كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة “الربيع العربي”؟

هادي دانيال- تونس- فينكس- أن تؤكّد سفيرة تشيكيا في دمشق حقيقةَ أنّ قادة الدول الغرْبية افتعلت عمْداً وبسُعارٍ وحشيّ ما أسْمَتْه “الحرب الأهلية” في سورية، وأنّ الحكومات الغربيّة حَرّضتْ بمخيّلة شيطانيّة لتشويه الرئيس بشّار الأسد ونظامه عبر وسائل تشكيل الوعي الجمعي لما يُسَمّى “المجتمع الدولي”، وعرقلت ولا تزال جميع محاولات إجراء حوار بين الحكومة والمعارضة السوريّتين، وفي ذات الوقت تموّل وتسلّح الإرهابيين لقتل السوريين وإضعاف دولتهم وتدمير بناها التحتية، وتخلق ظروفاً معيشيّة صعبة للمواطن السوري بفرض عقوبات اقتصادية قاسية متذرّعة بالافتراءات والأكاذيب الصفيقة.

وأن تُذكّر الدبلوماسية التشيكيّة مَن تخونه ذاكرته، بأنّ الدولة السورية كانت “مزدهرةً وآمنةً ونموذجاً حضارياً” قبل أن يُطلِق عليها الغرْب الأمريكي ذئاب الظلام من كهوف وحشيّته التي يُخفيها تحت شعارات “الديمقراطية” و “حقوق الإنسان” الزائفة تلك الشعارات التي تؤكد زيفها يوميا “واحةُ الديمقراطية وحقوق الإنسان” في “الشرق الأوسط” المدعوّة “إسرائيل” صنوّ سيّدة الغرب “الولايات المتحدة الأمريكية” كونهما مشروعين غربيين تمَّ إنشاؤهما بمجازر الإبادة الجماعية على أنقاض السكان الأصليين، الهنود الحمْر والفلسطينيين.

أن تؤكد السفيرة التشيكية ذلك كله وتذكّر به، في هذا اللحظة التراجيديّة من تاريخ البشرية المعاصرة، يمنحنا فرصة أخرى لنؤكد بدورنا أنّ هذا الغرب الذي اصطدم بصخرة الصمود السوري على مدى ثلاث عشرة سنة لم يتخلّ نهائياً عن أطماعه في منطقتنا بل هو بصدد استئناف تنفيذ مشروع الهيمنة العدواني الذي بدأه في فلسطين منذ ستة وسبعين عاما.

فهذه الحكومات الغربية لم تكتفِ بالصمت المتواطئ إزاء جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تُمعِن “إسرائيلهم” المدللة بارتكابها في لبنان وسورية جنباً إلى جنب الإبادة الجماعية التي تواصلها منذ عقود في فلسطين المحتلة، هذه الحكومات الغربية هي نفسها التي اخترعت “داعش” وألقت بها على أراضي الدول المستقلة ذات السيادة كي تجعل من ادِّعاءِ عزمها على التصدي لخطر “داعش” ذريعة لتدخلها العسكري التدميري في شؤون الدول المستقلة وإطاحة أنظمتها الوطنية “المارقة” على الإرادة الغربية. وهذه الحكومات عينها إيّاها التي اخترعت أيضاً أعجوبة “قوات سورية الديمقراطية” من “يساريين” مزعومين للمشاركة في تمزيق وحدة شعب سورية وجغرافيتها السياسية وإطاحة النظام الوطني في دمشق بذريعة أنه “ديكتاتوري” إلى جانب إخونجية “جبهة النصرة” الاسم المحلي لتنظيم “القاعدة” الذين صنفتهم الحكومات الغربية والحكومة الأمريكية خاصة بأنهم “معارضة معتدلة” قياسا إلى “داعش” طبعا. هذه الحكومات “الديمقراطية” هي التي تصمّ آذانها عن صراخ الملايين من مواطنيها الذين نزلوا إلى الشوارع يطالبونها بوقف حرب الإبادة الجماعية في غزة بعد أن انقشعت غشاوة التضليل الإعلامي الغربي عن بَصَرِهِم وبصائرِهِم فلفظ وَعْيُهُم الإنساني السردية الإسرائيلية واعتمدَ بحماسةٍ السرديّةَ الفلسطينية تحت تأثير ما يُشاهدونه على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي مِن فظائع مَحرقةِ غزّة الهائلة المتواصلة منذ عام تقريبا إذْ يُعدَم ضحاياها الفلسطينيون حرْقاً وقتلا بالقذائف والقنابل وسحْلاً وردْماً أي وأداً جماعيّاً أو يُترَكون فرائس لذئاب الجوع والعطش والأوبئة، وذلك كله بأسلحة أحفاد ضحايا الهولوكست الأوربي الذي حوّل ضحاياه اليهود إلى جلادين في مشروع غربي يُدعى “إسرائيل” لخدمة المصالح الغربية على حساب شعب فلسطين وبقية شعوب المنطقة العربية. و قادة الغرب الذين يسمّون حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الكيان الصهيوني على غزة والضفة الغربية “دفاعاً إسرائيلياً عن النفس” ويتواطؤون مع مجرم العصور “نتنياهو” في مواصلتها ويزوّدونه بكل ما يطلبه من أحدث أسلحة القتل والتدمير ويزعمون في الوقت نفسه أنهم يريدون “وقف إطلاق النار” في غزة وإدخال المواد الغذائية إلى سكانها الفلسطينيين، هؤلاء أنفسهم ومعهم الحكومة الإسرائيلية كانوا ولا يزالون يمولون ويسلحون ويدربون ويجندون ويسوّقون سياسياً وإعلاميا ثوّار “ثورات الفوضى الخلاقة” لإقامة ما يُسمى “الشرق الأوسط الجديد” من “إسلام آباد إلى مراكش” وذلك بتقسيم الدول الوطنية في هذا الحيّز الجغرافيّ الشاسع إلى دويلات فاشلة تقوم على أسس عرقية وطائفية دينية وتدور جميعها في فلك “دولة إسرائيل اليهودية الكبرى”،

ففي هذا السياق مثلا يُورد تقريرٌ يصف مصادره بالعليمة أنّ الإدارة الأمريكية تعزّز وجودها الاستدماري في شمال سورية وتهيّئ عملاءها (“قسد” وغيرها) لإعادة السيطرة على حلب والحسكة والرقة ودير الزور مستغلة فرصة نشوب حرب إقليمية في المنطقة، كما يعوّل “مُعارضون” تونسيون في الخارج على أنّ عواصم غربية بصدد التحضير لتنفيذ سيناريو إطاحة الرئيس التونسي “قيس سعيّد” في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية القادمة على غرار السيناريو الذي أطاحت به الرئيس “زين العابدين بن علي”. الشيء من مأتاه لا يُسْتَغْرَبُ، فَمِن السفارات الأمريكية في البلدان العربية المُستهدَفَة في شمال أفريقيا وغرب آسيا كان يطلّ المايسترو ملوّحا بعصاه التي يقود بها الأوركسترا التي تعزف “سمفونية الربيع العربي” سيّء السمعة والمآلات، وأحيانا كانت الحماسة تدفع هذا المايسترو إلى أن يقود “الدبكة الربيعية” في الساحات العامة كما فعل سفيرا واشنطن وباريس في سورية حين توجّها إلى مدينة حماة في 08تموز2011.

وفي هذا السياق أيضاً تنافس زعماء الولايات المتحدة ديمقراطيين وجمهوريين على كسب ودّ “إسرائيل” فأعلن “جون بايدن” أنّه يفخر بصهيونيته، واستغرب “دونالد ترامب” مستنكرا أنّ “إسرائيل” الآن “دولة” صغيرة جغراسياسيا بعد أن نَقَلَ في عهدته الرئاسية السابقة السفارة الأمريكية من “تل أبيب” إلى القدس وأطلق مشروعه “الابراهيمي” ملمحا بذلك إلى تمكين “نتينياهو” من ضمّ قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية إضافة إلى الجولان السوري المحتل، وطرد عرب أراضي ال48إلى لبنان، على طريق إقامة “دولة إسرائيل اليهودية” الكبرى التي يبيّن اعتراف الإدارات الأمريكية بها مُسبقا مدى هشاشة مصداقية وجدية حديث واشنطن عن “حلّ الدولتين”.

