نحن والآخر

د.أمل الأسدي

لقد وردت في أصل مفردة (الإنسان) آراء عديدة منها :إنها مشتقة من الأنس، والاستئناس، والمخلوق الذي يستأنس بالآخر،وينفر من الوحشة والوحدة،أو  المأنوس،الذي يؤنَس به.
وقيل :إن أصل الكلمة من الظهور والقرب،آنسته:أبصرته وهو بذلك يقابل (الجن)، وقيل أيضا:إن مفردة (إنسان) مشتقة من النسيان بناءً علی قوله تعالی:((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا))سورة طه،الآية ١٠٥
وفي كل الأحوال فالإنسان كائن حيٌّ، روحٌ وجسدٌ، وعقل وقلب،كائن فضله الله تعالی علی سائر المخلوقات وجعله يمتلك صفات ومواهب وملكة فطرية، رسمت دوره التفاعلي في الحياة، وانبثقت علی أساسها الواجبات والحقوق.
فالإنسان كائن اجتماعي مجبول علی التواصل مع الآخر
والتعارف عليه،وإقامة العلاقات الإنسانية المختلفة،فقد قال تعالی:((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))سورة الحجرات:الآية: ١٣
إذن التواصل لازمة من لوازم وجوده في الحياة.
ولو أخذنا بنظر الاعتبار الآراء التي  يعود إليها أصل مفردة(الإنسان) سنجد حضورها كلها في طبيعته وسلوكه وتعامله، فهو الذي يميل، ويحب، ويعشق ويتعاطف، ويتعلق ،ويحزن ويجزع علی فراق من يحب،وهو الذي  ينسی ويغفر ويصفح ويتكيّف مع البيئة والزمان والناس، فلا يعيش من دون ذاكرة مليئة بالحكايات والأحداث،وفي الوقت ذاته لا يسلِّم لهذه الذكريات،فيمضي ويستمر ويتطلع ليومٍ قادم،وهذا ما أدام عجلة الحياة رغم المكابدة ورغم الانحرافات التي تخلقها الماكنة الشيطانية أو الخط الشيطاني الذي نصب نفسه عدوا لبني آدام،وأخذ علی عاتقه دور الإيقاع بهم وغوايتهم!
إن الإنسان يبحث عن الألفة والحميمية مع الآخر،وتحت أي مظهر من مظاهر العلاقات الاجتماعية والأسرية،فتأنس الأم بتقبيل ابنها،ويسكن الابن في حضن أمه، ويشتد عود الرجل بساعد أخيه،ونستأنس بالسلام والمصافحة…الخ ، وهذه الافعال من شأنها أن تخلق الدفء الحياتي الذي يحتاجه الفرد ليستمر.
وهذا الدفء لايقتصر علی هذه الأفعال وحسب ؛بل ينسحب الی تعلق الإنسان بالمكان والزمان والمخلوقات الأخری،فنحن جميعا  نتعلق ببعض اللقاءات والأماكن،ويكون هذا التعلق تبعا لأهمية الشخص ومنزلته لدينا؛بل ونتعلق حتی بالأشياء الجامدة،ونشعر بألفة تجاهها،وأحيانا نلجأ الی الاحتفاظ ببعض الأوراق وبعض الأغلفة وبعض البطاقات وبعض الصور، أو نحتفظ بملبس معين (بعطره  وغباره وفرحه) لأنه مرتبط بلقاء عزيزٍ لدينا!!
،وكلما عدنا إلی هذه الأشياء المحفوظة غمرتنا المشاعر الإيجابية،وتعدّل مزاجنا،وامتلأنا نشاطا ورغبةً!
وبالاتجاه المعاكس نحاول أحيانا التخلص من كلِّ شيء يذكِّرنا بموقف سلبيٍّ مؤذ،نحاول أن نشطب تأريخه،ونزيل صوره،ونرحِّل كل الوجوه المرتبطة بهذا الموقف أو هذا اللقاء!!
الأصعب بين هذين الأمرين هو أن يكون الموقفان متعلقين بشخص واحد!! شخص له مكانة خاصة لدينا،وله حظوة قلبية فريدة،حينها  نحاول أن ننسف كلّ ما يتعلق بالموقف السلبي(التاريخ،الوجوه، الصور،الحدث،الأسماء،الملبس …الخ) نبعِّدها تماما،ونستدعي الموقف الإيجابي،ونستحضر اللقاء الأخضر!!
وهذا النُبل منهج قرآنيّ أوصانا به الله  تعالی حين قال:((…وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ…)) فقد اشتهر بين الناس قول:واذكروا محاسن موتاكم!!
فلماذا لانذكر محاسن الأحياء؟! وهل يوجد أجمل من إشاعة المحبة في حياتنا ومنازلنا وبين عوائلنا وأصدقائنا ومعارفنا؟
والأجمل من هذا كله أن تكظم غيظك وتحفظ سرك،فتتألم وتحاور نفسك،وترد وتتصرف،وتعالج، وتحوِّل المواقف كلها من  علاقة أفقية (بينك وبين البشر) الی علاقة  عمودية (بينك وبين الله تعالی)،فلا يمكن للعلاقات الإنسانية بغض النظر عن ديانة الإنسان وعقيدته أن تكون أفقية مسرحها الواقع الأرضي المادي وحسب!! فلابد من عودة سهم العلاقة وخطها الی السماء، نعني بذلك أن وجود الإنسان بمنظومته الفكرية والعاطفية وتركيبته(الجسروحية) بدأ بخط عموديٍّ من الأعلی(السماء) الی الأدنی(الأرض) وعلی الرغم من كثرة الأسهم والخطوط الأفقية التي تمثل علاقة الإنسان بأخيه الآخر،إلاّ أن التحولات من الخطوط الأفقية الی الخطوط العمودية(من الإنسان الی السماء) تبقی مستمرة علی مدار حياته!! سواء كان متدينا أم لا، ملتزما أم لا، فرحا بالدنيا وزخرفها أم لا، فلا بد من لحظات  صعود روحي أو عروج روحي يجسده الدعاء، كما في المخطط الآتي:

فالدعاء والتضرع،فعل وممارسة رياضية نفسية وروحية،تخلص الإنسان من متاعبه ومشاقه،وتهون عليه،وتحفظ كرامته،إذ يشكو لجهة عليا،لاتفضح ولاتبوح ولاتكشف ولاتمن ولاتبخل!!
وكثيرا ما نجد أنفسنا بمجرد أن ندعو نتخلص من الأحمال والأثقال وتهون الأمور في أعيننا، وتغمرنا طاقة إيجابية وارتياح غريب نجهل سببه  بالضبط!
وهذا كله يمثل وقودا ربانيا  يساعدنا علی البقاء والتواصل والمواصلة والاستمرار والعطاء والتحدي ولاسيما من يحتفي في حياته بالرموز الربانية،والقدوات الإلهية من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، ولعلني أجد من المناسب هنا،ذكر قول الإمام علي (عليه السلام) فهو قاعدة متوازنه لمن يريد أن يحيا حياة سعيدة بعيدة عن الإحباط والكسل،وبعيدة عن التمادي والانغماس في اللذات ،وهو :(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا )،فامضوا علی هذا النهج كي تفلحوا،وماخاب من تمسك بالفائزينَ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *