مصيرُ الحرب بين الزيارة والخطاب.
-عامٌ من الحرب في وصراع الجيوش على الأرضي الأوكرانية.
– بعد مرور عامٍ على الحرب بين كلٍّ من روسيا وأوكرانيا، حدث أمرٌ مهمٌّ منذ أسبوعين ، لا يُمكِن مقارنته بكلّ الأحداث السابقة، كما لا يمكن تجاهل تأثيراته المستقبليّة على ما يحدث من صراع .
حيث قام الرئيس الأمريكي “بايدن” بزيارةٍ خاطفةٍ للعاصمة الأوكرانية “كييف”، وأكّد من هناك على دعمه لأوكرانيا في حربها ضدّ روسيا، وأعلن بأنّ روسيا لن تنتصر أبدًا في أوكرانيا.
وكان ذلك التصريح من الرئيس الأمريكي “بايدن ” قبل يومٍ واحدٍ من خطاب الرئيس الروسي “بوتين” والَّذِي قال فيه ما مفاده: ” أنّ روسيا لن تنهزم أبدًا”.
-وما بين الهزيمة والنصر في الخطابين ظهرت الصين بعرضها مُبادرة سلامٍ تهدف لإنهاء الأزمة بين البلدين، ولكنها لم تلقَ أُذُناً صاغيةً من الطرفين، حيث أنّ الإتهامات المُتبادلة بين الطرفين تزيد التعقيد كلّ يوم، ويبدو أنّ العناد والتكبّر والتحدي سيقذفان بالكوكب إلى الهاوية.
-ففي العشرين من فبراير / شباط عام ٢٠٢٣، وقبل يومٍ من الخطاب المُنتظَر للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، قام الرئيس الأمريكي “بايدن” بزيارة العاصمة الأوكرانية “كييف” وذلك في زيارة سريّة تطرح العديد من الأسئلة إتجاه روسيا ،حيث أعلن الأمريكيون بأنّهم قد أبلغوا المسؤولين الروس بالزيارة حَتَّى لا يحدث سوء تفاهم وتنزلق الأمور لما لا تُحمَدُ عُقباه
.
-فكيف تكون زيارةً سريّةً مع إبلاغهم للروس بها؟
-قام الرئيس الأمريكي” بايدن” بمقابلة الرئيس الأوكراني “زيلنسكي”، في العاصمة الأوكرانية “كييف” وسط صافرات الإنذار ، وأكّد على دعم أوكرانيا وحمايته لكلّ القيم الديمقراطية في العالم، وقال حرفيًّا: “بأنّ أمريكا ستدعم أوكرانيا في معركتها ضدّ روسيا بقدر ما يتطلّبه الأمر”.
وفي اليوم التالي مُباشرةً،تحدّث “بوتين” في خطابه المُنتظَر أمام البرلمان الروسي لحوالي ساعتين مُبرِّراً العمليّة العسكريّة الخاصة في أوكرانيا ، حيث أكّد أنّ الغرب إفتعل حرب أوكرانيا، ونحن نستخدم القوّة لإيقافها، ثمّ لمّحَ “بوتين ” في معرض كلامه بالتلويح بإستخدام السلاح النووي ، ثم أعلن عن تعليق العمل بمعاهدة “نيو ستارت”.
فما هي هذه المعاهدة ؟
وما أهميّتها؟
وماذا يعني إنسحاب روسيا منها ؟
إنّها مُعاهدةٌ تمّ توقيعها في العام ٢٠١٠ بين الرئيس الأميركي الأسبق “باراك أوباما” ونظيره الروسي “ديمتري ميدفيديف” وذلك للحدّ من عدد الرؤوس النوويّة التي يمكن للبلدين نشرها، وتُحدِّد كذلك الصواريخ الإستراتيجية بعيدة المدى… وقد دخلت المعاهدة حيّز التنفيذ عام ٢٠١١، وتمّ تمديدها في عام ٢٠٢١ لمدّة خمس سنوات بعد أن تولّى الرئيس الأميركي ” جو بايدن” منصبه.
وتسمح هذه المعاهدة لمفتشين أميركيين وروس بإجراء مايصل إلى ١٨ عمليّة تفتيش لمواقع الأسلحة النوويّة الإستراتيجيّة كلّ عام للتأكّد من أنّ الطرف الآخر لم ينتهك حدود المعاهدة .
ومن أهمّ الأسلحة التي تتعامل معها معاهدة ” نيو ستارت” هي الصواريخ النوويّة طويلة المدى والعابرة للقارّات ، وقد حدّدت المعاهدة ترسانة الدولتين من هذه الصواريخ بما لا يزيد عن ٧٠٠ رأسٍ نوويٍّ في القواعد الأرضيّة ، و ١٥٥٠ صاروخاً نوويّاً في الغوّاصات والقاذفات الجوّيّة الإستراتيجيّة ، مع إمتلاك ٨٠٠ منصّةٍ ثابتةٍ وغير ثابتةٍ لإطلاق صواريخَ نوويّةٍ .
فبتعليق معاهدة ” نيو ستارت ” ، يكون الرئيس الروسي قد أعلن عن عدم وجود أيّ التزام قانوني من قِبَل روسيا بمنع الحرب النوويّة. وبالفعل أمر “بوتين” بإرسال الصاروخ الباليستي العابر للقارات “سارمات”، وهو صاروخٌ يصل مداه إلى مسافة تصل إلى 11 ألف كم، حيث قال عنه الرئيس الروسي بأنّه صاروخٌ لا مثيل له ،ولن يكون له مثيل . فهو مُصمَّمٌ للإفلات من الأنظمة الدفاعيّة المُضادة للصواريخ .كما يستطيع حمل عشرة رؤوسٍ نوويّةٍ ، ويمكنه إطلاق حمولة ٥٠ ميغاطن من مادة TNT ، ووزنه ٢٢٠ طنًّا.
في الحقيقة، إنّ قيام “بوتين” بتصعيد الأمر لهذه الدرجة من الخطورة، يعود لسببين :
١. الضغوط الداخلية من القوميين الروس، حيث يريدون منه حَسْمَ الحربِ فورًا.وبأسرع وقتٍ مُمكِنٍ مع نصرٍ كاملٍ.
٢. الخلافات على مستوى قيادات الجيش ،حيث إنّ “بريغوجين” زعيم مجموعة “فاغنر” المُشاركة في معارك أوكرانيا إتّهم قيادات الجيش الروسي عَلانيّةً بمحاولة تدمير قوّات “فاغنر” وحرمانها من الأسلحة والذخيرة. كما إتّهم وزير الدفاع ورئيس الأركان بالخيانة العُظمى؛ بسبب عدم موافقتهما على تزويد قوّات “فاغنر” بالذّخيرة والدّعم اللوجستي، إلّا أنّ وزارة الدفاع الروسيّة ردّت على هذه الإتهامات في بيانٍ رسميٍّ قائلةً :إنّها أرسلت الذخيرة المطلوبة لأسراب المتطوعين الهجوميّة “الفاغنر”.
ومجموعة ” فاغنر” هي شركة عسكريّة خاصّة قادها الجنرال ” ديمتري أوتكين” ، وهي مجموعة تُقدِّم خدماتها لوزارة الخارجيّة والدفاع الروسيّتين. وتتألّف من قُدامى المحاربين العسكريين، وتتراوح أعمارهم ما بين ٣٥ و ٥٥ عاماً وتصل رواتبهم إلى ٥٠٠٠ دولار شهريًّا ، وعددهم مابين ٢٥٠٠ و ٥٠٠٠ مُحارِباً.
وتوجيه إتهاماتٍ خطيرةٍ ، في مثل هذا التوقيت، وقبل مجيء فصل الربيع يُنبِئ بوجود أزمةٍ على مستوى القيادة العسكريّة الروسيّة، وهذا يُوضِح السبب الذي دفع “بوتين” لتصعيد الخطاب ، والتلويح بالسلاح النووي.
فكانت ردّة الفعل الأمريكيّة من “وارسو” ،عاصمة بولندا الَّتِي كانت سبب الحرب العالمية الثانيّة، حيث إختار” بايدن” مكان خطابه في مدينة “وارسو” القديمة الَّتِي تمّ تدميرها بالكامل في الحرب العالميّة الثانية، ثم أُعيد بناؤها بعد الحرب، وهذا يدلّ على رمزيّة إعادة البناء من الرماد، وهي رسالة أمريكية رمزيّة إلى أوكرانيا.
كما أكّد “بايدن” على الدعم الأمريكي للجناح الشرقي للناتو، وإجتمع مع قادة مجموعة “بوخارست” التسعة وهم أعضاء حلف الناتو من أوروبا الشرقيّة “بولندا – لاتفيا – إستونيا – لتوانيا – رومانيا – بلغاريا – التشيك – المجر – سلوفاكيا”، وكان هذا الإجتماع في “وارسو” بالذات والتي كانت مقرّ حلف “وارسو” الَّذِي أسّسه الإتحاد السوفييتي، حيث إستمرّ حتّى عام ١٩٩١ وكان يهدف لحماية الدول الأعضاء من الأخطار الخارجيّة كأميركا والناتو .
وقد كانت الصين قد تقدّمت بمبادرةٍ للسلام لإنهاء الأزمة في أوكرانيا مؤلّفة من ١٢ بنداً:
تقوم على مبدأ إحترام سيادة الدول وعدم إستخدام القوّة والتهديد بضمّ الأراضي ،ونبذ عقليّة الحرب الباردة ،وعدم السعي لتحقيق الأمن القومي على حساب أمن الدول الأخرى ،ووقف الإقتتال والصراع، والتّحلّي بضبط النفس تفادياً لتأجيج النزاع ،وإطلاق باب مُفاوضات السلام والحلّ السياسي ،وتخفيض أزمة المدنيين والأسرى، وسلامة المحطّات النوويّة والكيماويّة والبيولوجيّة ،وضمان نقل الحبوب ، ووقف العقوبات الأحاديّة وضمان خطوط الإمداد.
حيثُ قام كبير الدبلوماسيين الصينيين “وانغ يي ، بجولةٍ أوروبيٍّة، وحضر مؤتمر ميونخ للأمن قبل أن يٌقابِل “بوتين” في روسيا بهدف مُناقشة التسوية السياسيّة في الأزمة الأوكرانيّة، وقد شغل “وانغ يي” منصب وزير خارجية الصين لمدة عشر سنوات منذ عام ٢٠١٣ حَتَّى مطلع العام الحالي ، عندما أقالته الحكومة الصينيّة وعيّنت سفيرها في الولايات المتّحدة “تشين جانج” وزيرًا للخارجيّة خلفًا له والمعروف بأنّه مُعادٍ للغرب.
وبدلاً من أن تقوم الأطراف المُتنازِعة بدراسة المُبادرة الَّتِي قدّمتها الصين بصورة جدّيّة، ظهرت إتّهاماتٌ أمريكيّة للصين بمحاولة تزويد روسيا بالأسلحة الفتّاكة ،وهذا حسب كلام وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” وغيره من المسؤولين الأمريكيين ، ومنهم السيناتور “ليندسي غراهام” عضو مجلس الشيوخ الَّذِي وجّه للصين نصيحة مفادُها: “أقول للصينيين إذا ركبتم قطار “بوتين” الآن فهذا غباء واضح؛ إذ سيكون الأمر أشبه بشراء تذكرة على متن تايتانيك بعد مشاهدة الفيلم، فلا تفعلوا ذلك”.
وكان ردّ الصين على الإتهامات الأمريكية والغربية هو محاولة تهدئة الأجواء وإيجاد حلٍّ سلميٍّ للأزمة، في حين هناك دولٌ أخرى تُقدِّم دعماً عسكريًّا وأسلحةً لأوكرانيا بدون أيّة نيّةٍ في تسوية الأمر بصورة سِلميّة. أي أنّ الصين تُنَبِّه إلى دعم الولايات المُتّحدة لأوكرانيا.
فالصين تُحاوِل مُوازنة الأمور، فتجد أنّها تُحاول أن تُساعِد روسيا وتدعمها إقتصاديًّا ودبلوماسيًّا بدون إثارة حفيظة الغرب، وفي نفس الوقت ليس من مصلحة الصين أن تخسر روسيا الحرب؛ لأنّ هذا يعني خسارة حليفٍ قويٍّ، ورُبّما تكون خسارة روسيا سببًا في تهديد الصين.
ومن ناحيةٍ أخرى طالبت الأمم المُتّحِدة روسيا، بأغلبيّة ١٤١ صوتًا، بوقف إطلاق النار، وسحب قوّاتها من أوكرانيا وبدون شروط، ممّا يضع روسيا في عزلة دوليّة إلى حدٍّ كبير.
حقيقةً ، وبعد مُضِيّ سنةٍ كاملةّ من الحرب، لا يظهر إنتصار أيّ طرف من الأطراف، فتمّ فرض عُقوباتٍ على روسيا، ممّا ترتّب عليه إنكماشٌ في الإقتصاد الروسي، وتزعزعت هيبة الجيش الروسي الَّذِي كان يُعَدّ من أخطر جيوش العالم، فما كانت تعتقده روسيا عمليّة خاصة سريعة قد تطوّر إلى حربٍ كبيرةٍ لا يبدو لها نهاية عن قريب. ومن ناحيةٍ أخرى ،فإن أوكرانيا قد صمدت أمام الجيش الروسي ولكن في النهاية تدمّرت البلاد وتدهور الإقتصاد، وأصبح سكّانها لاجئين في دُولٍ مُختلفةٍ.
ممّا يُوضِح الصورة العامّة لأيّة دولةٍ تدخل في هذه الحرب، أنّ كلّ الدول المشتركة في الحدود مع أوكرانيا تطمع في أن تستولي على جزء من الأراضي الأوكرانيّة:
فرومانيا تطمع في الإستيلاء على مولدوفا وأجزاء أخرى من أوكرانيا، وكذلك تطمع المجر في الإستيلاء على جزء من أوكرانيا وسلوفاكيا وعدّة بلادٍ أخرى حَتَّى تتمكّن من إنشاء المجر الكُبرى.
إنّ أوكرانيا الَّتِي كانت من أقوى البلاد إقتصاديًّا في شرق أوروبا قد تدهور أمرها حَتَّى وصلت إلى الوضع الحالي، ومن الصعب أن تعود إلى ما كانت عليه من قبل كما عانت الدول الأوروبيّة بسبب أزمات الوقود والتضخّم بسبب الحرب، وفقدت إستقلالها تمامًا لصالح الولايات المتّحدة الأمريكيّة الَّتِي بالفعل وحّدت جبهة الناتو وعزلت روسيا دوليًّا وإستفادت بمبيعات النفط والغاز لأوروبا. ولكن في النهاية إستمرار الدعم لأوكرانيا معناه إستنزافٌ للولايات المتّحدة الأمريكيّة حسب ما يُخبِر به الجمهوريون.
هذه هي حرب روسيا وأوكرانيا، الجميع فيها خاسر، فخسائر الإقتصاد العالمي بسبب الحرب في العام ٢٠٢٢ قد وصلت إلى ١،٣ ترليون دولار، وهو رقمٌ كبيرٌ يُترجَم في أزماتٍ مُتعدّدةٍ: مثل أزمة الغذاء والتضخّم وإرتفاع الأسعار الَّتِي يعاني منها العالم أجمع .
في النهاية ،إنّ هذا المشهد يوحي أنّ الحرب ما زالت مُستمِرّة، ويبدو أنّها ستمتدّ سنواتٍ أخرى، وقد يتوسّع الأمر إلى أن تُصبِح حرباً عالميّةً ثالثةً رسميّةً.
فمع أيّ طرفٍ تكون مصلحة العرب ؟ وبعد سنة من الأزمة يتّضح أنّ مصلحة الجميع هي في إنهاء تلك الحرب تمامًا، ولكنّ العناد والتكبّر والتشبّث والتشابك مستمرٌّ بين الأطراف المُتنازِعة .
وأيضاً هل إنسحاب روسيا من معاهدة نيو ستارت ستكون نيو ستارت لحربٍ عامليةٍ نووية تقضي على البشر والحجر ؟
وهل مبادرة الصين هي لكبح عجلات الحرب أم لإنقاذ روسيا ودعمها لها في نصرٍ حتى لو كان جزئي؟
كل تلك الأسئلة رهينة المستقبل القريب ولكن ما نحن علي يقين منه ،أن الدول الكبيرة تتقاسم الغنائم والثروات والأسواق على دماء ومستقبل الشعوب التي تفكر بالنهوض والخروج من التبعية السياسية والإقتصادية لتلك الدول .
خالد زين الدين .
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية.
************************