عندما تتغلّب الآمال على الآلام: ليبيا نموذجاً
صحيحٌ أنَّ ليبيا تقع جغرافياً ضمنَ القارة الأفريقية وفي عُمقها، تفصِلها آلاف الأميال عن دولٍ شقيقةٍ واقعةٍ على الحوض الشرقيّ للمتوسّط، لكنها قريبة جداً إلى قلب كلّ مواطن عربي ووجدانه، لا بل سُرعانَ ما تُلغى هذه المسافات عندما يجد الإنسان العربيّ بصَماتِ الخير الليبيةَ التي ساعدته وبلسمت جراحه في أصعبِ الظروفِ، وأخرجته من وحولِ الأزَمات.
بمعزِلٍ عن غنى ليبيا بثرواتها الطبيعية وكنوزها التي لا تُقدَّر بأثمان، هي أكثرُ غنىً بعاداتها وتقاليدها وعروبتها الأصيلة، بطيبة
ناسها وحُبِّهم لوطنهم. غنيّة بالثقافة والعادات والتقاليد التي يلمسها الزائر العربيّ والأجنبيّ في كلّ بقعة تطأ فيها قدمه أرض ليبيا.
إنّ مَن يحلّ ضيفاً على هذه البلاد مرّةً، يُصاب بإدمان البقاء فيها أو التردد إليها كلّما سمحت الظروف. يحارُ في أيِّ مدينة أو منطقة يقضي متعة الوقت: في طرابلس؟ بنغازي؟ مصراتة؟ سرت؟ أم يعرِّج سريعاً على قرى الجبل الأخضر ليستمتع بما حباها الله تعالى من جمال للطبيعة، ونقائها الذي يشبه نقاء سريرة أهلها؟
لا بدّ لزائرِ ليبيا أن يعشق الاختلاط بأهلها، بالشباب المثقَّف، الواعد، الشغوف والمتّقد ذكاءً وعروبةً، والاستمتاع بجلسات الحوار مع الرجال المُسنّين الذين يكتنزون في أعماقهم تاريخ بلادهم، أولئك الذين جُبِلت سُمرة بشَرتهم بأصالة أرضهم، لا يشبع المرء من قصصهم وحكاياتهم عن سرديّة التاريخ وربطه بالحاضر والمستقبل. أما الاختلاط بنُخب المجتمع الليبي من محامين ومهندسين وأساتذة ومفكرين وأساتذة جامعيين، فتلك قصّة أخرى، إذ إنّ كلّاً منهم ينطوي على مخزون من العلم والثقافة الممزوجة بالأصالة العربية، وكلما زاد الاختلاط بهؤلاء، امتلأ المخزون الفكري معرفة عن بلاد تنبض بالحياة، وشعب ممتلئ بالطاقة والثقافة وحبّ الآخر.
صحيحٌ أنَّ الجغرافيا وضعتِ الشعب الليبيَّ في قلب القارّة الأفريقية، لكنها جعلته أقرب إلى العروبة من شعوب عربية في شرق المتوسط. إنه الشعب المؤمن بقضايا الأمة، وخصوصاً القضية الفلسطينية التوّاق إلى تحريرها.
لا شكّ في أنَّ الاقتتال بين الأخوة الذي بدأ منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، عمّق معاناة الشعب الليبي الذي دائماً ما كان توّاقاً إلى نهضة بلاده وتطوّرها، لكنّ أرض المليون حافظ لكتاب الله قابلة للتعافي، وستتعافى قريباً بإذن الله، وبفضل أبنائها وتَوقِهم إلى عودة ليبيا للعب دورها الرائد عربياً وإقليمياً ودولياً، فالمحنة العابرة لن تكون سبباً للإحباط والاستسلام، ولا للبناء على الأحقاد والضغائن، بل ستكون فعل إرادة لأخذ العِبرة.
إنَّ شعباً يُحبُّ أرضه ويستميت في الدفاع عنها، ويحرِص على وَحدتها وحِفظ ثرواتها التي حباها الله بها وطاقاتها البشرية الواعدة، لا يمكنه إلّا أن يكتب نهاية لهذه المعاناة، وأن يقودها إلى بَرّ الأمان عاجلاً لا آجلاً، وكما أنَّ الرهان كبير على دور الشباب المثقّف لقيادة مسيرة الانتقال إلى مرحلة الأمن والاستقرار والازدهار، فإنَّ العالم العربي لن يتعافى إلا بعودة ليبيا إلى دورها الفاعل والرياديّ.