إذاً، بموازاة ما تقوم به “إسرائيل” الآن في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وسورية ولبنان واليمن تُعدّ السفارات الأمريكية العدّة والعتاد في شمال أفريقيا وغرب آسيا وخاصة في سورية وتونس والجزائر لطبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة “الربيع العربي” لإطاحة الدول والأنظمة الوطنية التي صمدت نسبياً في وجه الرياح الصهيو أمريكية، وأدوات هذه الطبعة الجديدة هم أنفسهم إرهابيو الإسلام السياسي المتوحش ومرتزقة النيو يسار الليبرالي الذين تنكروا لأصولهم الماركسية-اللينينية أو القومية العربية التقدمية واستبدلوها بفتاوى “حقوقوية ديمقراطوية” تبيح لهم ركوب القطار الإمبريالي الصهيوني إلى محطة “القضاء على أنظمة الاستبداد الوطني” ولن يوقظ ضمائرهم المخدّرة برائحة النقود أن يمر القضاء على هذه “الأنظمة” بتدمير الدول والأوطان وتمزيق الشعوب وترك ثرواتها نهبا لأطماع “الغرب الديمقراطي” الذي مع كل “انتقال ديمقراطي” مزعوم يحيل مؤسسات الدول المستهدفة إلى “خُرْدة” وشعوبها إلى مكوّنات ما قبل الدولة الوطنية من قبائل عرقية وطوائف دينية متناحرة.

إنّ هؤلاء الذين يصفقون لأشكال الحصار الاقتصادي الجائر الذي يفرضه الغرب على شعوبهم كما هو الحال في سورية وتونس، والذين يؤازرون السفارات الأجنبية لإطاحة النظام الوطني الحريص على استقلال الدولة السياسي وسيادتها واكتفائها الذاتي اقتصاديا وتماسكها الاجتماعي (على الرغم من النواقص التي يمكن تداركها بالنضال السياسي المدني السلمي في أفق وطني ) وصولا إلى سلطة تابعة لمصالح الأجنبي يخلطون أيضا بين الحرية كقيمة إنسانية وشرط لبناء الإنسان وإبداعه جماليا وأخلاقيا وبين الانزلاق إلى الفوضى الهدامة المُفضية إلى الجريمة والتدمير والتعفن الأخلاقي والكوارث البيئية والهباء الاقتصادي والفجور السياسي والتفكك الاجتماعي، هذا الخراب الشامل الذي يُدَشَّن بهدم أسوار الدولة والمجتمع الوطنيين وجعلهما بالتالي مُباحَين لإرادة وأطماع دول غربية تَعِدُ أدواتها المحلية بالحماية المسمومة.

فالولايات المتحدة الأمريكية التي تفرض تنفيذ القرارات الجائرة تحت البند السابع عندما يكون المستهدَف دولة عربية “مارقة” على إرادتها ومصالحها هي التي حالت وتحول دون تنفيذ عشرات القرارات الأممية ضد “إسرائيل” ولصالح حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، و”واشنطن” التي تزعم أنها تريد تصدير الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان إلى دول العالم هي التي تحول دون فرض وقف حرب الإبادة الجماعية في غزة، وهي التي فرضت دكتاتوريتها على دول العالم عندما حالت في مجلس الأمن الدولي دون تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية الساحقة قبول دولة فلسطين عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة.

إنّ البشرية المعاصرة تشهد صراعا قاسيا بين قوى العولمة الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد (وهي ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان) تحويل المجتمع العالمي وقوانينه إلى غاب تسمح قوانينه بسيطرة القوي عسكريا على الضعيف أو حتى على الأقل قوة فتُستهدَف الدول الوطنية وتُنْتَهَكُ سيادتها ويَسهل تفكيكها وإطاحة أنظمتها، وترزح شعوبها تحت وطأة أطماع الدول الغربية التي لم يفارقها الحنين يوما إلى ماضيها الاستدماري البغيض ولم تغادرها نزعة الهيمنة والتوق إلى إخضاع العالم وإعادة صياغته على مقاسات مصالحها على الرغم من أنها هي التي وضعت بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية القانون والشرعية الدوليتين ثمّ سارعت فور انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو إلى الخروج الوحشي عليهما والتنكر لهما والسعي المسعور إلى تجريد شعوب الدول الوطنية المستقلة ذات السيادة من حقها في تقرير مصائرها، لإلحاقها بالمركز الغربي الإمبريالي، الأمر الذي بات يستدعي تآزر الدول الوطنية وأنظمتها ونُخَبِها السياسية والثقافية للتصدي باتحادٍ وتحالفٍ متينين سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا حضاريا لدحر المشروع الغربي الاستدماري وإقامة عالم جديد متوازن ومتعدد الأقطاب تسود الندية والمصالح المشتركة علاقات دوله البينية والإقليمية والدولية في أفق إنساني متوازن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *