زمن المظاهر الوهميّة والشّكليّات التّهيّوئيّة
زمن المظاهر الوهميّة والشّكليّات التّهيّوئيّة
د. حسين أحمد سليم الحاجّ يونس
رئيس تحرير القسم الثّقافي للجريدة الأوروبّيّة العربيّة الدّوليّة
باحث ومهندس فنان. عربي من لبنان
وُجدنا قدرًا وعنوةً بلا إرادتنا، في زمنٍ ظالمٍ، قاهرٍ، فاجرٍ، وعاهرٍ، نعيش فيه وسط مجتمعات هابطة الوعي المعرفي، وفاقدة للمناقب والأخلاق الإنسانيّة، إلاّ من رحم ربّي وهم قِلّة… تلك الشّخوص المُتنافخة الجوفاء، التي تدّعي وتستكبر بما ليس فيها، تحسب حساب المظاهر الوهميّة والإفتراضيّة الخادعة، قبل أيّ حساب بشريّ إنسانيّ آخر ، حتّى لو كان الأمر متعّلقًا بالقيم والمناقب الأخلاقيّة الرّاقية… حيثُ يتمّ تجازوها عن سابق تصوّر وتصميم، وعدم الإكتراث لها بسهولة، سعيًا وراء الألقاب الطّنّانة الرّنانة الإطنابيّة، والسّمات الزّائفة، والصّفات الإفتراضيّة، والشّهادات الفخريّة الوهميّة، من بين تلك المظاهر… وهذا ما يعكس إهانة للذّات البشريّة والإنسانيّة، أكثر من التّعامل معها، من منطلق سطحي مُغلّف بالنّفاق والدّجل والإنتحال، بسبب إستخدام الطّرق غير القانونيّة وغير الشّرعيّة، وغير المناقبيّة والأخلاقيّة، وغيرها، لإثبات أفضليّتها للآخرين، عن غيرها، وإن كانت على النّقيض من ذلك، وجعلها وسيطًا في إستغلال قلّة فهم الآخرين، وذلك بمعسول الكلام لتأكيد حقيقة زائفة، ليست كالتي تحمله النّفس البشريّة، وهو ما يُراد به نيل مراد نفعي شخصي أنوي ونرجسي…
وفي حركة تطرّقي للبحث والحديث عن همروجة صنوف الألقاب، وحركة الحصول على الشّهادات، على إختلاف أنواعها ومستوياتها، ليس لإعطاء صورة سوداويّة قاتمة، والإنتقاص منها، والتّجريح والنّيل ممّن يحملها بحقّ، فالغرض الذي أهدف إليه، هو كشف الحقائق بلا زيف ولا مواربة، وإظهار مكامن التّضليل والتّمييع، بإسقاط الأقنعة البرباريّة، التي يرتديها من يحسبون أنفسهم غرورٍا وأنويّة ونرجسيّة، أنّهم الأفضل والأحسن من الغير، ويدافعون بضراوة عن الألقاب المزيّفة، التي يلصقونها لأنفسهم بعد تضخّم أناهم النّرجسي الفارغ، والذين يفتخرون بشهاداتهم الفاقدة لقيمتها في الميادين العلميّة والعمليّة والإختصاصيّة والأدبيّة والفنّيّة والسّياسيّة والحزبيّة والمهنيّة والطّبّيّة والغذائيّة وغيرها، بما يدّعون أنّه من إنتاجهم وإبداعهم وإبتكارهم، والذي ما هو إلاّ مُجرّد نسخ ولصق وسرقة ولصوصيّة، لأفكار الآخرين، وهؤلاء لا يتواجدون في المواضع والمواقف الشّريفة، عكس وجود الذين نالوا شهاداتهم وألقابهم، عن جدارة واستحقاق، ويظهرون لمواقفهم وأفكارهم بكلّ شجاعة وثبات، بدون ديبلوماسيّة، وحربقة، ولفّ ودوران، ولا يتوانون بمسؤوليّتهم التّكليفيّة الإنسانيّة، في توعية غيرهم، والمساهمة في نهضة المجتمع ككلّ، ليصبح أكثر وعيًا، وإدراكًا وفهمًا وتمعّنًا، لحقيقة بواطن وأبعاد الأمور والوقائع…
في عصرنا الأرضيّ هذا، حيثُ إجتاحتنا هرطقات الحضارة المادّيّة، كثيرون الذين يتبجّحون ويتنافخون بألقابهم الإفتراضيّة والوهميّة، ويعكسون للآخرين وجوههم المُقنّعة، ويكتبون وينشرون الأفكار الجميلة، ويُظهرون أعمالهم الرّائعة، ويدّعون الإحساس الشّديد بالآخرين، وهم بواقعهم ليسوا متناغمين مع ما يُظهرون ويقولون أو يفعلون، ففي نفوسهم مرض الإضطّراب الشّخصي، الذي يسكنهم ويُوسوس لهم، فيتعالون على العوام، ويتجاهلونهم باللامبالاة بهم، ولا يعطون القيمة الشّكليّة الزّائفة، إلاّ لأصحاب البريق والشّأن، وأصحاب المنفعة الذّاتيّة في تعاملهم، وتصرّفهم المباشر، المنافي لتنظيراتهم، وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وإدّعاءاتهم، وما يأفكون من أضاليل وتهيّؤات، ويُظهرون في أعمالهم وتمثيليّاتهم الخدع، واللفّ والدّوران، وفق ما تقتضي مصالحهم الخاصّة، دليل مرضهم الفصامي بالإزدواجية النّفسيّة المقيتة، لشخصيّة قبيحة وساقطة إلى الدّركات الجحيميّة السّفلى، بعيدة كلّ البعد عن جوهر الحقيقة، فالألقاب والشّهادات مهما كانت، وحدها لا تكفي، لإثبات الواقع الحقيقي والأفضليّة الحقّة لأيّ كان…
والألقاب والشّهادات الفخريّة الإفتراضيّة، وخاصّة الدّكتوراه الفخريّة وما شابه، لا تعني شيئا على المستوى العلمي والعملي والخبراتي والمهني، ولا تُعبّر عن مكامن الحقيقة، وليست مقياسًا لتصنيف الأفضليّة، لأنّها من أنواع مظاهر التّفاخر والعجرفة والإستكبار، التي يسعى لنيلها صاحب الشّخصيّة الإضطّرابيّة الأنويّة والنّرجسيّة، وبكلّ الطّرق الممكنة له، حيثُ الغاية تُبرّر الوسيلة، وعلى حساب مناقبه وأخلاقه… والألقاب لا تعطي السّطوة، ولا تمنح القوّة، ولا ترفع أصحابها لمكانة مرموقة، و الذين يلجأون إلى ألقابهم لجذب الإهتمام المتوهّم، والتّقدير الزّائف من غيرهم، لا تضفي لهم سوى بريقًا وقتيّا، ولمعانًا لحظيّا يزول مع أوّل تعامل فعلي مهمّ…
الألقاب الموروثة والممنوحة والمنتحلة، والشّهادات الفعليّة والإفتراضيّة الوهميّة، وحدها لا تمثّل حقيقة الشّخص، ولا تعكس فعاليّة تقييمه للأفضل، فكم من إنسان يحمل شهادات عليا، خوّلته تقلّد منصبًا معيّنًا، كمؤتمن عليه وأمينا له، وهو لا يمتلك الوفاء والإخلاص، لقيمة ومعنى جوهر الأمانة، التي إئتُمن عليها، وأغرقه شيطانه بالوساوس، وكم من مسؤولين وأصحاب مراكز عليا، يعلّقون وراء مكاتبهم الفاخرة، شهاداتهم العلميّة، ويضعون على طرف طاولاتهم شهادات التّقدير، التي حصلوا عليها، لتفوّقهم في مسارهم العلمي، ولكنّهم فاشلون في تعاملهم وتصرّفاتهم مع الآخرين، لكونهم يتكلّمون بلغة فوقيّة إستكباريّة، ويزدرون من يظنّون أنّهم دونهم، فهُم يرون أنفسهم الأمّارة بالسّوء أنّهم الأفضل، وفي مكانة أعلى من غيرهم، كأنّهم هم أصل الوجود في هذه الأرض الشّمطاء الفانية، وغيرهم مجرد نكرة في هذا الوجود الكونيّ…
إنّ المقاييس العليا للأخلاقيّات الشّخصيّة، هي التي تمكّن لمعرفة الحقيقة وتحدّد من هو الأفضل، ولا ترتبط بالشّكليّات الخدّاعة…
فالشّهادات على مختلف أنواعها، ومستوياتها الحقيقيّة والإفتراضيّة، لا تثبت مصداقيّة حقيقة المرء، ولا تدلّ على أفضليّته على غيره، بلا دراية بالمواقف الشّخصيّة، والممارسات الصّادرة منه. فهناك أناس حاصلون على شهادات عليا، وهم فارغون ومتنافخون، وهناك من لم ينالوا الشّهادات، لكنّ إسمهم المجرّد بدون ألقاب، أعظم من كلّ لقب حقيقي أو فخري، لارتباطه بعطائهم النّبيل، وصنيعهم الإنساني الشّفيف…
إنّ الشّهادات مهما كان نوعها وماهيتها، تبقى مجرّد ورقة، ما لم تثبت صحّتها في الواقع المعاش، ولا يمكنها حتّى إثبات، أنّ الحاصل عليها متعلّم، كما هو منصوص عليه فيها، لكونه غير متمكّن من غالبية التّكوينات، التي تلقّاها عبر مسارها الزّمني المحدّد، لكنّ أمورًا خارجيّة تدخّلت بشكل لا أخلاقي، فجعلته من الحاملين لها، وقد تكون في الأساس تلك الشّهادة مزوّرة، ولم تعد تثبت شيئا من تلك التّعلّمات، وما يترتّب عليها بعد نيلها باطل، سواء كان لقبًا أو غير ذلك…
وهناك أشخاص يصلون لأعلى درجات العلم والمعرفة، ولكن لا يعرفون كيفيّة التّصرّف مع الآخرين، لإفتقارهم للأخلاق الحسنة، والمناقب الرّفيعة، لما أصابهم من إستكبار، جرّاء ما يوصفون به من ألقاب، فيتقمّصون شخصيّة المتعالي المتعجرف، بالشّهادات التي تمّ حُصولهم عليها، فيصيبهم الغرور… وهل كلّ من يفتخر بشهاداته، يعبّر عن وجود رصيد فكري، ومستوى ثقافي أو مهني عالي؟! وما الذي يريد الإنسان أن يفعله حقّا بالشّهادات المذيّلة بالنّعوت، اللافتة للأنظار دون أن يضيف أيّ رصيد معرفي أو عملي له ولمجتمعه؟! وإذا كانت الأموال قادرة على جلب الألقاب والشّهادات، فأيّة فائدة حقيقة ترجى منها؟!…
سِمة الإنسان العاقل والسّويّ، ووجوده يرتبط بمكارم الأخلاق، لا بالألقاب التي لا تُغني ولا تُثمن من جوع، ولا بالشّهادات الإفتخاريّة، ولا المظاهر الشّكلية، فكلّ الألقاب والشّهادات، يجب أن تعبّر عن واقع الحال الحقيقي، وتقدّم إضافة ذات معنى صحيح، ومغزى فعلي نبيل. عبر معايير أخلاقيّة، ومميّزات قيميّة، وألاّ تكون الشّكليّات الخدّاعة، هي السّبب الوحيد في الحكم، فالمظاهر المتمثّلة في الألقاب والشّهادات والشّهرة الزّائفة، لا تمنح صاحبها القلب الطّيّب، والتّصرّف الإنساني، والضمير الحيّ، والسّعي الزّاخر بالعطاء، لخدمة البشريّة بلا مقابل…
الكثير من النّاس، مرضى الشّخصيّة الإضطّرابيّة، يلهثون وراء الألقاب الطنّانة والرّنّانة، والشّهادات الإفتراضيّة، بلا بصيرة، ولا يستحقّون التّقدير والإحترام، أمام من ينتصر لمبادئه وقيمه، قبل أيّ شيء آخر… فكلّ الألقاب التي يُنعت بها الشخص، والشّهادات التي بحوزته، بلا قيمة إن لم تشهد على إنسانيّته، وقد تعبّر على أمّيته الأخلاقيّة والأدبيّة. فإنّ الأفضل أنّ ما يفعله خالصًا، لا يحتوي على ما يدنّس طهره الأخلاقي، وأن يبقى العمل الجادّ، طريقه الذي لا محيد عنه… فالقوم الفاسدين لا يهمّهم سوى إرضاء هواهم الشّرير، وشيطانهم الخبيث، ولا يكفّون عن تضليل وتوهيم وتغليط رأي العوامّ، متغافلين عن حقيقة لا مفرّ منها، والتي مفادها أنّ الحجب الواهية زائلة ولو بعد حين…
هؤلاء هم الذين سقطوا، عن سابق تصوّر وتصميم، في مستنقع الشّهوات والنّزوات العابرة، وغرقوا في حبّ المظاهر، ونيل الأمور الزّائفة، للأبّهة والتّنافخ، وخداع السّذّج، الذين يلهثون ويسعون للشّهادات والألقاب، بدون الإستحقاق الشّريف، والبذل المعطاء، للمعرفة والإنتاج العملي الحقيقي…
فمنذ متى كان الإرتقاء في سلّم النّجاح الحقيقي، وبلوغ المجد بطرق لا تمتّ للأخلاق الحسنة بأيّة صلة؟ أيُعقل أن تحكم على أفضليّة أحد على غيره، لمجرد أنّه يمتلك شيئًا، لا يعكس الواقع كما هو؟!…
تقواك لربّك، يتجلّى بفعل شخصيّتك، متى ما أدركت عقليّا وفعليّا، حقيقة الدّنيا والمصير الذي ينتظرك، وسعيت لأجل ذلك بإخلاص ووفاء وثبات…