علاقتي بالآخر .. نحو أنْسَنَةِ الخطاب العربي
بقلم: د. محمود عبد الفتاح المقيد – لعل من أهم الإشكاليات التي نواجهها في واقعنا المعاصر، إشكالية العلاقة مع الآخر والاعتراف به، وقبوله كما هو، وفقا لمعيار الإخوة الإنسانية الجامعة، وتلك المعضلة جعلتنا نعيش أو نتعايش مع ثقافة القطيعة مع الآخر المختلف عنا، والشكّ بكل ثقافات الأمم، والانغلاق على التراث المحلي، والنديّة مع الحضارات الأخرى، ورفض كل منجز بشري يولد خارج الهوية، مما أنتج جموعًا من المُؤَدلَجِيْن المُتَنَمِّرينَ العَنِيْفِين والمُتَعَصِّبِين..
إن سوء الفهم وقصور الإدراك والإحساس الزائف بالمعرفة والخبرة والعلم، وعدم الاعتراف بمواطن الخطأ والقصور، وعدم أخذ الوقت الكافي في التفكير، وغياب المنطق والحكمة، أضف إلى ما ذكرناه انعدام الذوق والأخلاق، كل ذلك يدفعنا في كثير من الأحيان إلى التسرّع في الحكم، أو إطلاق أحكام تقوم على انطباعات مسبقة وغير دقيقة عن الآخر، الأمر الذي يجعل علاقتنا بالآخر مشوَّهةً، تعتمد غالبا على ما في أذهاننا من الصور النمطية الضبابية عنهم، ومما لا شك فيه أن الحَدَّ من النقد، وإطلاق الصفات والأحكام الهمجية على الناس.. من قبيل: هذا كافر، وذاك ضَالّ، والآخر فاسق … إلخ، كلُّ ذلك يفتقر إلى العقلانية والحكمة والمنهجية السليمة في التفكير، ويتضمّن قسوة وغلظة وانتهاكًا للحقوق والحريات، علمًا بأننا نمنح تلك الصفات لأنفسنا، ولا نقبلُ القدح في تلك المضامين إن تعلَّق الأمر بذواتنا وبثقافة مجتمعنا المهترئة، ولله درّ المثل القائل: أحمق ما يكون الرجل إذا صدَّق ظنه!
ورفض الآخر منشؤُهُ التَّطرفُ الفكريّ الذي يؤدِّي إلى الانحراف السُّلوكي، وهو من أخطر الظواهر التي تهدد استقرار المجتمعات وأمنها وتعكّر أجواء السلم الأهلي والوحدة بين مكوناتها السياسية والاجتماعية، وتكمن خطورته في كونه يكرس العنف والحقد والإقصاء والأنانية، مما يؤدّي إلى ضعف المجتمع وتفككه، وانتشار الخلافات والنزاعات غير المُبررة، والتي قد تقود بدورها إلى اقتتال وحروب تُسفَكُ فيها دماءُ الأبرياء، وتَلحقُ خلالها أضرار بالمؤسسات والمرافق الخاصة والعامة، والأهم من ذلك كله هو إضعاف كيان الدولة، وتراجع قدراتها في شتى مرافق الحياة الاقتصادية والتعليمية والصحية وغيرها ..
يقول الدكتور فرج فودة –رحمه الله- في كتابه القيّم (الحقيقة الغائبة): “إن التطرف بكل أشكاله يعود إلى مشاكل نفسية عند اللاوعي لدى الإنسان، ونحن مدمنون للتطرف والعنف ورفض الآخر. لا أحد ينكر أن الدين ربما يمثّل لدى شعوبنا هويةً وانتماءً، ولكن نجهل أو ننسى أن الدين نفسه يحترم الآخر، ويعطي له حرية الاعتقاد والاختلاف والرأي، وبالمجمل فإن الأديان تدعو للتسامح مع الآخرين”.
ولابد ألا ننسى أن البشر جميعًا تجمعهم الهوية الإنسانية الجامعة التي يستظل بظلّها كلّ عاقل، بغضِّ النظر عن دينه أو إثْنِيَّتِهِ أو عِرقِهِ.
ورفض الآخر وتشويه العلاقة معه يقودنا إلى الفشل على كافة الأصعدة ناتج عن شعور الكثير من شبابنا بالضعف والوهن والهشاشَة، وناتج أيضًا عن توهُّمهم بأنّ التنطُّع بالدين والتطرف والغلوِّ في تفسيره وادِّعَاء التمسُّك به واحتكار فهمه، وبحجة الدفاع عنه، بحيث يشعر الفرد أنّ وجوده في خطر، وهويته في خطر، وأننا دوما مستهدفون، كل ذلك قادنا إلى السقوط في مستنقعات المرض والجهالة، وفي وحل التعصُّب والأنانيَّة والنَّرجسية العمياء بقصد أو بدون قصد.
وفي المحصلة سنجد أنفسنا أمام مواطن فاشل محبط مقموع، غير متحقق الذات، وفي الوقت نفسه هو غاضب ثائر متمرّد وناقم على الأعداء .. طبعا المقصود هنا أعداء الدين (وفق مُعتقدِهِ الضيِّق)، وليس أعداء التحضّر والإنسانية.. والعجيب والغريب أن يحدثَ كل ذلك بينما نحن لا ندري ما الذي دَفَع بذلك المواطن التعيس المطحون إلى التكاسل أو الخمول وعدم الإنتاجية..
إن عالمنا متسارع الأحداث، سريع الحركة والتغيير، تتراكم فيه المستجدات كل يوم، بل كل ساعة، والرغبة في التأهل للمستجدات تشكل حافزًا وضرورة لمواجهة ما بعد الحداثة، وهذا ما يطرح قضية التعددية كأحد الإشكالات المهمة في عصرنا، وخاصة بالنسبة إلينا نحن العرب، علما بأنّ العالم المتحضّر من حولنا جعل من التعددية والاختلاف والتنوع بين البشر ميزة فرضتها دواعي الزمان والمكان دون استئذان، ثُمّ تُرِك الأمرُ للبشرية لتتصرّف بحكمة تجاهها. وهنا لابد أن نتذكر أنّ قضية التعايش والتفاهم بين الشعوب والأمم تعني قبول التعددية بين أبناء الأديان والحضارات والثقافات المختلفة، وهذا الأمر نابع من وصية قرآنية واضحة بضرورة حصول التعارف بين البشر، ذلك التعارف الذي يحمل في مضامينه قِيَم التسامح والحب والوئام، والنظرة الإيجابية للآخر، لا حقد ولا كراهية فيه، إن مسألة التعددية هي الزخم الذي يُعطي للحياة معنى، بل هي الروح التي تسري في أعماق النفس والجسد، وعلينا أن نُقِرَّ أن بديل التعددية هو مواجهة الآخر، وعدم الاعتراف به، وهذا ما سيزيدنا – نحن العرب والمسلمين- انعزالاً وتقوقعًا على أنفسنا، وسيؤدِّي إلى فقدان أحد أهم مصادر القوة في عالمنا، علمًا بأن ذلك لا يتعارض مع الهوية التي تعني بشكل ما نوعًا من التفاعل والديناميكية مع المتغيرات الجماعية والفردية، وإثبات الذات وسط التحديات الهائلة، لذا يجب ألَّا نختزلها أو نضيِّق مفهومها في أُحَادِيّة الدين أو العرق أو المذهب أو الطائفة، بل هي مقدار الاندماج والتكيُّف والتفاعل في إطار البوتقة أو المظلة الإنسانية الواسعة. ولنتذكّر دومًا أنّ أي فردٍ مِنّا قبل أن يكون رجل سياسة أو اقتصاد أو دين هو إنسان أولاً، وعليه أن يعمل بمقتضى هذه الهوية الإنسانية الجامعة التي تحمل في مضامينها العميقة قيم المساواة والعدل والتسامح بين الناس، وعلينا أن نُدرك أهمية الكفاءة (Efficiency) عندما نُفاضل بين مستويات البشر المختلفة، وهنا يجب أن نكون على يقين أنه لا تلازم بين التُّقى أو الإيمان بالمعتقدات والكفاءة، فلربما يكون الرجل تقيًا، ولكنه يفتقر للكفاءة والمهارة، كما أنه قد يكون كُفئًا، ولكنه غير تقيّ. ولقد طرح القرآن الكريم نموذجًا حيًّا لنبي الله يوسف الصدّيق، عندما تقدّم لإدارة اقتصاد مصر في زمن الفراعنة، وفي ظلّ أزمةٍ طاحنة، لم يتقدّم بتقواه فقط، أو بانتسابه إلى أسرة نبوية شريفة من بني إسرائيل. وإنما أشار إلى قدرته الإدارية، وكفاءته العلمية، إلى جوار ما كان يتمتّع به من مستوى سامق رفيع من التقوى والأخلاق، “قال اجعلني على خزائن الأرض إِنّي حفيظٌ عليم”.
ويحضرني هنا سؤال آخر، ألا وهو: تُرى هل يشعر المرءُ بثقل الهوية لو عاش في الغربة – غربة المكان فقط- بين قوم يحبه ويحبونه ويتقبلهم ويتقبلونه ..؟‼ الجواب حتمًا لا، لأن فقرك وذُلّك وحرمانك من حقوقك في وطنك هو الغربة بعينها، وكما قيل: “ليس بلدٌ بأحقَّ بكَ مِن بَلَدٍ، خيرُ البلادِ ما حَمَلَك، فالغِنَى في الغُربة وَطنٌ، والفَقرُ في الوطَنِ غُربة!”.
إذن يكاد المرء يجزم أن مسألة الثقافة والهوية هي مسائل نسبية تختلف من شخص لآخر، ومن بيئة لأخرى ..، وتكاد تذوب أو تتلاشى كلما اندمجت الشعوب والثقافات والأمم مع بعضها ..، وكلما سادتها القيم الإنسانية العليا التي لا غِنى عنها لكل إنسانٍ على وجه المعمورة، ولا أبالغ بالقول إنّ التسلط على الناس باسم الدين يقود غالبًا إلى القمع وانتهاك حقوق الإنسان وكرامته وغياب قيم الديمقراطية، وكأنّ الدين (بفهمه المغلوط) يمنعك – للأسف- من أن تكون إنسانًا.
ولا عجب إذا قلنا إن ما يتعرض له الإسلام اليوم بسبب تفريغه من محتواه الإنساني العظيم، وفقدانه لمعاني الرحمة والرِّقّة، واقتصار أتباعه على أداء الفرائض والشعائر المفرغة من مضامينها الإنسانية والإيمانية العميقة، الأمر الذي أنتج تدينًا لا أخلاقيًا، شَرَّع كلَّ أنواعِ القَسْوَة والغلظة باسم دين الله، وبرر غزو الشعوب الأخرى، وسبي مواطنيها المسالمين، وانتهك عهد السلام الفطري الذي أوجده الله في الأرض بالأخلاق، ولذا فإن مسؤوليتنا اليوم تتمثّل في ضرورة العمل وبكل قوة من أجل أن يستعيد الإسلام إنسانيته، وأن يُسقط فقه القتل والدماء والوحشية والأذى، والاعتداء على الأمم الأخرى، وتقسيمها إلى دار حرب ودار سلام، وتخييرها بين الإسلام أو السيف أو القتل أو السبي أو الجزية والذلة، فالمسلم مَن سَلِمَ الناسُ من لسانه ويده. إن الإسلام الفطري بريءٌ مما يُنسب إليه في كُتُب التراث التي تحتاج برأيي إلى إعادة نظر وقراءة متأنية تُعيد للإسلام نقاءه وفِطرته السليمة.
للأسف لقد حاد الإنسان عن الهدف الذي خُلِق من أجله، إن المعرفة والتكنولوجيا وكل ما في الأرض وما نؤمن به في الميتافيزيقا والماورائيات هدفها خدمة الإنسان والمجتمع والرقيّ به..
إن تراثنا الديني حافل بالتصنيفات البغيضة للمسلمين وغير المسلمين، وأصبح المسلم -المتمذهب الذي حادَ عن الفطرة السليمة- يملك نظرة أحادية مقيتة للآخر المُذنب – من وجهة نظره- فصار تعدد الآراء والأفكار والأديان والمذاهب والتعددية نقمة ولعنة ووسيلة للتسلط على الناس ومحاسبتهم وتصنيفهم، ومِن ثمَّ الحكم عليهم، فصرنا بذلك أعداء للبشرية كلها، بل أعداء لبعضنا البعض، نسعى للهدم، ونفتش عن الزّلات والثغرات لكل مَن يختلف عنّا، وكأننا وكلاء أو مندوبين على الربّ، نصنّف البشر إما في الجنة أو في ردهات الجحيم، فِكرنا يقوم على الإلغاء والإقصاء والتخويف والثرثرة والتحريض، مما جعلنا ننكمش على أنفسنا، ونزرع بذور الفرقة والعصبية في عقولنا، ونبني جُدُرًا منيعة في نفوسنا ضدّ الآخر، ونبتعد بمئات السنوات الضوئية عن الانفتاح العلمي والثقافي، ونعيش في أتون مجموعة من الهواجس والخوف والتكفير للأمم الأخرى، الأمر الذي أبعدنا عن الحقيقة، وأغلق نوافذ الوعي أمام عيوننا، وجعلنا نعيش حالة من الغرور والزهو باسم الله، وصارت مفاهيم الشكّ والقطيعة والخصومة مع غيرنا هي السمة التي تميّزنا كمسلمين على وجه البسيطة ..
وتحت شعار أن الله أعلمُ بخطة إصلاحنا يتنطّع دعاة الدين وكهَنَتُهُ بأنهم أعلم بما يريده الله للعالمين، ويتصرفون وكأنهم وكلاء لله وناطقون باسمه على الأرض، وبالتالي فإن الهداية والتصالح مع الله يتم من خلالهم، لقد جعلوا من الإسلام عقبة في طريق التمدّن والتقدم والعقلانية، إنهم يتنمَّرون على عباد الله، ويعتاشون على ثقافة التخويف والإرهاب لعامة الناس .. لقد استخدموا الغيب والإيمان بالعالم الآخر في قمع الرأي الآخر وإرهاب كل من يختلف معهم.. إنهم يتخذون من بعض المرويات منهجا وسبيلا لوأد الأفكار …
ولو نظرنا بإمعان وتأمل لواقعنا الفكري أو الفقهي المُصطَنع سنجد أن لدينا فائضًا هائلاً في الفكر الديني – وليس الدين- والمذاهب والمساجد والفتاوى والدعاة .. ونقصا حادًّا ومُرْعِبًا في الأخلاق والعلوم والخدمات، وحقوق الإنسان والحريات، بل والكرامة الإنسانية ..
إنّنا بحاجة ماسَّةٍ إلى صدمات هائلة لعلنا نصحو من غفلتنا، ومن متلازمة النوستالجيا – الحنين إلى الماضي- التي تعشّش في عقولنا، ولعلنا نعمل بكل قوة من أجل إزالة حالة القطيعة بين الإسلام والإنسانية .. ونهتمّ بإعادة ترميم ما خرّبته الحِقَبُ الغابرةُ في وجداننا وعقلنا الباطن من منطوق ومقروء تنوء بحمله الجبال، لله درُّ جبران حين قال: “بين منطوق لم يُقْصَد، ومَقْصُودٍ لم يُنْطَقْ، تضيع الكثير من المحبّة”، فالخلل إذن في الفهم، أو في طريقة فهم النص والتعامل معه، ومع مضامينه ومقصوده، الذي لابد أن يتواءم وينسجم مع اعتبارات الزمان والمكان.
إن يقظة الضمير وصحوته تجعلنا نعترف بمواطن الخلل لدينا .. وتجعلنا لا نحتكر الحقيقة .. ما دمنا غير متصلين بالسماء والوحي، وما فائدة الدين إذا كان لعقا على ألسنتنا؟! وبماذا ستنفعنا دراسة كلام الله والسنن إذا كنا فاسدين حتى الثمالة؟! إن الحكمة هي محور الدين، وعلى المسلم أن يأخذها ويتلقفها حيثما كانت ..‼ والحكمة لا تحتاج إلى الكتب والمصنّفات والدراسات المطوَّلة، بل تحتاج إلى طهارة النفس والقلب، والصدق مع الله، ومع الناس- مع كل الناس- إن الإيمان بكفر الخليقة، وهلاك بقية الأمم يُميتُ الضمير في النفوس، ويعزز ثقافة التوحش بدلاً من القيم الإنسانية السَّمحة.
وفي الختام، علينا أن نثق تمامًا أن الإله الحقيقي يقوم بالقسط بين الناس، ويحكم بالعدل، وأنه لن يظلم أحدا، وأنه لا يعمل موظفا لدى جماعة معينة، ولا يمكن لأحد أن يحتكره لنفسه ولطائفته أو جماعته، وأنه لا يُحابي أحدا، ولن يجعل أحدا فوق قيمه، إذا أدركنا ذلك قولا وعملاً حينها فقط ستُشرق شمسُ القيم الإنسانية العظيمة على نفوسنا، وحينها سنقترب أكثر من نور الحقيقة وبرهان الوعي، وسيكون لنا مكان مرموق بين الأمم التي تحترم نفسها، وتعتز بثقافتها وتنوّعها واختلافها، وتجعله سبيلا للرقي والرّفعة، بدلاً من دركات السقوط والانحطاط..