معاينات أم معاناة

د. سحر أحمد علي / سوريا / اللاذقية

معاينات أم معاناة
د. سحر أحمد علي / سوريا / اللاذقية
ماإن وصَلَتْ إلى موقف الميكروات حتى اندَهَشَتْ وعلى غير العادة من وقوف معظمها ينتظر الركّاب في ليلة قُلِبَتْ فيها الموازين؟!
فبعدما كانت وجميع المنتظرين يتراكضون بازدحام بعد انتظار طويل ملول .. أصبح للـرّاكب مقـعداً وكرامـة!
لا بل رجـعت نـخوة الأغلبية (فيؤثرون على أنفسهم) بمقاعدهم لمن يحتاج مقعدا محترما مريحا
فيستبدلونها إلى مقاعد جانبية هامشية!!
سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال..
إنها حقـاً معجزة الليـرة السّـورية ؟!!
صعدت تلك الشـابة متثاقلة من ألم عصبي في ظهرها وجلست حاظيـة بمقعد في الصّف الأمامي
مقابل باب الميكرو تنظر شاردة شروردا عميقا
تتساءل بينها وبين نفسها كيف لها أن تحصل على صور شعاعية واضحة وطبقي محوري
والأهم رنـيـن مغناطيسـي بأقل كلفـة؟؟!
وقد يئست من تشخيص دقيق لحالتها
في صور شعاعية غير واضحة لدى طبيبها المختص
مؤكدا لها وموضحاً أن وضعها الصّحي
لايحتمل الانتظار وأنه يلزمه تحاليل
وصور رنين للتشخيص الدّقيق..
يتعمق شرودها ليصل إلى حيثيّـات المعاناة الحقيقية
فهي لم توفر مشفى بل أضخم مشافي مدينتها
وأحدثها تقنية وأجهزة ومعدات طبية
إلا استنجدت بطلبها وكان بعضها يلبي صورة بسيطة
من طلبها والـدّور بـعـيد لأكثر من شـهور والطلب الآخر الصّعب والأهم كان جوابهم لها واحدا ومن الجميع: لايتوفر أجهزة صالحة للتصوير- منها بحجة الصيانة ومنها أصيب بعطب أو عطل في إحدى الآليات!!
وراحت هذه الشّـابة تكيّل مابذهنها من أفكار وحلول وهي بعمق شرودها متّجهة بعينيها المتسمّرتين نحو باب الميكرو.. شرود عميق أتعب تفكيرها شغل جميع حواسها..
هذا الشرود لم يشعرها قط بأن هناك سيدة ضخمة الصحة مسكت باب المكرو بيدها اليمين تستنجد بها وبصوت خافت للمساعدة..
وبغفلة من اللّحظات التفتت لشاب صغير سارع من المقعد المعاكس والمقابل لمقعد الشّـابة قائلا: “تكرمي ياحجّي تكرمي” !!
وأمسك بقوّة بكتف يدها اليسرى ليساعدها على صعود الميكرو.
وكأنّ به مايشبه المثل القائل: “فأرة تجـرّ مكنسة”
هنا تدخَّلت الشّـابة قائلة:
“اسم الله ” مابك ياخالة العفو منك سامحيني
أرجوكِ لم أنتبه لنجدتك..
لم أكن بوعيي لأسمع حتى همسك..
ظننتك تكلمين نفسك
لأنني كنت في حالة شرورد بعيد جدا..
تعـالي تـفضلي إلى جـانبي..
سـندتها وأجلستها بقربـها
وكرّرت اعتذارها سائلة إياها ممَّ تشكين ياخالة؟!
فجاوبتها السيدة: لاتقوليها سامحتك يابنتي
وشكوتي لله فأنا تعرّضت لجلطة إثر حالة نفسية أثّرت على يدي اليسرى وأعاقتها عن الحركة!!
بصراحة ليس لديّ القدرة على متابعة العلاج فأجور الفيزيائيين اليدوية والآلية “هديك الحسبة” الله لايدوقك ولايصيبك أذى أو مرضاً!!
فردّت الشـابة بكلمات تواسي محنتها المرضية وتواسي معاناتها قائلة: ياخالة أرى والله أن سوء الحال والصحة يجمعانا فقد عدت للتو من مشفى (::::) مخذولة لم يتوفر طلبي في صورة رنين مهمة ليشخص حالتي طبيبي…
لقد كان ردهم أنه ليس متوفرا..
وتأوَّهتْ تتابع حديثها لامفرَّ من إجراء صورة في مخبر خاص” مكلف”؟!!
.. ماإن أكملت حديثها تلك الشابة
حتى قاطعها الشاب الصغير الذي ساعد تلك السيدة
والذي كان جالساً أمامهن بمقعد عكسي ليكونوا وجهاً إلى وجه:
قاطعها قائلا: ألف سـلامة لكنّ..
ولكن هـلاّ نظرتُنّ إليّ كيف هي حال ساقي
ألا تـَريَن أنّني شبه عاجـز في ساقي وكم ذقت الويلات والمعاناة لعلاجها كي ترجع سليمة ولكن عبثا
فقد زاد الطين بلّة من دكتور إلى دكتور ومن مشفى إلى مشفى ومن مخبر إلى مخبر
كل هذا ولم تكفيني حقيبتان من المال لتسديد الكشوفات والأتعاب كما أن صور وتحاليل معظمها على نفقتي الخاصة!! ..
وبقيتُ كما ترون لا حول لي ولا قوة فلا حال يسعفني ولامال يكفيني: أرى أنه نصيبي في دنيايَ هذه أن أمشي وقد بان واضحا علي فاستسلمت لقدري مـرغما..
مـاذا؟!!
صُعقت الشّـابة مما سمعت ورأت وخصوصا عندما أشار إلى حال ساقه المعطوبة..
مـاذا !!
أأفهم منك أنك ساعدت الخالة وأنت مصاب بدافع الذوق وكأنك تحيي المثل القديم القائل (مـيـّت يجـرّ مـيّـت)
نعم نعم فقد أدركتُ عدم انتباهكِ فسارعتُ لنجدتها..
.. رجعت الشـابة إلى حالة شرودها .. ثـلاثة مرضى شـاء القـدر أن يجمعهم ويوحّد معاناتهم وبذات الحافلة..
تنهدت مبتسمة تستغرب صدفة الزمن الغريب..
فبرغم صعوبة المشهد وصعوبة التّـعايش مع المرض ترى الجميع راضياً مرغماً مُسلّماً أمره للخـالق!!
لم يسـعها إلا أن تحيّي إنسانيّـته قائـلة: تلك النّـخوة لاأسـتغربها طالما كانت راية لكل -أصيـل –
واليوم نحاول قدر الإمكان إحياءها
بعد مرور الأزمة العصيبة والتي أثّرت
ببعض أخلاق النّفوس الكارهة..
امتلأ “الميكرو” بالركاب ..
صعد السّـائق “المعـلم” ليوصل كل من في الميكرو إلى موقـفه..
نزلت الشـابة متثاقلة من ألمها.. مشـت بتباطؤ..
وقد عاد شرودها إلى حال هذه الدنيا ومن فيها
من أعيـاء جسدية ونفسية وأعبـاء مادية
تزيدها همـّا وغمّـا آملة أن يوقظ شرودها
أملٌ سعيد وفرجٌ قريب بخبـرٍ رحيم
وأن يتم تصليح أجهزة المشافي العامة
وصيانتها لتخفف أعـباء الناس كافة وترضي حاجاتهم المُلِحّة..
مشـت ومشـت ومازالـت تمـشي شـاردة باحـثة؟؟!!
فالبحـث الـحالم لايـفسد عـجز اللـيرة في المخابر الطبية العامة!!
أم إنه بات عجز الليرة السورية في المخابر الخاصة!!؟
ليـرتنا تشـرقينَ آنـاً.. وآنـاً تـغربين
ولكن كلّنا تـفاؤل لتشـرقينَ ثانيـةً..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *