ما بَين نابيولينا وسينغ قصة تحدٍ لا تنتهي

-هل يقترب إقتصادُ روسيا من الانهيار؟

– قبل أن تبدأ الحرب بين روسيا وأوكرانيا بشهرٍ واحد ، زار مجموعة من أكبر خبراء الإقتصاد في روسيا الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في مقرّ إقامته في “نوفو أوغاريوفو”، في ضواحي العاصمة موسكو، وكان من ضمن مَنْ حضر هذا الإجتماع شخصيّات هامّة جدًّا مثل “إلفيرا نابيولينا”، محافظة البنك المركزي الروسي، و”هيرمان جريف” الرئيس التنفيذي للبنك الحكومي الروسي “سبير بانك”. وقد تَم هذا الإجتماع مع الرئيس ” فلاديمير بوتين” بناءً على طلب هؤلاء الخبراء
للإجابة على سؤال واحد ألا وهو:
– كيف يمكن للإقتصاد الروسي أن يتأثّر إذا دخل الجيش الروسي أوكرانيا ؟
فقد قام هؤلاء الخبراء الإقتصاديين بتقديم عرضٍ للرئيس الروسيّ مُكَوَّن من ٤٠ صفحةً، يشرحون فيه توقّعاتهم والعواقب الإقتصادية المُحتمَلة لو خرجت الأمور عن نِطاق السيطرة مع أوكرانيا. وقام “هيرمان جريف” رئيس “سبير بانك” بتقديم هذا العرض أمام الرئيس “بوتين”، حيثُ أنّه صديقٌ قديم وأحد أقرب المُقرَّبين منه.
-وعلى ما يبدو فإنّ فريق الخُبراء الإقتصاديين كان يخشى ردّ فعل الرئيس الروسي إتجاه ما سيسمعه، وكان مُلخَّص ما قيل في هذا العرض هو أنّه لو تمّ فرض عقوباتٍ غربيّة قاسية على روسيا، قد يؤدّي ذلك إلى:
-تراجع الإقتصاد الروسي للخلف عشرات السنوات.
– إنخفاض القيمة الدولاريّة للناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة ٣٠% خلال سنتين.
– خروج التضخّم عن نطاق السيطرة.
– إضطرار البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة إلى نسبةٍ تبلغ ٣٥ %، ممّا يؤدّي إلى خفض الدخل الحقيقي للمواطن الروسي بنسبة الخُمس؛ وبالتالي سيتدهْوَر مستوى معيشة المواطنين الروس.

وسبب ذلك أنّ الغرب قد يفرض قيودًا على الواردات .فالأمر لن يشمل الحِرمان فقط من التقنيات والتكنولوجيا المُتقدِّمة؛ وإنما قد يصل الأمر إلى الحرمان من الضروريّات والأساسيات مثل الأدوية والغذاء.
-وبعد أن شرح “هيرمان جريف” النتائج الكارثيّة المُحتملة ،قاطَعَهُ الرئيس الروسي سائلاً: كيف يمكن لروسيا أن تتجنّب أخطر العقوبات الغربيّة المُتوَقَّعة؟!

– لكن الفريق الإقتصادي لم يتمكّن من تقديم حلٍّ واضحٍ وإنتهى الإجتماع دون معرفة نتيجته أو ما يُفكِّر به ” فلاديمير بوتين”.
– وبعد شهرٍ من هذا الإجتماع ، عُرِف الجميع الإجابة حيث أصدَر ” فلاديمير بوتين” أوامره للجيش الروسي بالدخول للأراضي الأوكرانيّة لتبدأ الحرب الروسيّة الأوكرانيّة ،والّتي بسببها قامت الدول الأوروبيّة بفرض عقوباتٍ إقتصادية ٍ قاسيةٍ على روسيا ،تُعَدُّ الأقوى من نوعها على أيّة دولةٍ في التاريخ. حتّى أنّها لم تخطر على بال خُبراء الإقتصاد الروس خلال تفكيرهم بأسوأ السيناريوهات المُمكِنة.

– واليوم، وبعد مرور ما يُقارِب العشرة أشهر ونيف على الحرب، يَطرَح السؤال نفسه: كيف تأثّر الإقتصاد الروسي بالعقوبات الغربيّة؟

-ففي مساء ٢٣ فبراير / شباط من العام الماضي إنسحب مُذيع قناة (MSNBC) الأمريكيّة قبل أن يُذَاع برنامجه في تمام الساعة ٩ وفق التوقيت الشرقي للولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهرع إلى البيت الأبيض بعد أن علم أنّ الجيش الروسي قد دخل أوكرانيا.

– وقد كان هذا المُذيع أحدَ أهمّ الشخصيّات التي كان لها دوراً بارزاً في إدارة الأزمة، رغم أنّه كان بعيدًا عن الأضواء، فما لبث أن حَظِيَ بالشُّهرة في خضمّ الحرب الروسيّة الأوكرانيّة.
-وهذا الرجل هو “ليب سينج” الإقتصادي الأمريكي الذي كان يعمل نائب لمستشار الأمن القومي الأمريكي لشؤون الإقتصاد الدولي بين فبراير / شباط ٢٠٢١ و يونيو / حزيران ٢٠٢٢. وهو يُعرَف بمُهندس العقوبات الغربيّة على روسيا، والعقل المُدَبِّر الذي خطّط – قبل شهور من الحرب- حتّى يُوَجِّهَ صُنّاعَ القرار في الولايات المتّحدة الأمريكيّة حول كيفيّة التّمَكُّنِ من روسيا.
-وظلّ هذا الإقتصادي في منصبه ،خلال الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، مُدّة أربعة أشهر تقريبًا، و خلال هذه الفترة البسيطة ، قام بهندسة إحدى أشرس عمليّات الإغتيال الإقتصادي في التاريخ ضدّ روسيا. وقد بدأت القصّة في أوائل نوفمبر / تشرين الثاني من عام ٢٠٢١، أي قبل أربعة أشهر من بداية الحرب، وخلال هذا الوقت بدأت الإستخبارات الأمريكيّة في التحذير من غزوٍ روسيٍّ مُحتمَلٍ للأراضي الأوكرانيّة؛ الأمر الذي كان موضع قلق لصُنّاع القرار في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
– حيث كان الخيار العسكري أمرًا غير مطروح بالمرة في هذا السياق؛ لذلك فكّر الأمريكيون في وسائل أخرى قد تُسهِم في ردع ” فلاديمير بوتين” عن غزو أوكرانيا ومحاولة إسقاط الحكومة في كييف، وكانت الوسيلة الأشهر والسلاح الأكثر فاعليّة ،من وجهة نظر الأمريكيين، هو سلاح العقوبات الإقتصادية الذي تمّ تجربته قبل ذلك مع الروس خلال أزمة العام ٢٠١٤ عندما إحتلوا شبه جزيرة القِرم.

– وقد بدأ الأمريكيين بالتخطيط للعقوبات الإقتصادية التي يمكن أن تُفرَض على روسيا، ولكن الأمر لم يكن بالسهولة المُتَوقَّعة حيث أنّ البنك المركزي الروسي كان يُمثِّل تحدّيًا كبيرًا أمامهم، ولا سِيَّما أنّ كبار مسؤولي البيت الأبيض ومُديري البنك المركزي الروسي لديهم مجموعة قويّة وموهوبة من الخبراء التكنوقراط.

– كان من المتوقع أن يتعامل مسؤولو البنك المركزي الروسي مع أيّة أزمةٍ إقتصادية ٍ مُحتمَلةٍ بذكاء. وهنا يأتي دور “داليب سينغ “الذي يبلغ من العمر ٤٦ عامًا حيث صرّح بأن إدارته قد قامت بدراسة الروس جيّدًا وتوصّلوا إلى نقاط قُوّتهم ونقاط ضعفهم، وعرفوا أين تتلاقى نقاط قوة الحكومة الأمريكيّة مع نقاط ضعف الحكومة الروسية حتى يتمكّنوا من إستغلالها.
– ومن ضمن نقاط الضعف الروسيّة التي تَوصَّل إليها “سينغ”: كانت التكنولوجيا الغربيّة الّتي تعتمد عليها روسيا مثل الرقائق الإلكترونية والبرمجيّات .إضافةً إلى إعتماد البنوك الروسيّة على رأس المال الأجنبي.
– ثمّ أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تملك القدرة على إستغلال نقطتيْ الضعف هاتيْن ضدّ روسيا ومنعها من الوصول إلى التكنولوجيا الغربيّة ورأس المال الأجنبي. ولكن رغم أهميّة كلّ هذه الأمور فإنّها لن تَعْني الكثير للحكومة الروسيّة، حيث أنّ الروس يتوقّعون هذا الأمر على الأغلب.
-ولكنّ الروس لم يتوقّعوا على الإطلاق أن يتنبه الأمريكيين إلى نقطة ضعفهم الأهمّ، وهي في الوقت نفسه تُعَدُّ سلاح الروس الإقتصادي الأقوى. والمَقصود بهذا الحديث هو الإحتياطيّات النقديّة الضخمة التي قامت روسيا ببنائها في السنوات الثمانية الأخيرة وتحديدًا منذ عام ٢٠١٤.
– ففي فبراير / شباط من العام ٢٠٢٢ ، وقبل أن تدخل البلاد في الحرب، كان لدى روسيا إحتياطي ّ من الذهب والنقد الأجنبي تصل قيمته إلى ٦٤٣ مليار دولار، وقد بنت روسيا هذا الإحتياطي الضخم تحت إشراف البنك المركزي حتّى يكون حائط صدٍّ ضدّ أيّة صدماتٍ إقتصادية قد تتعرّض لها البلاد. وقد إعتقد ” فلاديمير بوتين” ،عند دخوله الحرب ضد أوكرانيا ، بأنّه يمكن الحفاظ على الإقتصاد الروسي من خلال هذا الإحتياطي الضخم، ولكن تفاجأت روسيا لأمر لم يكن في الحسبان.
– فقد إنتبه “داليب سينغ” وقبل إندلاع الحرب إلى تحرّكات روسيا في هذا الإتجاه، وتوقّع أن يعتمد “بوتين” على تلك الإحتياطيّات ّ في تحصين الإقتصاد الروسي ضد العقوبات الغربيّة؛ لذلك بدأ “سينغ” بالتفكير في كيفيّة حِرمان روسيا من إحتياطيّاتها تلك بكل الوسائل الممكنة، فلجأ إلى نقطة قوّةٍ تملكها الولايات المتّحدة الأمريكيّة على روسيا وهي سيطرة الدولار الأمريكي على المعاملات الدولية. فأميركا يُمكِن لها، من خلال إستغلالها لسطوة الدولار، بفرض عقوبات على البنك المركزي الروسي ومنعه من الوصول لإحتياطاته والتي يُعتبَر الجزء الأكبر منها خارج روسيا.

-وفي الوقت الذي كان يُخطِّط فيه الأمريكيون للعقوبات على روسيا لم يكن حلفاؤهم مُتحَمِّسين لتلك الفكرة وذلك لسببين:
– الأوّل: أنّه لا داعٍ للتفكير في عقوباتٍ، والحرب لم تبدأ بعد. -والثاني: إعتماد أوروبا على روسيا لتوفير الجزء الأكبر من الطاقة.
-لذلك إنتظر الأمريكيون حتّى حصلوا على موافقة الدول الأوروبيّة في فرض العقوبات على روسيا.
وخلال فترة المباحثات هذه ، كان “سينغ” يجتمع أسبوعيًّا مع نظرائه في كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة. وكان أكثر من يجتمع معه “سينغ” هو ” بيون سيبريت” مدير مكتب رئيس المفوضيّة الأوروبيّة “أورسولا فون در لاين ” وأحد كبار مُساعديها. حيثُ كانت المُحادثات تُعْقَد بينهما أكثر من مرّةٍ في اليوم. وفي النهاية ، نجح “سينغ “في الإتفاق على مُعظم العقوبات الإقتصاديّة الّتي يُمكِن أن تَفرضها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبا على روسيا في أيّ وقت.
وهذا كان السبب وراء المفاجأة التي حدثت للكثيرين بسبب قرارات العقوبات الغربيّة الّتي صاحبت غزو روسيا لأوكرانيا، والّتي صدرت بعد ساعات قليلة من دخول القُوّات الروسيّة الأراضي الأوكرانيّة.

-وكانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة قد أعلنت عن سلسلة من العقوبات الإقتصاديّة على روسيا، والّتي كان من ضمنها فرض عقوبات على أكبر أربعة بنوك روسيّة. وكان “سينغ” قد جهّز تلك العقوبات قبل إندلاع الحرب. وتُعتَبَرُ أهمّ عقوبة تمّ التخطيط لها هي تلك الّتي أعلنت عنها وزارة الخزانة الأمريكيّة بعد أيّامٍ قليلة من الحرب تحديدًا في ٢٨ فبراير / شباط الماضي وهي قرار تجميد أصول البنك المركزي الروسي وفرض عقوباتٍ عليه ومُحاصرة أصوله في جميع أنحاء العالم مما يُعتبَر إستهدافاً واضحاً لحصن روسيا المنيع الّذي كان يبلغ في ذلك الوقت ٦٤٣ مليار دولار.
-تفاجأ الأمريكيون أنفسهم، وكذلك المسؤولون الروس من العقوبات، حيث لم يكُن لديهم أدنى معرفة بالقرار. وفي ٢٣ مارس / أذار المُنصرِم، إجتمع وزير الخارجيّة الروسي “سيرغي لافروف” مع طُلّاب وأعضاء هيئة معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدوليّة، حيث ألقى أمامهم خطاباً مفادُهُ: أنّ تجميد الغرب لإحتياطيات البنك المركزي الروسي أمرٌ لم يكن في الحُسبان، وما حدث يُعتبَرُ سرقة.

