رجل المعجزات
الدّكتور داهش
دهشة العصر
رجل المعجزة وعقيدته روحانيّة وعجائبه لبنانيّة
مسكون:
في هذه السلسلة نسترجع قصصنا العربية الموروثة كجزء من استعادة السردية، بعيداً عن صحتها أو مدى إيماننا بالجن أو قوى ما فوق الطبيعة. هذه القصص تظهر كيف تتشابك التقاليد مع الدين مع عالم الموارئيات مع الترفيه.
هذه القصة ليست عن الجن والعفاريت بشكل مباشر، بل تتناول أسطورة حضرية لا تزال منتشرة بين الأجيال الأكبر سناً من أهالي بيروت. هي قصة شخصية غامضة، رجل وُصف إما كمشعوذ وعابد شيطان أو كرجل معجزة ونبي. لا يزال قصره قائماً في حي زقاق البلاط، من أقدم أحياء بيروت، بين العديد من القصور المهجورة والمتروكة فقط كتذكار لزمن مضى. تم بناء تلك العمارة في أواخر القرن التاسع عشر من قبل كونت روسي. وفي مطلع القرن، اشترته السفارة الأمريكية ثم عائلة الحنيني اللبنانية حتى تم تأجيره لجورج وماري حداد ولا يزال في رعاية عائلة الحداد حتى اليوم.
الداهشية تبشّر بوحدة جميع الأديان، وأزليّة الروح مع أكثر من ستة آلاف حياة لكل روح على سماء الكواكب والجحيم والأرض وميتافيزيقية النفس في “السوائل الروحية.” يعتقد جميع أتباع الدكتور داهش أن ليس مجرد رجل كسائر الرجال وأن لديه ستة “شخصيات” مختلفة. لكن مثل النجمة الخماسية (وهي رمز الداهشية)، تتلاقى جميع الخطوط لتشكل مركزًا. ولكن من هو الدكتور داهش؟
هو سليم موسى العشي من مواليد بيت لحم في فلسطين عام 1909 لأبوين سريان أرثوذكس اللذان انتقلا إلى بيروت لاحقاً. في عام 1929، عندما بلغ سليم 20 عامًا، تبنى اسم الدكتور داهش وفي عام 1942 أعلن العقيدة والدعوة الداهشية رسميًا. واستخدم الاسم المستعار هذا لنشر العديد من الكتب والروايات.
بحسب الروايات، فإنّ لداهش ست شخصيات: واحدة أُعدمت رمياً بالرصاص في أذربيجان عام 1948 في حين كان يتناول طعامه في مكانٍ آخر من العالم، وعاد إلى لبنان بعد فترة وجيزة، واتضح أنه اتخذ الاحتياطات اللازمة لاستبدال جسده بإحدى “شخصيّاته” الروحية الستة الخالدة. أدى الغموض المحيط بحياته إلى العديد من التكهنات حول هويته. فيعتقد الكثيرون أنه كان تجسيدًا للمسيح ونبياً للعصر الحديث. أما آخرون فنظروا إليه على أنه ومخادع يلوّث عقول الناس لأخذ أموالهم. في كل الأحوال، كان للدكتور داهش اسمًا جلب الخوف والرهبة إلى الذاكرة الجماعية اللبنانية، سواء في حياته أو في مماته.
ما زالت حكايات عجائبه منتشرة في الذاكرة الجماعية لسكان بيروت من أشهرها مثلاً، كيف ذهب إلى صالون حلاقة ذات يوم وهو متأخراً، فكان لديه التزاماً آخر، فأعطى رأسه إلى الحلاق وأخبره أنه سيعود ليستعيده بعدما ينتهي من موعده. قصة أخرى تروي جدالاً دار بينه وبين بائع فاكهة حول سعر الليمون. عندما رفض البائع العنيد تخفيض السعر، رفض الدكتور داهش الدفع وقال: “أنظر كيف سيتبعني الليمون.” وبالفعل، عندما خرج داهش من المتجر، ركض الليمون وراءه. كما يزعم أتباع الدكتور داهش أن لديه قدرة خارقة في عينيه ويستطيع جلب انتباه كل من كان حوله من خلال التحديق بهم. كما يدعي أتباعه أن الورق العادي كان يتحول بين يديه إلى دولارات وليرات لبنانية شرعية وأصيلة بالمئات والآلاف، وان الخشب كان ينقلب إلى برونز أو ذهب أمامه في الحال.
وبحسب فارس زعتر، وهو محامي داهشي ملتزم، فإن معجزات داهش لم تكن موضع نقاش فهي بالتأكيد ليست أوهام، “بل هي واقعات مادية، فقد كان يشفي المرضى بمجرّد لمسهم، ولديه القدرة على خرق قوانين الطبيعة بمجرّد نظرة.” يرى بعض علماء النفس أن معجزات داهش تندرج في نطاق الوهم المعرفي (cognitive illusionism)، وهو مجال من فلسفة العقل المادية التي تؤمن بأن الوعي ليس ظاهرة حقيقية وبالتالي يمكن التلاعب به باستخدام ممارسات معينة.
الداهشية: فلسفة أم خطر؟
يعتبر “الداهشيّون” هذا الرجل الغامض هو رجل روحاني يحمل فلسفةً عميقة تدعو للسلام ونبذ الكراهيّة والخلافات الدينيّة والحروب. ويطلق الداهشيون على داهش عدة أوصاف من بينها الهادي والحبيب والمؤدب. في 23 آذار 1942، أَعلن الدكتور داهش في بيروت رسالةً روحيَّة دعا فيها الناسَ إلى الأَخذ بجوهر أَديانهم بعيداً عن قشورها. كما دعاهم إلى الأُخوَّة الإنسانيَّة على تبايُن الأَعراق والقوميَّات، وإلى الإيمان بأَنَّهم-مَثَلُهم في ذلك مَثَلُ سائر المخلوقات-خاضعون لنظامٍ روحيٍّ عادل يقضي عليهم، تبعاً لاستحقاقهم، بالتقمُّص على الأَرض أَو في عوالمَ أُخرى ريثما يتسنَّى لهم الارتقاءُ الروحيُّ والاندماجُ، أَخيراً، في عالَم الروح. وفي مقدمة كتابه “قصص غريبة وأساطير عجيبة” يقول الدكتور داهش: “أن الإنسان يتكرر مجيئه إلى الأرض ليتطهر من أوشابه، ويتخلص من أوزاره.” ويرى الدكتور داهش أن “رحمة الله عظيمة وعميقة، لهذا أعطى الإنسان فرصة إصلاح نفسه من خلال نعمة التقمص.”
وتعتبر الأديبة والفنَّانة ماري حدَّاد، شقيقة زوجة الرئيس الخوري، من أشهر من اعتنق الداهشية، هيَ وزوجُها الأديب جورج حدَّاد وبناتُها الثلاث، وكتبت كتاباً بعنوان “معجزات الدكتور داهش وظاهراته الروحيَّة.” وتم اعتقال ماري وجورج من قبل بشارة الخوري بأمر من لور، زوجة الخوري وشقيقة ماري في محاولة لردها عن معتقدها الجديد، وعندما لم تنجح هذه المحاولات تم حجزها في مستشفى للأمراض العقلية.
في عام 1975 عند اندلاع الحرب اللبنانية غادر الدكتور داهش لبنان وتوفي في 9 أبريل 1984، في غرينتش، كونيتيكت في الولايات المتحدة تاركًا وراءه مجموعة فنية ومنشورات وإرثًا هائلاً من الغموض. وتمّ تحنيط جثمانه ووضعه داخل منزله الذي تحوّل إلى متحفٍ كبير.
آخر قصة أود مشاركتها تأتي من جدتي الراحلة نورا نويهض حلواني، التي كانت رئيسة تحرير مجلة دنيا المرأة من الخمسينيات الى السبعينيات في بيروت والتي قابلت د. داهش في حفل كوكتيل. أخبرتني أنها كلّمته وهي تنظر اليه متشككة وطلبت منه إثبات أنه بالفعل الرجل المعجزة المزعوم. وليبرهن لها قدراته الخارقة لقوانين الطبيعة، طلب منها أن تعطيه ورقة من حقيبتها، أعطته قطعة ورقة بيضاء وكتب عليها شيئًا وطواها وأعادها إلى حقيبتها. أوصاها أن تفتح الورقة في اليوم التالي، وإذا تبين أنها ليرة نقدية فعليها الاتصال به وستكسب الكثير من المال. في اليوم التالي، فتحت جدّتي الورقة وكانت بالفعل ليرة! أخبرت زوجها – جدي الراحل – فأجاب: “إما أنا أو هو.” لم تتصل بداهش قط.
ت زوجها – جدي الراحل – فأجاب: “إما أنا أو هو.” لم تتصل بداهش قط.