المقال يجمعنا.. والابتسامة تريحنا. “ضحايا الضاد” 

 د. سحر أحمد الحارة / سوريا / اللاذقيه

المقال يجمعنا.. والابتسامة تريحنا.
“ضحايا الضاد”
 د. سحر أحمد الحارة / سوريا / اللاذقيه
يسعى معظم المغتربين الذين يعانون في غربتهم من الوَجْد والشوق والحنين إلى البحث عمّن ينطِق بلغتهم الأم،فما إن يجد أحدهم الآخر حتى يفرح به، ويشعر معه بالأنس والأمان والطمأنينة، على الرغم ممّا قد يبدو مِن اختلاف في لهجاتهم المحكيّة،وصعوبة فهم بعض مفرداتها، فيحاولون إيجاد أيّة طريقة لأجل فهم تلك المفردات، وربما يلجؤون إلى الإشارة والإيماءة،في جوّ من التواصل والتآلف والود والمحبة!
لكن من ناحية أخرى، وفي ظرف آخر،
نرى أن صعوبة هذا الأمر كانت تكمن في البلد نفسه،
وبخاصة في زمن ما قبل التلفاز والمسلسلات المتنوعة،
والتي عرف الناس عبرها معظم اللّهجات المحكيّة،
سواء في الداخل أم في الخارج، ولطالما -قبل ذلك-
كان يُساء فهم بعض الكلمات بسبب اختلاف النطق للكلمة نفسِها من مكان لآخر، ومنها ما كان يضع المُتكلّم أو السّامع في وضع حرج!
ومن القصص الفريدة عن ذلك، قصة مايزال يردّدها بعفويّة السيد (عبد الواحد محمود سلمان أبو غزوان)، عن حادثة جرت أمامه في بداية شبابه حين كان مُلازماً لوالدي المُفكّر “أحمد أسعد الحاره”، فقد كان والدي وقبل استدعائه لخدمة الجيش برتبة ضابط احتياط، (في منتصف الستينيّات من القرن الماضي) كان يعمل مُدرّساً في ثانويات محافظة اللاذقية، ومنها ثانوية جول جمال والثانوية الوطنية الأرثوذكسية واعدادية القطرية إضافة إلى ثانوية (عمار بن ياسر)، ومن زملائه التربويين آنذاك في الأخيرة أذكر أ. محمد كامل/أبو نزار، وأ. سهيل علي كامل/أبو عقيل..ولقد كان والدي بالإضافة إلى ذلك في بيته (الذي كان بالأجرة في حي المشروع الأول) يستقبل عشرات الطلاب والطالبات، ومن جميع الأطياف والأحياز الاجتماعية، مِمّن يسعَون للتمكين في اللّغة العربيّة، وغيرها، وفي منزله كانت كلمات الشكر والعِرفان هي الأجر الذي يحصل عليه من الطلاب، بل ومَن كان يقصده من مكان بعيد كان يُسهم معه في تكلفة أجرة الطريق!
وبعد الانتهاء من أحد الامتحانات الفصلية في ثانوية “عمار بن ياسر” والذي تقدّم إليه طلبة من اللاذقية وطرطوس، وغيرها، سواء من الجزيرة أم من إدلب وحلب وحمص والغاب ومن أماكن مختلفة، جمع والدي أوراق الإمتحانات متوجّهاً إلى الإدارة، إلا أنه لاحظ طالباً يركض من بعيد قادماً إليه بأقصى سرعته منادياً بأعلى صوته أستاذ يا أستاذ ! فوقف ينظر إليه قائلاً: على مهلك يا بني، ما بك؟ على مهلك ما المشكلة، قال الطالب بلهجته العامية:(يا استاذ آني عندي ليك سؤال مهم ماينفع أكوله “أقوله” الحين أرجو أن تستكبلني “تستقبلني” في بيتك اليوم تجاوبني عليه)، فأجاب الأستاذ الوالد: حللت أهلاً ووطئت سهلاً، بكل سرور يابني.. بالفعل وفي اليوم نفسه، دق الباب لتفتح والدتي السيدة (هند أم نزار) فتجد شاباً في مقتبل العمر، يحمل بيده “وردة” يخبرها عن موعده مع أستاذه، فأكرمَتْ والدتي الزائر كعادتها، وقدّمَت له الضيافة -وكان في البيت أشخاص كثر، ومنهم السيد عبد الواحد الذي روى القصة- وما إن رأى الطالب أستاذه حتى سارع وقدّم لأستاذه الوردة بلباقة ولطف قائلاً: (آني جيتلك حد البيت مضطر يا أستاذ أبغي أسألك سؤال يهمني) فأجابه أستاذه: أهلاً وسهلاً، أنت في بيت أهلك، خذ راحتك يا بني، قل ما هو سؤالك، ومن غير حرج، فأنا بمنزلة والدك، فرد الطالب بلهفة: (كفو يا أستاذ بس اني جيتلك أبغي أعرف والحين يعني آني بِنْجَحْش الاّ ما بنجحش)؟! ذهل الأستاذ ونظر بدهشة إلى طالبه قائلاً بقسوة وتوبيخ: ماذا تقول يا طالب؟ما هذا السؤال؟
لكنّ الطالب تابع مُكرّراً السؤال نفسَه: (مالك ما تكول’ تقول’ وترد علي يا أستاذ آني جيّالك حد البيت عشان توبخني! طب ما ترد علي وباقولك وبسألك آني بنجحش الاّ مابنجحش؟) فرد الأستاذ لا لا يا بني أنت مابنجحش أبداً حاشاك؟! فرد الطالب متحسراً: (لا لا أرجوك يا أستاذ لاتكولها “تقولها” يعني آني مابنجحش؟!) نظر الأستاذ إلى طالبه وقد بدا التّوسل في عينيه وملامح وجهه، لكنه وبيأس ومصرّاً على السؤال يعني:(آني مابنجحش طيب بشو آني غلطان أرجوك خلني أشوف وركتي”ورقتي”قبل ما أسافر بلدنا وأخبر هلي عن نتيجتي) وبعد الإصرار على سؤاله، والقول لوالدي: كنت لم أفهم عليه بدايةً واستغربت سؤاله، إلا أنه ومن تكرار السؤال،
وذكره للورقة الامتحانية، علمت أنّ لهجته تدل على سؤال(النجاح) ثم تداركت الأمر، وابتسمت قائلاً: لا عليك يا بني سأراجع ورقتك الآن وأمام ناظريك، فبحث عن ورقته وصحّحها أمامه، وكم كانت فرحته كبيرة عندما أخبرته بعلامة نجاحه، فطار فرحاً قائلاً: “هيييي آني بنجحش يا ناس بنجحش يا ناس آني بنجحش هيييي)
ومن غبطته وسروره، لم يكن لدي متسع من الوقت كي أفهمه تباين دلالة هذه الكلمة بتباين لفظه لها،ولاحقاً وفي صفوف الدراسة خصّصت ساعة كاملة لشرح ذلك، وأنّه يجب على الجميع الإلمام باختلاف اللّهجات وما يقصده أصحابها بها، وأنّه وبالمُقابل على المرء أن يسعى لاستخدام الكلمات الأقرب إلى الفصيحة حين يتحدث خارج محيطه منعاً للبس..
وفي العالم العربي تُعدّ اللّهجة السوريّة هي أكثر اللّهجات العربيّة وضوحاً بالنسبة لبقيّة اللّهجات، وهي تُسمّى باللّهجة البيضاء: (أي الواضحة)، وتحاول معظم المحطات العربية الاعتماد عليها في البرامج الفنية، وغيرها، علماً أنّ كل بلد وإلى يومنا هذا، يتباهى بلهجته العامية المحكية، وعلى حساب اللّغة الأم، للأسف! بل ويجعلها في مقدمة الفنون (الشعر والتمثيل والغناء)، بل ويعدّونها جُزءاً أساسيّاً من تراث بلدانهم، فيقولون إنها أقرب للقلب والوجدان! لدرجة وصل الأمر بهم إلى دبلجة أفلام الكرتون للأطفال باللّهجة المحلّية!لتصير العربيّة الفصيحة غريبة على الطفل حين يكبر! وكم كناسنلاحظ أنّ رواياتٍ وقصصَ رائعة كانت ستفقد مستواها لو كانت بالعاميّة، كما قَصص السندباد، وعلاء الدين، وريمي، معظم المُوروث القصصي، وغيره.. وأبلغ ما أستذكره هنا الأبيات الشهيرة للضاد، لأحد شعرائها حليم دموس في قصيدته:
لو لم تكن أمّ اللّغات هي المُنى
لكسرت أقلامي وعفت مدادي
لغةٌ إذا وقعت على أسماعنا
كانت لنا برداً على الأكباد
ستظلُّ رابطةً تؤلّف بيننا
فهي الرّجاء لناطقٍ بالضّادِ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *