ يتشاركونَ في الكثيرِ منَ القِيَمِ والمُعتقَداتِ وأنماطِ السُّلوكِ الوطنيةِ معَ المواطنينَ الآخَرين، على الرُّغمِ من وجودِ بعضِ التنوُّعِ في القِيَمِ والعاداتِ والتقاليدِ حسبَ المنطِقةِ والقبيلةِ، وهذا كانَ لهُ وجهٌ إيجابيٌّ، حيثُ جعلَ من ليبيا دولةً ذاتَ ثقافةٍ غنيةٍ ومتنوعةٍ.
وتلعبُ الثقافةُ دوراً مهمّاً في حياةِ المجتمعِ الليبيِّ، فهيَ تُشكِّلُ العَلاقاتِ الاجتماعيةَ، وتبُثُّ روحَ التحدي والتطويرِ، كذلكَ تُعَدُّ من أهمِّ آلياتِ الحِفاظِ على النظامِ الاجتماعيِّ في وطنِنا الحبيبِ ليبيا.
والثقافةُ في حياتِنا نوعان:
الأولُ: الثقافةُ غيرُ الماديةِ
وهيَ مجموعةُ القِيَمِ والمُعتقَداتِ، واللغةُ والتواصُلُ بينَ الأفرادِ والمُمارَساتِ المُشترَكةِ بينَ مجموعةٍ منَ الناسِ، بالتالي هيَ التي تُكوِّنُ معرفتَنا وحِسَّنا العامَّ، وتُنظِّم القواعِدَ والقوانينَ والأخلاقَ التي تحكُمُنا، إذ تدخلُ في ما نفعلُ، وفي ما نتصرَّفُ، وفي طبيعةِ أدائِنا ونِتاجاتِنا. كذلكَ فإنَّها تُعلِّمُنا كيفَ نسيرُ في الشوارعِ، ونجلِسُ في الأماكنِ، ونتفاعلُ معَ الآخرينَ، وكيف نتصرَّفُ في المواقِفِ الحياتيةِ، بحسبِ المكانِ والزمانِ والمجتمعِ.
الثاني:
الثقافةُ الماديةُ التي يصنعُها البشرُ بأيديهِم ويستخدمونَها في حياتِهِمِ اليوميةِ، وتتضمَّنُ مجموعةً واسعةً منَ الأشياءِ، كالمدارِسِ، والجامعاتِ، والمباني، والأبراجِ، والأدواتِ التكنولوجيةِ، والملابسِ والكتبِ والفنِّ التشكيليِّ، والمسارحِ، ودُورِ السينما، والحفَلاتِ الموسيقيةِ، جميعُها يُشارُ إليها على أنها مُنتَجاتٌ ثقافيةٌ.
ويُجمِعُ الكثيرُ من عُلماءِ الاجتماعِ على أنَّ النوعين متصلان بشكلٍ وثيقٍ، فإنَّ ما نُقدِّرُه ونؤمِنُ بهِ يؤثِّرُ في ما نقومُ بهِ في حياتِنا اليوميةِ.
وفي الواقعِ، ومن حيثُ لا ندري، تتركُ الثقافةُ الماديةُ تأثيرَها في المُواطِنِ في ليبيا المتجانسةِ دينياً، مُقارَنةً بالبُلدانِ الأخرى. فعلى سبيلِ المثالِ، قد تؤدي مسرحيةٌ أو عملٌ فنيٌّ أو قصيدةٌ شعريةٌ قصيرةٌ، تعكِسُ ما يُخالِجُ قائلَها من مشاعرَ وما يفيضُ بِهِ صَدرُهُ، وهذه الاحتمالاتُ تُعَدُّ من جوانِبِ الثقافةِ الماديةِ، إلى تغييرِ موقفٍ ما لدى بعضِ المُشاهدينَ أو المستمِعينَ، ومُعتقَداتِهِم التي تندرجُ تحتَ الثقافةِ غيرِ الماديةِ.
لا تقفُ الثقافةُ عندَ هذهِ الحدودِ، فهيَ تدخلُ في تشكيلِ أعمالِنا اليوميةِ وخِبراتِنا في المُجتمعِ، ومن هنا تهتمُّ الدُّوَلُ المتقدِّمةُ ببناءِ الثقافةِ وصِناعةِ الفكرِ الإنسانيِّ، باعتبارِها العِمادَ الأولَ الذي يستثمرُ الماضيَ لينهضَ بالحاضِرِ ويؤسِّسَ لمُستقبلٍ يشعُّ على أُفُقٍ بلا حدودٍ.
فكلُّ شيءٍ يتميَّزُ فيهِ شعبُنا الليبيُّ العزيزُ عن بقيةِ الشعوبِ المحيطةِ، وعلى المستوى العربيِّ والعالميِّ، هو من مُنتَجاتِهِ الثقافيةِ، فلْنَغتنِمْ فُرَصَ القَرنِ الواحدِ والعشرين، ولنُثبِتْ لِلعالَمِ أنّنا بوَحدَتِنا وتضامُنِنا الوطنيِّ أقوياءُ… الثقافةُ تُوحِّدُنا