-وقد كان من نتيجة فشل المسؤولين الروس في توقُّع قيام أمريكا بإستهداف إحتياطيات البنك المركزي الروسي المُشتمِل على النقد الأجنبي والذهب الموجود في الخارج، هو الإطاحة والتضحية برئيسة البنك المركزي الروسي “إلفيرا نابيولينا”.
فقد نشرت جريدة “فاينانشيال تايمز” تقريرًا يُفيد أنّ الدائرة المُقرَّبة من ” فلاديمير بوتين” حاولت إقناعه بالإطاحة ب “إلفيرا نابيولينا” وتعيين “سيرغي غلازيف” خلفًا لها؛ وذلك لأنّها لم تتوقّع للحظة أن يتمّ إستهداف إحتياطي البنك المركزي الروسي، وبالتالي لم يتمّ التحذير من هذا الأمر.
-إلّا أنّ “بوتين” رفض هذا الأمر وتمسّك ب “نابيولينا”، بل جدّد لها ولايةً ثالثةً قبل موعد التجديد الفعلي؛ وسبب ذلك هو ثقته الكبيرة بها ومعرفته بقدرتها الفائقة على قيادة الإقتصاد الروسي في وجه عاصفة العقوبات الغربيّة الّتي إستهدفت تدمير الإقتصاد الروسي.
-وقد أثبتت طريقة تعامل البنك المركزي الروسي مع الأزمة وإدارته للتبعات الإقتصادية للحرب في الأشهر الأخيرة مدى صواب قرار ” فلاديمير بوتين” في تصميمه على بقاء “نابيولينا” في منصبها؛ حيث قامت بإدارة إحدى أكبر عمليّات الإنقاذ للإقتصاد الروسي في التاريخ بكفاءة مُنقطِعة النظير. وقد كُنّا أشرنا لمنهج إدارة “نابيولينا” للأزمة في مقالٍ سابقٍ “المرأة التي أنقذت روسيا”. وهذه المرأة تُعتَبَر أحد أكبر خبراء الإقتصاد في العالم.
-وكانت مُهمّة “نابيولينا” الرئيسيّة هي تجنيب الإقتصاد الروسي سيناريو الإنهيار التام، وهذا ما نجحت فيه بجدارة، إلّا أنّ هذا لا يعني قدرتها على عزل الإقتصاد الروسي عن أيّة تأثيرات سلبيّة للعقوبات الغربيّة، بل على العكس من ذلك فإنّ الإقتصاد الروسي ما زال يُعاني بشدّة -وحتّى اليوم – من آثار العقوبات الإقتصاديّة الغربيّة ،والّتي تمّ فرضها عليه في الأشهر العشرة الأخيرة.
-حيث دلَّت مؤشّرات الإقتصاد الكلّي إلى تَوقُّع صندوق النقد أنّ الإقتصاد الروسي سينكمش بنسبة ٣ % خلال العام المنصرم عام ٢٠٢٢. وعلى الجانب الآخر، فإنّ الرئيس الروسي “بوتين” كان يشعر ببعض التفاؤل، حيثُ صرّح أنّ إقتصاد البلاد قد ينكمش بنسبة ٢.٥ % في العام الحالي فقط، وفي نفس الوقت توقّع وزير الماليّة الروسي “أنطون سيلوانوف” أنّ عجز الميزانيّة الروسيّة قد يصل خلال هذا العام إلى ما يُعادِل ٢% من الناتج المحلي الإجمالي، وحسب بيانات وزارة الماليّة الروسيّة فإنّ الإيرادات الضريبيّة من القطاع غير النفطي تَدنت بنسبة ٢٠% في أكتوبر / تشرين أول المُنصرِم.
– أمّا عند الحديث عن الأسعار، ففي شهر نوفمبر / تشرين الثاني الماضي وصل مُعدّل التضخّم إلى ١٢% على أساس سنوي.
-أمّا بخصوص حالة القطاعات الإقتصاديّة في روسيا، فإنّ أكثر القطاعات الّتي تعرّضت لأضرارٍ ناتجةٍ عن العقوبات الإقتصاديّة هما قطاعا التصنيع ،الّذي يعمل به ما يُقارب من عشرة ملايين روسي، والقطاع المصرفي. ويُفترَض أنّ التصنيع هو العمود الفقري لخطّة ” فلاديمير بوتين” الّتي تهدف إلى تنويع مصادر دخل الإقتصاد الروسي بعيدًا عن النفط. ولكن هذا القطاع تعرَّضَ إلى ضربتيْنِ مُوجِعتيْنِ:
– الأولى: مُغادرة عدد كبير من الشركات الدوليّة الّتي تعمل في روسيا، أو قيام هذه الشركات بتعليق العمل في روسيا، حيثُ قامت ما يزيد على ألف شركة عالميّة بتعليق عملها في روسيا. وكانت هذه الشركات تُشارك الشركات الروسيّة في مشاريع تصنيعٍ محلِّيّةٍ، ممّا نتج عن عجز الشركات الروسيّة عن إدارة المشاريع المشتركة.
– والثانية: حَظْرُ الواردات فيما يَخُصّ قطع الغيار والتكنولوجيا.
وبدا تأثير هاتيْنِ الضربتيْنِ واضحًا في مجال صناعة السيارات، فهذه الصناعة تعتمد على أجزاءٍ مُستورَدَةٍ بنسبة ٩٠ % ، وكان الشريك الأجنبي يقوم بتوفير نسبةٍ كبيرة من هذه المواد، فمثلاً تقوم شركة “أفتوفاز” بتصنيع السيّارة الروسية “لادا” بالتعاون مع شركة “رينو” الفرنسيّة. وفي شهر مارس / أذار الماضي، وبعد شهرٍ من قيام الحرب، قرّرت شركة “رينو” الخروج من روسيا وأوقفت مشروع تصنيع السيّارة وتركته للشريك الروسي.
-وهذا أدّى إلى تضارب قرارات الشريك الروسي الّذي أوقف الإنتاج لعدّة أشهر، ثمّ في النهاية عاود وإستأنف الإنتاج في يونيو / حزيران من العام ٢٠٢٢. ولكن ظهرت مشكلة وهي أنّ السيارات الّتي تمّ تصنيعها تفتقد إلى أجزاء مُهمّة فيها مثل: الوسادات الهوائيّة وأنظمة منع إنغلاق المكابح (ABS) وتكييف الهواء بالإضافة إلى غيرها من الأجزاء المطلوبة في التصنيع، ومَثَّلَ هذا الأمرُ مُعاناةً واضحةً.
وفي سبتمبر / أيلول الماضي إنخفض الإنتاج الروسي للسيّارات بنسبة ٧٧ % مُقارنةً مع نسبة الإنتاج في العام الفائت من الشهر نفسه ، وبالتوازي مع هذا الأمر فإنّ مبيعات السيّارات في روسيا قد إنخفضت بنسبة ٦٠ % على الأقل في تلك السنة ممّا إنعكس على العاملين في صناعة السيّارات في روسيا والّتي يعمل بها بشكل مباشر ٣٠٠ ألف روسي، وتُوَفِّر بشكلٍ غير مباشر ثلاثة ملايين ونصف وظيفة في صناعاتٍ ذات صلة. فأدّى هذا إلى قيام الشركات بإعطاء إجازات غير مدفوعة الأجر للعديد من العمّال، وتخفيض رواتب العاملين الآخرين.
-فأزمة حَظْر الواردات قد أثّرت على مُعظَم القطاعات الإقتصاديّة في البلاد وليس السيّارات فقط:
-ففي مجال الأمن الغذائي يعتمد ٩٩ % من إنتاج الدواجن و ٣٣ % من تربية بقر الهولشتاين على الواردات. -وفي صناعة الطيران يعتمد ٩٥ % من الركاب على الإنتقال عبر طائرات أجنبيّة الصنع ،فأدّى مَنْعُ روسيا من إستيراد قطع الغيار إلى إستغنائها عن عددٍ كبيرٍ من طائرات الركاب بمُجرّد حدوث عطل بها.
– أمّا فيما يخصّ الآلات في المصانع: فإنّ ٣٠ % فقط من هذه الآلات روسي الصنع، والنسبة الباقية مُستوردة.
– وفي صناعة الأدوية يعتمد ٨٠ % من الإنتاج المحلي على موادٍ خام مُستوردة.
-ويتوقّع الخبراء إستمرار هذا الوضع الإقتصادي المُتدهوِر في روسيا طالما بقيت العقوبات الغربيّة مفروضة عليها ،والّتي تسببت بها الحرب على أوكرانيا. ولا يُعتقَد أن يتمّ رَفْع تلك العقوبات إلّا في نهاية الحرب أو في إطار التفاوض على نهاية الحرب.
-ففي الأشهر الأخيرة حدثت قطيعة شبه تامة ما بين أوروبا والنفط والغاز الروسي ،حيثُ قرّر الأوروبيون عدم الإعتماد على الغاز الروسي في توفير إحتياجاتهم من الطاقة.

-لِذا فالسؤال الذي يطرح نفسه وهو: هل يمكن أن تعود أوروبا في المستقبل إلى الإعتماد على النفط الروسي الّذي يُعتبَر الوسيلة الأكثر رُخصًا من أيّة بدائل مُتواجِدة أُخرى؟

أم هل سيتمسّك الأوروبيون بموقفهم الحالي حتّى وإن أدّى ذلك إلى إستمرار الإرتفاع في أسعار الطاقة والّتي لم يعد يتحمّلها المستهلك الأوروبي؟

أم أن روسيا ستتراجع وتُنهي الحرب وتخضع للضغوط الغربية والأمريكية؟

أم أن الغرب وأمريكا سيخضعون للأمر الواقع ولطلبات موسكو على حساب أوكرانيا ؟
كل تلك الإجابات سنعرفها في المستقبل القريب ولكننا على يقين بأن ثمن الحربى يدفعه أصحاب الأرض .

خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *