مصائِبُ أوروبا فوائِدٌ للصين

فيِ العامِ ٢٠٢٣ سَنشهدُ بأمِ العين ما إعتَقدنا أنهُ بِحاجةٍ لعُقود ، ميلادُ نِظامٍ مالي عالمي لم تَعرفهُ البشرية من قبل لأن الصين حَضَرَّت ببساطة للإنفصال المالي العظيم بعدَ أن قَيَّمة كُل تفصيلٍ من نُفوذ الغرب المالي عندما إستعرضت أمريكا ومَعها أوروبا عضَلاتِ سُلطانها الإقتصادي وسَمَت روسيا كل أنواعِ العقوبات وحرمتها حتى من الوُصولِ إلى أصولها المالية وجَمدت مليارات الدولارات في كُلِ أنحاء العالم .
كقصصِ من رئيس روسيا فلاديمير بوتين بعدَ أن تجرأَ على حربِ أوكرانيا ، لكن الغرب إكتشفَ مُتأخراً ، أن التنين الصيني الذي كان يُراقِبُ بهدُوء لم يكن ينظُرُ للأمر كأكثرِ من حقلِ إختبار ٍ وتجارب رُبما يكون الفئران فيه الأعباءُ في الغرب أو حتى الحلفاءُ في موسكو فما كان يهُمُ الصين منذُ سنوات وبطريقه ليتحقَق هذا العام هو الإنفصالُ عن النظام المالي العالمي الذي يقوُدُه الدولارُ الأمريكي وخلقُ تغييرات دراماتيكية يَفرِدُ فيها التنين الصيني عضلاته المالية على الأرض وتُصبِحُ كلُ أسواق العالم بما فيها أسواقُ الغرب مكان نفوذٍ إستراتيجي خاصٍ ببكين .

إليكم القصة الكاملة وتحليلاتُ كُبرى المراكز الإقتصادية والبحثية لميلادِ النظام المالي العالمي الجديد الذي ستُرَسيه الصين في العام ٢٠٢٣ .

الصين من كيس بوتين
لم يكن لأحد أن يتوقعَ تسخيرَ الصين للعقوباتِ على حليفتها الأوثقِ روسيا لتسرِيعِ عملية الإنفصالِ الإقتصادي الجارِيةِ مع الولايات المتحدة والصين حيثُ عملت بكين من خلالِ شركاتِها العملاقة ودوائر صُنعِ القرار الإقتصادي على إستغلال الصين لجاذبيةِ عُملتها وهيكَلتِها المالية كملاذٍ آمنٍ بعيد عن النزاعات لحدٍ ما ، فما أن حَظرَ الغرب وأمريكا تحديداً على موسكو الوصولَ إلى نصف إحتياطياتِها من الذهب والعُملاتِ الأجنبية المُقدرَةِ بحوالي ٦٣٠ مليار دولار وبينما كانت واشنطن تَستعرض حجم النفوذ المالي وقُدرتها على العِقاب كانت الصين تُرَوجُ بالمال الناعم الكثير لمدى إلتزامِها نحو السوق أياً كان الموقف السياسي والعَسكري مُعادياً أم حليفاً وصديقاً ما أسسَ لمسارِِ إيديولوجي صيني خاصٍ آمن وخلَقَ مجالاً كبيراً لنفوذها الجيوسياسي ومن هنا بدأت أولى البشائر وربما نُذر تشعُب النظام الإقتصادي والمالي العالمي أو ما يُوصفُ بحسب المراكز البحثية المالية بالإنفصالِ الكبير أو العظيم الذي أسست لهُ الصين ويقوُمُ على الإكتفاء الذاتي الإقتصادي سواءً للصين أو من يدوُر بفلك نِظامها المالي مع ميزة آمانٍ إقتصادي لا يتمَتعُ بها إلا الإقتصادُ الماليُ الناشئ ،تقومُ على عدم الإعتماد على الدولارِ الأمريكي بل على العُملات الوطنية للدول المُشتركةِ بالنظام المالي ولأن الصين ستكونُ الطرَفَ الأكبرَ في هذا النظام لجانبِ روسيا سيتكرسُ مع الوقت الإعتمادُ على البدائل المالية الصينية والروسية إلا أن كل هذا سيكونُ مرهوناً بقُدرةِ بكين على الصمود مع بدايةِ إرساء النظام المالي العالمي الجديد خاصةً وأن الولايات المتحدة والصين تُمثلان الإقتصادين الأكبر عالمياً ما يعني حتميةَ نشُوبِ حربٍ إقتصادية باردة ومنافسةٍ مُستعرة سيتحول بالضرورة إلى صراعٍ مفتوح وإنفصالٍ فعلي ستكُون له تداعياتٌ خطيرة يتأثرُ بها جمِيعُ سُكان الكوكب وقد تَصِلُ هذه الحرب الباردة والصراع المالي بين النظامين لنقطةِ اللاعودة مع بدءِ تحقُقِ نبؤات إزاحة الدولار عن عرشه بإعتباره العملةَ الإحتياطيةَ الأبرز وسيد التداولات التجاريةِ حولَ العالم وهذا ما سعت إليه الصين منذ سنوات عبر مُخطط لجعلِ نِظامها المالي ونِظام مدفوعاتها العابر للحدود أكثرَ جاذبية مع تعزيز مكانة الرينمنبي السلاح الأهم في إسقاطِ هيمنةَ الدولار إلا أن الصين فعلت كل هذا للوصول للإنفصال المالي العظيم من دون إنتهاك مصارفها للعقوبات الغربية على حليفتها روسيا إلى حد الآن والإستمرار في دفع ٧٥ % بالمئة من فواتير البضائع الصينية المتداولة بالدولار مخافةً من حظر الصين من نظام مقاصّة الدولار والسويفت قبل أن تكونَ مُستعدةً تماماً ، ما سيؤدي لتداعياتٍ لا تُحتمل على المصارِف الصينية والإقتصاد العالمي معاً ، ما حدا بالصين حشد قوتها الإقتصادية وتطويرَ نِظام المدفوعات بين البنوكِ عبر الحدود سيبس CIPS 《 نظام لإستخدام اليوان في المعاملات العالمية مكان نظام السويفت 》 تمهيداً لإستخدامهِ حول العالم في إجراءِ معاملات الرينمنبي وبالعودة نحوَ ثمانيةَ أعوامٍ للوراء يُمكنُ فهم ما كان تُخطط له الصين عندما أطلق بنك الشعب الصيني نظام السيبس في العام ٢٠١٥ لتقليل حاجة البلاد للعملِ بالدولار عبر المصارف الأمريكية واليوم يضُمُ نظام سيبس ٦٧ عضواً مباشراً غالبيتهم من المصارف المحلية إلى جانب ٢٥ عضواً من مقاصّة المصارف الأجنبية كما يمتلك نظامُ سيبس منصةَ تراسله الخاصة ورغم إعتماد هذا النظام لغاية نهاية العام ٢٠٢٢ على السويفت إلا أن تحليلات أسواق المال تؤكد أن نظام سيبس حظي بدفعةِ قوية بعد العقوبات الغربية ضد روسيا بل سيُمكن هذا النظام من إحداث هزةٍ تنافسية كبيرة بمنظومة المدفوعات العالمية خاصةً بوجود مساعدة كبيرةٍ من عُملت اليوان الرقمية الصينية الوليدة التي خططت الصين لها ، لتلعَبَ دوراً مهماً في تعزيز جاذبية الرينمنبي عالمياً فإذا كانت الصين حافظت خلال السنواتِ الماضية على ضوابط رأس المال ما حالَ دونَ تحوُلِ اليوان إلى منافس للدولار في المجال المالي التقليدي فإن التنين الصيني بطريقه لتغيير كل هذا عبر إستخدام نظام عُملتٍ رقميةٍ عابرةٍ للحدود مبنيةً حول اليوان وهو نظام خططت له بكين ليعمل بمعايير وضعتها داخل مجال نفوذ الصين ما سيُعطيِ بنكَ الشعب الصيني في العام ٢٠٢٣ وما بعده سيطرتاً على تدفُقات المدفوعات بدرجةٍ قد تدفع الصين إلى الذهاب للخطة التالية وجعل اليوان قابلاً للتحويل بالكامل وبالتالي إسقاطُ الدولار عن عَرشه إيذاناً بالإنفصالِ المالي العظيم.

مصائب العالم فوائد.
في وقتٍ ما زال العالمُ يدفعُ ضريبةَ كسادِ ما بعد كورونا وتبعاتِ حرب أوكرانيا بدأً من إرتفاع أسعار الطاقةِ والغذاء والدواء وصولاً إلى السيارات والأجهزةِ الإلكترونية ورقائق الحواسب الآلية يبدوا أن الصين وجدَت أيضاً بهذِه المصائب ما يُعينُها على إرسال النظام المالي الجديد للعالم عبرَ إعادة تنظيم سلاسل التوريد العالمية وإستباق ما سيأتي عن الإنفصال الكبير بين أكبر إقتصادين في العالم من تداعياتٍ كبرى ستؤدي بالتالي لإرتفاع التضخم الراهن خاصةً وأن الصين تُدركُ تماماً التكلُفةَ الباهظة والمُدةَ الكبيرة التي تتطلبها إعادة تنظيمِ خطوط الإمداد ونقل المصانع ما يعني أن ما بدأته الصين منذُ أعوام لتحويل نفسِها إلى نقطةِ إرتكازٍ ووصل لا غنى عنها في سلاسل الإمداد العالمي عبر إستقطاب أكبر المصانع والمؤسسات وشركات العالم العملاقة للصين مع تحقيق ربطٍ بين مصانع العالم وأسواقها يمُرُ من خلال الصين ما يعني بأن أي قرارٍ سَيلي بدأ الإنفصال الحقيقي في النظام المالي للشركات الكُبرى سيُكلِفُها الكثيرُ والكثير حال قررت المُضي بالنظام الغربي الموازي خاصةً إذا ما تعلقَ الأمرُ بإقتصادات أسيا الوسطى التي ما زالت عالقةً في صدمةِ العقوباتِ على روسيا لإرتباطاتها الوثيقة بالإقتصاد الروسي من خلال التجارة وهجرةٍ العمالةِ إلى الخارج وبعد إنهيار الروبل جراءَ العقوبات على موسكو تمُرُ هذه الإقتصادات اليوم بضائِقةِ ماليةِ خطيرة وبالنظرِ إلى إستمرار الغرب وإصراره على معاقبةِ روسيا لإفقارِها وعدم نجاحه بتقديمِ بدائلَ للإقتصادات التي كانت مُرتبطةً بالروس فإن إفقارَ روسيا الوشيك سيُجبرُ الإقتصادات المُرتبطةَ بها لتحقيقِ تحولٍ كبير لكن غيرُ جذري عبر الإرتباطِ بالصين أو بالأسواق التي تتبَعُ لنظامِ بكين المالي كوجهةٍ بديلة وفي النهاية بات من المؤكد أن النتيجة التي ستتمخضُ عن معركةِ الهيمنةِ المالية ،تَشعُبُ النظام العالمي وتصدُعه وصولاً لما خططت له الصين أي الإنفصال المالي العظيم الذي سيُرسي نظامين ماليين إما بكين ومعها الروس بتأثيرٍ أقل وإما الغرب وعلى رأسه أمريكا وما على باقي إقتصادات العالم إلا الإختيار بعد أن يختبروا ويروا بأم العين من سينجح أكثر في إدارة السقوط الكبير للنظام المالي الواحد وبناء مجالُ نفوذٍ مالي أقوى.

فهل ستنجح الصين في إرساء نظامها المالي الجديد ؟

وهل ستنجح بكين في إزاحة الدولار عن عرش العالم المالي وتنصيب اليوان ليحُل مكانه ؟
أم أننا سنشهد حرباً إقتصادية يُمكنها أن تَخرج عن السيطرة وتتحول لمواجهة عسكرية لا تُبقي لا حجر ولا بشر؟

خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *