الفن التشكيلي في لبنان: بين متطلبات الحداثة الغربية وإشكالية الواقع اللبناني-فن – نقد

قلم: عادل قديح

 

اولا – الفن الغربي والفنون المتوحشة

 
 قطعت الحداثة التشكيلية الغربية مع ماضيها اليوناني الهوى ، وبدلت مفاهيمها نحو الاعتماد على ما كانوا يسمونه ” الثقافة المتوحشة ” اي ثقافة الشعوب ” المتخلفة ” والبدائية والعالم الاسلامي . اعتمدت بصريات عالمية  ، ولكنها اخذتها مقطوعة عن سياقها التراثي ، فهي نقلتها من المجال الجمعي الى الفردانية الطاغية .
لم يكن الفنان الحداثي يراعِ الأبعاد العقيدية او السحرية او الدلالات الوظيفية ، فذلك لم يكن سراً مكنونا أو طلسما عز عليهم فكه ، فهو والبحاثون الذين استغرقوا في قراءة كل مضامين هذه الأبعاد  ،  كان كل همهم ان يقطعوا مع ماضيهم البصري الذي خدم نمط عيش وتفكير غيبي ، لم يرد الانتقال من حالة عقيدية الى أخرى موازية لها في اعتماد الغيبيات  فالفكر اليوناني وإنتاجاته البصرية مبنية أيضاً على حيز من العقلانية والمنطق الذي وسم بزوغ عصر الحداثة ، هو انطلق من عجين مركب اجتماعي وثقافي أتاح له اعادة النظر كليا بهذا الماضي ، هو لم يركز على نتاج حضارة بعينها ، ولم يتسن له ” العودة ” الى إرث من خارج محفظته ، الا بعد تجارب وتبدل في أكثر من اتجاه ، يأتي التطور العلمي في مقدمتها ، كان همه الاول أن يجد، بعد أن استنزف قدراته في مجال صيانة الشكل بعلاقته بالواقع ، ما يساعده على الخروج من هذه الحلقة الضيقة ، الى مجال أرحب يتيح له تثبيت ذاتيته بشكل نهائي ، ولان الانسان ببنيته لا ينطلق خياله الا على قاعدة المرئيات أكانت طبيعة أم نتاجا تاريخيا أم أية منظورات اخرى ، فقد ذهب الى ما يناقض ماضيه في رحلة تفتيش عن شكلانيةأخرى غير معهودة لديه ، ولان الذاتوية سيطرت على المجتمع الجديد أصبح متاحا له ان يحاكي ثقافة الآخر من خلال تأكيد أنويته ، وهذه تستدعي خروجا على مالوفه ومألوف حيزه العام نحو غرائبية تتيح التجديد ، فوجد ضالته في ما اعتبر ممتلكا من غيره ومن وسط ثقافي خارج حيزه ، لذلك فان إعادة الاعتبار للثقافات البشرية الاخرى غير الغربية  نتجت عن قراءته المختلفة لها، بما أتاح له ان يستخدم هذه القراءة الجديدة لخدمة منظوره البصري الجديد ، ألا وهو إعادة النظر بمفهوم الشكل وطريقة صياغته ، أخذت هذه الرحلة منه زمناً طويلا ، لم تكن حلقة محروقة على عجل ، بل أُدخلت معجني التاريخ والتطور ، وهذا أستوجب تجارب متدرجة مبنية على تطورات واكتشافات متسارعة ، لم يكن إذاًهوى أحدهم كما يحلو للبعض ان يقول . لذلك تدرج الامر من تبديل النظر في مشاهدة المرئي الواقعي المحاكي للفردانية الى مشاهدته كما هو ، الى تصويره وفقا لنظرية الضؤ الجديدة ، فإلى مشاهدته من بؤر نظر مختلفة فإلى صياغته بطريقة بدأت بتبسيطه وذهبت الى تحويره فإلى تشويهه وتوصلت الى كسره ثم انتهت بنفيه . وقد وجد الحداثويون ضالتهم بقراءة شكلانية البصريات القديمة الخارجة عن مالوفهم التاريخي والعائدة للشعوب غير الغربية ، علما أن ذلك الشغل المضني لم يكن ليترك فيهم أية عقدة ذنب تجاه إرثهم ، فهم اعتمدوا على نتاج مستعمراتهم وهم ذهبوا الى حد اعتبار هذا المخزون جزأً من ممتلكاتهم ، ناهيك عن أن فكر التنوير جعلهم منفتحين على هذه الثقافات من منظور وحدة الإرث الإنساني والتفاعل الحضاري . بالاستنتاج : لم ينسخ الحداثويون بصريات غيرهم ، بل أرشدتهم سعة قراءاتهم الى وضع معايير جديدة ، لذلك لا يصح أبدا القول ان الحداثة تطورت من رحم التراث الغربي ، ولا من نسخ التراث الشرقي والثقافات القديمة ، بل انها فقط فتشت عن قوالب جديدة فوجدتها في بعض معايير هذا التراث . هي نعم قطعت مع ماضيها الموروث ، ولكنها صاغت جديدها من توليفة مركبة كان التراث الشرقي احد مناهلها .
 
ثانياً :  ” الحداثة ” بمفهومها اللبناني
أما فيما يختص بمفهوم الحداثة بمعناه الشرق – عربي ، والتباسات اعتناقه لبنانيا فيمكننا تسجيل العناوين التالية :
١ – تأسس مفهوم ” الحداثة ” في الشرق على قاعدة مغايرة كليا لانبعاثه في موطنه الأصلي . فعلى الرغم من ان الغرب المهيمن أوحى دائماً ان المفهوم عالمي يصلح لكل ظرف ، فذلك لتوكيد هيمنته ، بالمعنى الاستعماري للكلمة ، فلان أوحى بإمكانية تطوير بنى سياسية واقتصادية تعود لمناطق هيمنته تستطيع التعايش مع ثقافات سلفية وتراثية سائدة ، فذلك إما لعجزه عن إعادة توليد نفس التجربة التي اندلعت في دائرته ، أو لأن تحريضه على بناء نمط عيش مطابق للتطورات التي بناها يتناقض مع قواعد الهيمنة التي كانت همه الاول والأخير ، ففي الوقت الذي تأسست الحداثة الغربية على تدمير البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العائدة للمجتمع البائد بما فيها تحالف الطبقات الحاكمة ، أي الإقطاع والملكية ، فإنها أنتجت سلطة جديدة هي سلطة الرأسمالية التى أطلقت المجتمع الجديد من عقاله نحو تبدل نمط العيش باتجاه علاقات انتاج قاعدتها أنتاج السلعة من دون حواجز او معوقات ، كما انها أطلقت العنان لتطوير عملية الانتاج بطريقة مستمرة وذلك بتشجيع الاكتشافات العلمية ، والاختراعات ، كما فصلت الدين عن الدولة ، في رد متقدم على الصراعات الدينية والحروب الأهلية الناشئة عنها والتي دمرت أسس المجتمعات الغربية ، وأطلقت شعار الحرية الفردية التي تحترم حرية المعتقد والرأي والثقافة  وطرحت شعار الإخاء اي احترام التحالف الطبقي الجديد الذي عمل على بناء سلطة جديدة أسموها سلطة الشعب ، من هنا تم استنباط مفهوم الديموقراطية التي تهدف الى انتخاب الشعب لممثليه . وذلك كله استند الى مفاهيم عصر التنوير. لكنها أسست أيضاً لقهر جديد للطبقات الدنيا والفقراء ، ولأن حررت الفلاحين من سلطة الإقطاع ، فإنها أدخلتهم في قهر من نوع جديد أدى الى هجرت جزءٍ كبير منهم باتجاه المدينة والى تحولهم الى عمال مأجورين، كما ان الصراع الناشيء عن حماية الاسواق وعن الاقتتال على الاسواق الجديدة رفع من ذرى الصراعات القومية التي أنتجت حروبا مدمرة …
٢– ضمن هذا السياق حاولت الرأسماليات الغربية المتناحرة ان تسيطر على الاسواق العالمية بالاستعمار . لهذا ، بعد ان وهنت الامبراطورية العثمانية ، تخاصمت الدول الغربية على كيفية اقتسام التركة ، ولكي تستطيع ان تقتسم الجبنة بحصص كبيرة ، أقامت علاقات مع المجموعات البشرية المتناحرة ، ففي لبنان أعلنت فرنسا توطيد علاقتها بالموارنة التي كانت عميقة في التاريخ تصل الى عهد لويس الرابع عشر كما. أعلنت حمايتها لهذه الطائفة ، اما الإنكليز فأقاموابدورهم علاقة مع الدروز ، الخ …
ونشا عن ذلك قيام علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية مع هذه الطوائف . وقد قسم سايكس بيكو المنطقة بين الدولتين .
ولكي يثبت الفرنسيون سيطرتهم ، دخلوا من باب النزاعات الداخلية بين الطوائف اللبنانية ومن باب السيطرة الثقافية  ،
ضمن هذا الاطار وفدت الى لبنان الإرساليات. الأجنبية وعمل الموارنة أكثر من غيرهم على رفض التتريك وصيانة اللغة العربية وفتح مدارس تعلم اللغتين العربية والفرنسية،  وأقيمت اول مطبعة في الشرق كله في لبنان .
٣– وكانت فرنسا، في المجال السياسي ، وعلى قاعدة تأجج المنازعات الطائفية وبالتعاون مع دول اخرى قد عملت على المطالبة بإعطاء الموارنة كيانا شبه مستقل ، فنشأ عن ذلك نظام القائممقاميتان ثم  المتصرفية ، كما دفعت باتجاه انتزاع الامتيازات الأجنبية ، والى التعامل السياسي مع المسيحيين بطريقة مختلفة عن سائر الطوائف اللبنانية الاخرى . بالاختصار فان الدولة العثمانية تنازلت عن هذه الأمور إرضاء للدول الغربية وإخفاء لضعفها .
٣ – وفي المجال الثقافي فتحت فرنسا ابوابها لاستضافة الوافدين اليها بهدف التعلم ، ومن ذلك بدأ عدد من اللبنانيين الانخراط في هذه العملية ومنهم طلاب فنون الرسم والتصوير ، ومن منا لا يعرف معهد جوليان الذي كان معظم رواده من الشرق . وكما في هذه الفنون كذلك في المجالات الدراسية الاخرى ، وقد أعطت فرنسا منحا تعليمية للعديد من الطلاب في الاختصاصات المختلفة .
٤ – وكانت الكنيسة المارونية قد أقامت علاقات مباشرة ، غدت مع مرور الزمن تاريخية ، مع السلطات الفرنسية المتعاقبة مهما كان لونها يمينية ام يسارية . وفي جانب آخر بدأت تتخلى عن الطريقة الشرقية ( بيزنطية ام أرثوذكسية ) في رسم الأيقونات كمتطلب لازم للبناء الكنسي ودور العبادة العائدة لها ، كما أوفدت العديد من الكهنة للتخصص في مجال الرسم الايقوني في معاهد متخصصة لذلك ، وكانت هذه المعاهد تحت وصاية الفاتيكان مباشرة ، علماً بان الكنيسة المارونية ” اكتشفت ” الكنيسة الغربية  في سياق تبدلها السياسي والثقافي فتحولت من كنيسة شرقية الى الالتزام بالكنيسة الغربية.
٥ – في المجال الاقتصادي بدأت تنشأ طبقة رأسمالية تجارية وخدماتية ومالية في لبنان متوافقة مع متطلبات البنى الاقتصادية الفرنسية ، من خلال العلاقات التي أقامتها فرنسا مع الشرق العربي ، وكان ذلك إيذانا بالتحاق السوق اللبنانية بالاقتصاد الفرنسي، وهي ما أسميناها بالبرجوازية الطفيلية التي تعتاش من الهامش الذي تركه لهم الفرنسيون ، بذلك فتحت السوق اللبنانية للسلع الفرنسية ، وبدأت تتأسس صناعات حرفية خفيفة كصناعة انتاج الحرير الخام ( وتربيته في المجال الزراعي ) ، كانت التجارة البينية مقصورة ، تقريبا ، على الطائفتين المسيحية والسنية المقيمة في الثغور وعلى الشواطيء وخاصة في بيروت ، وذلك تماشيا مع الإرث العثماني الذي أعطى سنة بيروت هذا الامتياز ، ومنهم من استُقدم من الجزائر وبلاد المغرب وكردستان، لاهداف سياسية معروفة تتركز على مسالة الولاء السياسي . وهكذا بقي المجال الاسلامي السني يدور في الفلك التركي ، ولم يطالبوا الا بإصلاح النظام السياسي العثماني ، ونادرا ما ذهبوا الى المطالبة بالاستقلال عن العثمانيين الان نادراً ، وخاصة عندما اندلعت حركة الشريف حسين . كما أيد المسلمون الشيعة ، الذين انضووا فترة تاريخية طويلة تحت جناح التقية ، العودة الى الوحدة العربية ، أسوة بالسنة ، وعارض الموارنة ذلك منذ البداية .
٦– وفي المجال الفني بدأت هذه البرجوازية تؤسس لمتطلبات تصويرية ، فطلبت على قاعدة المباهاة من المصورين  صورا شخصية لها ( بورتريه ) ، متمثلة في ذلك بالاغنياء الغربيين ، وإذا كان هؤلاء انخرطوا ضمن عملية دعم الثقافة البصرية بشكل عام فان أقرانهم اللبنانيون تدافعوا بفعل التمثل والغيرة ، فحيث ان البرجوازية الفرنسية اعتبرت هذا الأمر جزءًا من ثقافتها ، و على الرغم من وقوفهم في وجه التبدل الراديكالي في الاتجاهات الفنية ، فانهم سرعان  ما بدلوا من موقفهم بعد ان استتب الامر لهذه المدارس البصرية الجديدة .
 
 ثالثا ” الحداثة ”  الفنية في لبنان
انطلاقا من هذا العرض السريع يمكننا استنتاج مايلي:
١ – في الوقت الذي كانت الحركة الحداثوية تبنى على قاعدة التبدل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي أقر بالحياة الفردية وإقامة الدولة المدنية المبنية على مسالة فصل الدين عن الدولة، كانت التغييرات في المجال اللبناني  تأخذ منحا مخالفا كليا .
نبتت الحداثة على أنقاض نظام بائد تمثل بتحالف الملكية والإقطاع والكنيسة وفقا للحق الالهي . انهارت القيم والمعايير القديمة وحلت محلها مفاصل جديدة لنمط العيش .
اما في لبنان فقد تبدلت الصيغ التشكيلية من الأساليب القديمة المتمثلة بالفنون البيزنطية والأرثوذكسية والأسلوب العثماني المبني على الفن الاسلامي معدلاً بادخال البعد الثالث على  العمل الفني ، وذلك  تمثلا بالفنون الغربية الكلاسيكية او الرومانسية الاستشراقية التي أخدت مواضيعها من المشهديات الشرقية وتدعمت ملونتها، احيانا ، ببعض المعالجات الانطباعية ، تلك كانت متطلبات الوسط اللبناني .
٢– في الوقت الذي تراجعت السلطة الدينية في الغرب عامة وفرنسا على وجه الخصوص ، تثبتت في لبنان حيث أكد الاستعمار الفرنسي هيمنة الإقطاع السياسي بهرمية تراستها المارونية السياسية . وإذا كانت الرأسمالية قبضت على قمة النظام السياسي الفرنسي ، فان السلطة في لبنان نشأت على قاعدة توافق بين بقايا الإقطاع والزعامات الطوائفية والرأسمالية الخدماتية . لقد بنى الاستعمار الفرنسي السلطة في لبنان وفقا لمتطلبات هيمنته وليس وفقا للمباديء التي تأسست عليها دولته الحديثة .
٣– تبنى الفنانون اللبنانيون أساليب فنية تعود الى الثقافة الفنية البائدة ، اي الفن الأكاديمي الكلاسيكي المطعم ببعض التوليفات الرومانسية، في الوقت الذي كان الفن الغربي قد غادر هذه الأساليب تقريباً الى غير رجعة.
٣– ادخل الفرنسيون معايير حياتية جديدة الى لبنان في مجال بناء البنية التحتية للنظام السياسي الجديد ، تمثل بمؤسسات الدولة من سلطتين سياسية برلمانية وقضائية وفقا للنموذج المتبع في بلادهم . هكذا اسقطوا على البنية الاجتماعية أسلوبا سلطويا تطلب نضالا مريرا لتثبيته في بلادهم ، وكان قد ترافق مع هدم العلاقات الاجتماعية السابقة لتحل محلها أنماط جديدة ، بينما عملوا على تطبيقها في لبنان من دون ان يتبين قدرتها على اجراء تعديلات اجتماعية تناسبها . لذلك ولدت أنماط هجينة يتعايش فيها السابق على الرأسمالية مع النمط الحديث. وفي ذات السياق اكتظت السوق اللبنانية بالسلع الفرنسية وثقافتها . ادخلت العمارة الحديثة من دون دراسة توافقها مع البيئة. كما تبنى أبناء المدن نمط العيش الغربي في طريقة العمل واللباس والمأكل و المشرب وخلافه وتأسست البنى التحتية للنظام المديني وفقا للطريقة الغربية في حين بقي الريف على حاله. كما تم اعتماد نفس الأسس المدرسية وخاصة في مجالي التربية والتعليم . هكذا وجدنا تعايشا لنمطين من الحياة، قديم وجديد . حصل كل ذلك خلافا للسيرورة الغربية . لا يمكننا القول ان المجتمع اللبناني كان رافضا لذلك ، بل ان بنية المجتمع اللبناني سمحت بتقبل رحب من جهة ورفض من الجهة الاخرى ، لكن ذلك لم يؤد الى اتخاذ موقف حاد . كما ان ثقافة العيش الجديدة لم تفرض بالقوة .
٥– في الوقت الذي اعتمد الفنانون اللبنانيون أساليب فنية غربية قديمة أكاديمية ، كانت هذه الأساليب قد انهارت بانهيار أكاديمية الفنان الكلاسيكي دافيد ، وأطلق الرسامون الغربيون العنان لنفسهم بابتداع وسائل جديدة للتعبير الفني ، في نفس الوقت هذا كانت الانطباعية تسلم الراية لما بعدها ، فتش المؤسسون الأربعة : سيزان وغوغان وفان غوخ وسوراه عن بدائل للواقعية الانطباعية ،  فوجدوا ضالتهم بتعزيز فردانيتهم  من خلال استلهام توليفات بصرية اكزوتيكية او تركيب معايير تصميمية ذاتوية ، لم يكن همهم دوافع التعبيرالجماعي ، جل همهم انصب على تعديل المعايير الجمالية ، فثقافتهم باتت كوسموبوليتية ولديهم الدافع نحو استيلاد رؤى جديدة من خلال فكرهم النقدي وكسرهم ( للتابويات ) الفنية وقدرتهم المكتسبة على دمج او مزاوجة التقانات المكتسبة حديثاً مع الموضوعات والمشهديات ذات الصلة بوسطهم او تلك التي تصوغها مخيلاتهم ، وذلك باتجاه الترميز والتعديل والتبسيط والتتسطيح .
لم نشهد في لبنان تمثلا بهذه التجربة الا بعد انقضاء زمن طويل ، بل ان الاعتماد الخجول على بعض مفردات الانطباعية كان – وما يزال حتى اللحظة في مناهج معاهد الفنون الجميلة – متقدما على هذه التطورات المؤسسة للحداثة التشكيلية في الغرب . لا يمكنني ان أوعز الامر الا لمتطلبات المجتمع اللبناني المتباطئ جداً في مسار التغيير ، وبالتالي رضوخاً لذوق النخبة المتأرجح بين تلقف الواقعية كأنها اكتشاف فريد مقايض كليا لنهج رمزي افتراضي ، او انها شوق للتخلص من ردح تقافي طال زمنه ، وبين من عاند ، ولفترة ليست قصيرة ، ان تحل بعض الثقافات الغريبة محل نمط عيشه وتفكيره ومعتقداته متوجسا من رغبة متجددة للغرب بكسب الصراع ، وإعادة الألق الى تاريخ الاقتحام ( الصليبي ) ، وهذه المرة بالوسائط الثقافية . على اننا نعتقد ان النخبة اللبنانية، والتي لم تستطع الطلوع من ثقافتها المورثة كليا والمبنية على أسس الانقسام الطائفي والعشائري وما تبقى من الزعامات الإقطاعية ، بنت تذوقها أيضاً على قاعدة المتطلب الاقتصادي . ما يرغبه الميسور والوجيه والزعيم المتشبع بالذهنية القبلية ، ليس كلهم أيضاً ، بل المتنورين منهم ، ما يرغبونه لا يمكن له ان يتخطى حيزهم المادي والثقافي ، اي متطلبات الاقتصاد اللبناني المبني ، كما نكرر دائما ، على السياحة والخدمات والكسب الريعي . فكيف لهؤلاء ان يتطلبوا بصريات مستغرقة في فردانيتها ؟ كيف لهم ان يتيحوا للثقافة البصرية ان ( تلوك ) مفردات ماضوية وتعجنها بمعجن كيفي ( نبّوي ) يتماهى مع اشتداد الفردانية المتصاعدة الى مستوى العظمة ؟ فليكن إذن صورة شخصية تدغدغ نزعة البروز والتمايز ولا باس بمنظر طبيعي يمجد خصوصيات المشهد اللبناني والعادات الريفية والفلكلور ، فذلك أيضاً يستجلب السائح ويتماهي مع الغرائبيات التي راحت تفتش عنها فنون الاستشراق الرومانسية.
٦ – اتاح الانتقال للرسامين اللبنانيين من ضفة فكرية دوغمائية الى اخرى اكثر انفتاحا ، ان يتحركوا ضمن هامش اكثر اتساعا ، ( فتحولوا ) من الفن البحري ذي الصيغة العثمانية  الى الفن الغربي بمعاييره الأكاديمية القديمة غير ابهين ، ربما ، للتطورات المتسارعة الحاصلة في قلب مدرسة باريس والمنعكسة حكما على الغرب كله ، او أنهم على الأرجح مستنكرين ذلك لا فرق ، بدليل المواقف الرافضة والتي صدرت على اكثر من لسان . ورغم ذلك نسميهم مؤسسون ، ولا ادري وفقا لهذه المعطيات ماذا أسسوا !! هل يمكن تأسيس المؤسس؟ والذي اصبح بائدا في مصادره ؟ هم في أحسن أحوالهم متحولون او انتقاليون !! اين انهم تحولوا عن او انتقلوا من صيغة تعبيرية موجودة في امداء التاريخ الى صيغة اخرى لها أيضاً تاريخها العريق ، او أن وارثيهم سموا روادا ، ما هي الراية التي حملوها او أسهموا برفعها ليصبحوا كذلك ؟ هم رفضوا بوعي اكتشافات ماتيس و صياغات بيكاسوا وأسموهم ” مشعوذين ” بل حكموا على فنهم بالاندثار ، وذلك على الرغم من معايشاتهم لانتصارات هذه الأساليب ولتبشيرها بتوجهات أكثر راديكالية .
هناك فرق واسع بين ان نثمن إبداعات هؤلاء الفنانين وبين ان نصبغ عليهم ألقابا تفيض عنهم .
في جميع الأحوال كان ( التطور ) بطيئا جداً ، ففي حين استطاع التشكيل الغربي ان يبتدع جديدا على الدوام ، فان اللبنانيين كانت لديهم المرجعيات الاتجاهية ينتقون منها ما ( يناسبهم ) ، لذلك نراهم يوالفون بين الملونات المختلفة والموضوعات والأساليب التي اكتنزوها من معاهدهم ، ودائما وفقا لمتطلبات ثقافتهم المركبة من عجين غرائبي ، يأخذ من الغرب أساليبه ويراعي ذوق الزبون ، ولا ندعي انهم عجزوا ، احيانا ، عن تلمس الإغراءات الفنية الصرف ، الخارجة عن السياق الاجتماعي ، كموضوعات العري ، لكنهم اركنوها غالبا لصياغات  مماثلة للنهج الواقعي الأكاديمي النزعة ، ما يمكن تقديره في نتاجهم ، ليس فقط جرأتهم في تحدي الواقع الاجتماعي الرافض لهذه الموضوعات ، بل أيضاً اعتمادهم ملونة ضوئية تستوحي مرئياتهم اليومية .
٧ – هم اذا تخطوا التراث الشرقي في نفس الوقت الذي أخذ الغربيون من معاييره .
كان لديهم خيارات واسعة فانتقلوا منها ما يناسب توجههم . لذلك نراهم يقفزون عن الانطباعية الى الرمزية كما فعل جبران خليل جبران . والملفت أن المنطقة العربية تزخر بالفنون الرمزية القديمة ، وبالتالي فان هذا الخيار كان متاحا وسهلا ، لكنه ، أي جبران ، آثر الانخراط بذلك من خلال معايشاته الغربية ، أي انه اهتدى الى أسلوبه بعد ان تعرف الى الفنان الإنكليزي وليم بليك والى فن اوديلون ريدون الفرنسي .
لم تنشأ مدرسة انطباعية في لبنان بالمعنى الفني للكلمة على الرغم من بعض المحاولات.
بل ان العديد من الفنانين أمثال مصطفى فروخ وقيصر الجميل ورشيد وهبي وصليبا الدويهي غرفوا من اكثر من اتجاه
وهؤلاء اتهموا زورا بأنهم انطباعيين ، وان كنا لسنا بصدد تعريف الانطباعية فان لهذه المدرسة الفنية معايير لم يحترمها هؤلاء الفنانين الا لماماً ، فعندما كانت موضوعاتهم مأخوذة من التاريخ اللبناني والعربي او رسما لعارية  او حتى بعض المناظر الطبيعية ، كان يغلب على معالجاتهم إبراز القدرة المهارية والوفاء لإحقاق الواقعية على كل شيء ، ولاعدادهم الأكاديمي ان كان في معاهد روما او في معهد جوليان في باريس او غيره من المعاهد المشابهة . وبالتالي أوفياء لثقافة هذه المعاهد ورؤاهم التي غلب عليها الحنين الى ماضوية كلاسيكية .
وان كنا ذكرنا إغفالهم موقفا واضحا من العمالقة الأربعة ، يضاف اليهم خامس هو الجمركي الساذج هنري روسو ، وفق ما ورد أعلاه ، فان الموقف الحاد من ماتيس وبيكاسو عبر عن نظرتهم ورؤاهم للمستقبل التشكيلي . ولربما أثر ذلك الى حين في عدم إقبال تلامذتهم على تبني الاتجاه التكعيبي ( براك وبيكاسو) ، وقد يكون أنهم ذهبوا لتوهم الى الواقعية الأكاديمية ولم يعتنقوا هماً نوستالجياً يعيدهم الى تراثهم ، كيف نريد منهم العودة الى التبسيط وإغفال المعايير الواقعية وهم مسكنون باكتشافهم للبعد الثالث وتوضيع الألوان الواقعية بدلا من الألوان الاصطلاحية التي سادت لفترة طويلة؟
٦لذلك كان من الملفت الذهاب الى الرؤى التجريدية بدل من المرور بالتطور ( الطبيعي ) ، اي من تبسيط الشكل واستعمال الملونة الوحشية او الاصطلاحية او الرمزية الى كسر الشكل مع استخدام ملونة فقيرة ترابية او مشعة الى نفي الشكل وإعطاء الدور الفاعل للتعبيرات الهندسية او غلبة اللون على الشكل او التعليات اللونية الصرفة. ولان المعطى موجود فقد اختار اللبنانيون ما يرتؤنه بدل اعتماد المسار المضني اي من التكعيبية الى الدادائية فالتعبيرية الألمانية فإلى المستقبلية … فالتجريدية .
لماذا نحا اللبنانيون صوب التجريد مبكرين قياسا على ما كان يجري في محيطهم العربي ؟
كان التجريد قد اصبح طاغيا منذ ان بشرت التكعيبية به ومنذ أن عملت السوريالية على إعادة صياغة الواقع بطريقة متخيلة استنادا الى استنزاف مكنونات اللاوعي والكوابيس والأحلام والهذيان . حطمت السوريالية الواقع انطلاقا من ما فعلته الحروب التي أنتجتها سياقات الحداثة نفسها ، وفي مجال اخر مجد بعض السورياليين الحروب على قاعدة أنها تدمر الواقع وتتيح النتائج اعادة صياغة جديدة  تمنوها على الشاكلة البصرية التي حلموا بها في أعمالهم ، عالم لا يمكن تحقيقه الا في ذهان المرضى والمجانين والخارجين على قوانين الطبيعة والحروب .
لكن الرد جاء من التجريديين ، ويبدو أن حربا ضروسا نشبت بين التيارين . لماذا لا نستنهض القيم الروحية في الرد على آفات الماديين ؟ واللافت ان أوائل المؤسسين للتيار التجريدي كانوا معتنقين للصوفية أمثال كاندنسكي وموندريان ومالفيتش وغيرهم . لذلك وجدانهم يحاولون بناء عالمهم البصري على الصفائية الهندسية ، عالم يختزل الأشكال الى قيمها الاولى – الأصول الاولى ، الأشكال الهندسية الشديدة التبسيط المتمثلة بالنقطة والخطوط المتنوعة والمساحة ، هذا ما ذهب اليه ، في عرينه الرمزي حينا والسوريالي احيانا ، بول كلي . هذا ما فعله ميرو . لكن التطورات اللاحقة أفضت الى استلهام الفنون القديمة وما ابتكرته من أشكال وعلامات و إشارات ورموز . كأني برواد التجريداصابتهم نوستالجيا الماضي ، في ردهم على النزاعات والصراعات المدمرة التي اجتاحت عالمهم المادي . لكن مأثرتهم تكمن أيضاً بإعادة الاعتبار للفنون التي اطلق عليها تسميات دونية مثل الفنون الصغرى او التطبيقية او الزخرفية وما الى ذلك ، هذا الامر أعاد الاعتبار للجماليات العربية والإسلامية والبدائية والقديمة وفنون الزخرفة الافريقية والمايا والأزتيك وغيرها. ولان التجريد الهندسي تقاطع في فلسفته وبنيته مع الرقش العربي والإسلامي ، فقد استفاق العرب ، واللبنانيون بطبيعة الحال ، على الأبعاد التشكيلية لتراثهم البصري .
واقع الامر ان طريقين متوازيين انبعثا في لبنان التجريد التراثي (سمي شرقيا والتسمية صالحة للنقاش ) والتجريد الغنائي او العاطفي .
تحولت بيروت بطريقة مبكرة الى مركز ثقافي متقدم ، حيث استضافت معارض لسلفادور دالي وبيكاسو وسواهم ما أنتج حوارا نخبويا حول نتائجهما الفنية  ، ومن المفيد الذكر ان الجامعة الأميركية في بيروت ذهبت الى حد اعداد طلاب الفنون لديها على معايير الفن التجريدي في المجالين النظري والعملي في بلد هيمن عليه طرائق ومفاهيم أكاديمية وكلاسيكية ، كما تحولت بيروت الى مركز العرض العربي حيث عرض فيها فنانون عرب أعمالهم الفنية بعيدا عن الرقابة الرسمية . كما نظم متحف سرسق معارض عالمية للرسم التعبيري والنحات الفرنسي أوغست رودان ولأعمال تشكيلية بريطانية وللرسامين الانطباعيين .
هي اذا بيروت الداخلة في دائرة الثقافة الغربية من بابين : باب السيطرة الفرنسية على لبنان بفعل الاستعمار المباشر وباب العلاقة الثقافية التي لم تنقطع يوما مع الفرنسيين في مرحلة الاستقلال . هكذا كانت التبدلات الثقافية، والبصرية منها بخاصة ، على تماس مباشر مع الساحة البيروتية ، ولان النظام السياسي اللبناني سمح بالتاثر السريع بهذا الحراك اكثر من الدول العربية المحيطة ، فان لبنان جنح نحو التجريد بشكل مبكر ، ليس فقط من وحي الصراع على الهوية ، بل لموقع لبنان الكثير الخصوصية في علاقته بين الشرق الاسلامي والغرب العلماني ( او المسيحي ) . وقد استطاعت البنية الاجتماعية المشكلة من ثقافة مسيحية مفتوحة على الغرب ( الموارنة ) وعلى الشرق ، نقصد اليوناني والروسي ( الأرثوذوكسي ) وثقافة إسلامية تتضمن تشكلات ًمذاهبية سنية وشيعية وعلوية ، مع ما يعني ذلك من فروقات عقائدية وطقوسية ورؤيوية وانعكاسها على الصعيد البصري . هذه ( الخلطة ) الثقافية أتاحت تساكنا ، وأحيانا تصارعا، ثقافيا ، كانت الهيمنة فيها للثقافة المسيحية الغربية من دون ان يستدعي اي حسم لأي اتجاه من الاتجاهات . فقد عانى اللبنانيون من عنف تصارعي تاريخي لم يؤد سوى الى تراجعات شكلية ذات منحى سياسي ، لم تستطع ان تخترق العمق الثقافي لأية مجموعة من المجموعات الطائفية السالفة الذكر ، لكن ذلك لم يمنع من تبني مواقف لينة أدت الى قيام تعايش فريد ولكنه متوتر.
لذلك وجد المسيحيون في التجريد محاكاة لانصراف صوب الثقافة الغربية ، ولم تجد المجموعات الاسلامية فيه اي تناقض مع ثقافتها . لكن صراعا ثقافيا أخر نشا على قاعدة اشكالية الهوية اللبنانية التي لم تحسم يوما ، بل كانت تجد في المنطق التوافقي صيغة ” فضلى ” لاستمرار التعايش. في حين أن التجريدية الغربية لم تجد غضاضة في تلقف معايير التجريد المستوحاة من الثقافات البصرية المختلفة ، والصراع الفكري الغربي أخذ مناح مختلفة حول التجريد الهندسي او الشكلي او التجريد اللوني الذي صيغ على قواعد استفزاز العاطفة او التماس العاطفي بالتوليفات اللونية المستندة الى المساحات ذات الأبعاد الطبيعية ( من الطبيعة والمشهد الطبيعي ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *