الصين والناتو الأمريكي الآسيوي والتغيير العربي

  1. ما بين الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي جنرالٌ يُحرك الجيوش ، ويستفز الحُكام والعروش ، ويُشعل سباقاً نحو السيطرة والتسلح . قدُراتٌ عسكريةٌ وأسلحةٌ كيميائيةٌ ونوويةٌ مدمرة ، تحركاتٌ ومُخططاتٌ ستوُصل العالم إلى مشارف حربٍ ثالثةٍ عالمية .
    فما بين شرقٍ مُعاٍدٍ وغربٍ مُوالٍ، تقف الصين مُترقبةً اللقاء الثلاثي الذي سيؤدي إلى ولادة ناتو آسيوي مُشابه للناتو الذي وُلِد بحضن أوروبي . ما دفع العدو المُقلق للغرب والولايات المتحدة الأمريكية إلى إعلان حالة طوارئ قبل إجتماع قادة الدول الثلاث : اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية وذلك في منتجع “كامب ديفيد ” الأميركي .ووفق مصادرٍ صينية فإن الإجتماع يهدف إلى مُناقشة مجالات التعاون الدفاعي المُضاد للصواريخ البالستية وإنشاء شبكة إتصال مباشر بين الدول الثلاث ، وهذا ما تعتبره الصين تهديداً لاستقرار المنطقة والسلام الإقليمي وأمن الدول الأخرى .
    فالبيت الأبيض يرى في قمة “كامب ديفيد ” تعميقاً للعلاقات الدفاعية والتكنولوجية، بينما تراه
    “بكين ” الحجر الأساس للناتو الآسيوي لمُحاصرتها ، ولا سيما فيما يخص إثارة قضية تايوان والتي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها ، بينما تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في دعمها عسكريًّا ضد الصين .
    وبالرغم من الخلاف العميق بين كوريا الجنوبية واليابان حول ميراث الحرب العالمية الثانية، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية إستطاعت أن تجمع بينهما عبر تغذيتها لقلقٍ أكبر ، ألا وهو صمود الصين والترسانة النووية لكل من كوريا الشمالية وروسيا . ويؤكد الباحثون أن تعزيز العلاقات بين كل من سيول وطوكيو وواشنطن هو بمثابة إعلان حرب باردة على الصين وكوريا الشمالية ، وإعلان الناتو الآسيوي سيؤدي إلى تقويض حركة الصين في المنطقة ونشر أسلحة استراتيجية بالقرب من حدودها ، فضلاً عن إمكانية دمج الناتو الغربي مع تكتل “أوكوس . ”
    وهذا ما أثار أيضاً حفيظة روسيا ، ففي كلمة ألقاها “بوتين” على هامش مؤتمر موسكو الحادي عشر للأمن الدولي ، أعلن بأن ” الناتو يسعى جاهداً لبناء وتحديث قدراته الهجومية في آسيا ، وأضاف بأن موسكو لا تستبعد بأن يؤدي ذلك إلى إندماج كامل بين تكتل الناتو و Aukus ما يُعرف بتكتل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا.
    والجدير بالذكر أن تحالف “Aukus قد أعُلن في أيلول 2021 عن عقد شراكة أمنية تهدف إلى بناء أسطول من الغواصات النووية الأوسترالية مع نهاية ثلاثينيات القرن الحالي ، حيث أكدت أستراليا على حصولها على أسلحة صاروخية خاصة بها ، فضلاً عن تطوير مُشترك للصواريخ الأسرع من الصوت مع باقي الشركاء .
    أمام هذا المشروع أعلن المُتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ” فان فينبين” بأن هذه الشراكة تسعى إلى تنمية عقلية الحرب الباردة ، فالتعاون الثلاثي في مجال الغواصات النووية يهدف إلى تسليم كميات كبيرة من اليورانيوم المُخصب من قبل الدول المالكة للسلاح النووي ، مما سيؤدي إلى إنتهاك أهداف معاهدة عدم إنتشار السلاح النووي وتقويض النظام الدولي ويضر بالأمن والاستقرار الدوليين .

وفي المقابل ، ظهر تحالف” البريكس ” : وهو تجمعٌ إقتصادي ، سياسي ، وجيوسياسي ، عُقد في روسيا في العام   2009  بين كل من الصين ، الهند ، روسيا والبرازيل ، وإنضمت إليه لاحقاً جنوب أفريقيا . وكانت أهدافه تتركز على تحقيق نمو إقتصادي وتعزيز التنمية والأمن والسلام لتحقيق الإستقرار السياسي والإقتصادي والإصلاح في المؤسسات المالية ، وتفعيل دور التجارة الدولية والإستثمار ، وتفعيل نظام تبادل العملات المحلية بين دول المجموعة ، وإنشاء سوق مُشتركة للتجارة وعُملة مُوَحدة في مُحاولةٍ للخروج من إملاءات صندوق النقد الدولي التي تصفها المجموعة بالمُجحفة
.

وقد بدأت ” بريكس” بطرح نظام عالمي جديد بديلاً للنظام الدولي الذي تهُيمن عليه الولايات المُتحدة الأمريكية ودول الشمال . فبالرغم من أن مجموعة ” البريكس” تضم 42 % من سكان العالم إلا أن أعضاءها الخمسة لديهم أقل  من 15 % من حقوق التصويت في البنك وصندوق النقد الدوليين مُقابل 17 % للولايات المُتحدة الأمريكية ،و 45% لمجموعة الدول السبع .وقد إستحوذت دول “البريكس ” على أكثر من 31 % من الناتج الإجمالي العالمي بحجمٍ إقتصادي يتجاوز 44 ترليون دولار مقابل أكثر من 30 % من الناتج الإجمالي العالمي لدول مجموعة السبع ، ونمو إقتصادي يقُارب 41 ترليون دولار ، كما وتسهم دول المجموعة في 30 % من إحتياطي الذهب العالمي، وتنُتج ما يزيد عن
40 % من مصادر الطاقة العالمية .

وقد سعت أربعون دولة للإنضمام إلى ” البريكس “ومن بينها المملكة العربية السعودية ومصر والجزائر ودول عربية وشرق أوسطية ، حيث سيُشكل إنضمامها نقطة تحول في موازين القوى الإقتصادية العالمية .ولم تغب فكرة إنشاء مؤسسات دولية مُوازية للمؤسسات الإقتصادية الحالية .وكما أنشأت المجموعة بنك التنمية للوصول إلى 100 مليار دولار والذي يدعم الدول للتحرر من ديونها . كما وتسعى إلى إقرار نظام دفع تحويلات مالية جديد مُتعدد الأطراف والجنسيات ليُشكل بديلاً لنظام الدفع الأمريكي Swift أضف إلى ذلك المكاسب التي تحصل عليها الدول في هذه المجموعة مما سيُضعف حجم هيمنة الدولار، فعلى سبيل المثال إنضمام السعودية كمُنتج بترولي ، والصين كمُستهلك يومي لعشرة مليون برميل من البترول ، والإمارات كسوق ضخم للبضائع الصينية ، والذي سيؤدي لإنشاء مزيد من المصانع الصينية والروسية لبيع تلك المُنتجات على أنها إماراتية وذلك في حال تم فرض عقوبات على الصين وروسيا ، ثمُ يتم توزيعها على الأسواق العالمية . وكذلك إنضمام مصر الدولة العربية ، الجبارة إقتصاديًًّّا والتي تحتوي على مئة وعشرين مليون نسمة .فكل هذه الدول ستنُشئ فيما بينها سوقاً جديدة مُستفيدة من إتفاق “بريكس ” بعيداً عن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية والعقوبات والضغوط.

أمام هذه المؤتمرات واللقاءات نجد أنفسنا نبحث عن إجابة لسؤال جوهري : ما الأهمية التي تلعبها دول القارة الآسيوية حتى تضُطر الدول العُظمى إلى حياكة هذه الشباك للإحاطة بها ؟

إن المقدرات المُتنامية وبصورة مُطردة في القارة الآسيوية ، فضلاً عن المؤهلات الجغرافية
والحضارية الهائلة والتي تتعزز بقُوى آسيوية فاعلة في النظام الدولي كالصين وروسيا ، تشُكل ضمانةً للحصول والحفاظ على مكانٍةٍ عالمية وذلك في الحصول على موطئ قدم في آسيا والسيطرة على أقاليمها ، خشية بروز قوى حقيقية فيها.

حيث تتوفر في آسيا أكبر القوى النووية والعسكرية . وجغرافيًًّّا هي القارة الأكبر من حيث المساحة إذ تشكل ثلث الكرة الأرضية ، وتحوي 48 دولة مما يجعلها الأكبر من حيث الكثافة السكانية ، كما أنها الأقوى إقتصاديًًّّا فهي تحوي أهم موارد الطاقة والأرصدة المالية الضخمة إذ يبلغ نصيبها 39 % من الناتج الإجمالي العالمي بقدرة شرائية تصل إلى 47.5 %عالميًًّّا .

– أما سياسيًّا فهي تشهد أخطر الأزمات ذات التداعيات العالمية : كالقضية الفلسطينية ، الأزمة السورية ، الحرب الأذربيجانية الأرمينية ، التوترات بين الكوريتين ، وأخيراً الحرب الروسية الأوكرانية والتغيير في الساحة السورية

– فوفقاً لنظرية “راتسيل” التي تقُر بأن ” الدولة كائن أميبي ، إذ أن الدولة وبحكم تطورها الإقتصادي وزيادة قوتها العسكرية ،وكثافتها السكانية فهي تحتاج لإقليم إضافي أو ما يصطلح عليه” راتسيل “”التربة” ، فتبدأ الدولة تلتهم ما حولها ، حيث أنها تعتبره مجالاً حيويًّا لها وذلك لضمان حجمٍ ماديٍ يتناسب مع تزايد حجمها ، كما حصل مع ألمانيا النازية التي حاولت إبتلاع أوروبا .

هذه النظرية تعتمد على قوانين للتوسع ،أهمها:
-أ- إمتداد الدولة وفقاً لتطور ثقافتها .

ب – توسع ليس مكانيًّا فقط ، بل إيديولوجيًّا وتجاريًًّّا .

ج- توسع يعتمد على إبتلاع وحدات سياسية ثانوية الأهمية .

د- التوسع للسيطرة على المناطق الغنية بالموارد ، وعلى الشواطئ والممرات المائية .

فحافز التوسع يأتي من الخارج ، حيث تثُار الدولة للتو سع على حساب الدول الأقل قوة والأضعف حضاريًّا ، فوفق نظرية “راتسيل” التوسعية هناك نوعان من الحدود : حدود بيولوجية ،وحدود شفافة .

– الحدود البيولوجية هي مُتحركة بحيث يزيد حجمها بزيادة حجم إحتياجات الدولة ومتطلباتها ، فتجدها تبتلع ما حولها من الأقاليم والمساحات.

– أما الحدود الشفافة فتمتد إلى مدى إمتداد مصالح الدولة خارج حدودها ، وهذا ما يُعرَف بالمجال الحيوي .

– وتتمحور جيوبولوتيكية “راتسيل” بالنسبة لآسيا حول المجال الحيوي أو الحدود الشفافة
.فبانهيار الإتحاد السوفييتي أو الثقب الأسود كما يسميه “بريجنسكي” ، تحولت آسيا المسعى الأهم للتوسع للقوى العالمية ، وذلك لاعتبارين : الأول عدم ظهور قوى منافسة جديدة ، والثاني للاستفادة من الصحوة الإقتصادية والتنموية التي تعرفها المنطقة ، ولا سيما كونها تحتل المرتبة الأولى من حيث إحتياطي الطاقة .وكأنه بسقوط الإتحاد السوفييتي تحولت آسيا إلى مجال حيوي يستقطب توسع الدول الكبرى بعد إزالة العازل الشيوعي مما حولها .

– وبالاستناد إلى نظرية “ماكيندر “فإن السيطرة على القلب ستؤدي إلى سيطرة عالمية ، وجغرافيًّا فإن قلب الأرض في آسيا ويشمل روسيا والصين وآسيا الوسطى منغوليا وبحر قزوين وإيران . هذا ما يتم تطبيقه عبر التحركات الأمريكية الصينية الروسية وكأنها لعبة شطرنج تنطلق من القلب وحتى الأطراف وذلك لفرض السيطرة . ومن أهم هذه النشاطات : غزو أفغانستان ، الأزمة الكورية ، النووي الإيراني ، أزمة تايوان ، حرب فيتنام .

– أضف إلى ذلك أهمية المسار المائي في القارة الآسيوية ، ومع نمو القوى البحرية للدول الكبرى مما يسمح لها بالتحكم بهذا المسار وبحركة التجارة العالمية ،فأهم الخطوط التجارية هي الخطوط البحرية . فالقارة الآسيوية تتميز بموقعها الجغرافي وموانئها وشواطئها والموارد الكبيرة والمناخ المناسب لجو تجاري بحري .

لذلك نرى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تسعى ومن خلال إنشاء الناتو الآسيوي إلى إعادة إحياء نظرية الجنرال الأميركي
“كيلان” إبان الحرب الأهلية الأميركية ) 1861_1865 ميلادي ( والتي تتجسد بحصار الأراضي المُعادية من البحر . وذلك بالهيمنة على القوة البحرية والسواحل القوية للعدو مما يؤدي إلى خنق الكتلة القارية بالأناكوندا ، وذلك عن طريق سحب المناطق الساحلية وما حولها من تحت سيطرتها وإغلاق كل منفذ بحري قدر المستطاع . وهذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية مع روسيا والصين عبر منعهم من الوصول إلى
المناطق البحرية وذلك عبر إحاطتهما غرباً بالحلفاء الأوروبيين ، وجنوباً بآسيا الوسطى مُتمثلة بكازاخستان ، أفغانستان والصين .مما يُحول العالم إلى قسمين : قوى بحرية تتمثل بأميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ، وقوى برية تتمثل بروسيا والصين .

– فالقارة الآسيوية تتميز باحتوائها على ثلاثة من أهم عشرة إقتصاديات عالمية ، فالصين تحتل المرتبة الثانية بدخل قومي وصل إلى 30.01 ترليون دولار عام 2022، ثم اليابان في المركز الثالث حيث وصل إلى 6.66 ،ترليون دولار . فوفقاً لقاعدة بيانات البنك الدولي ، ولتقرير صادر عن شركة pinc المتخصصة في إقتصاديات الدول وتحت عنوان “رؤية بعيدة “فسيتغير الإقتصاد العالمي بحلول العام 2050 بحيث ستكون سنة آسيوية ، فالصين ستحتل الصدارة حيث سيتخطى إقتصادها
58 ترليون دولار ، ومن ثم الهند في المرتبة الثالثة بحجم إقتصادي 34.10 ترليون دولار ، وستكون المرتبة الثالثة من نصيب ماليزيا بإقتصاد يبلغ 10.50 ترليون دولار أميركي .

– أضف إلى ذلك أهمية القارة عسكريًّا وذلك وفقاً لموقع bisness insider المتخصص في ترتيب الجيوش العالمية ، حيث احتلت الجيوش الآسيوية أهم المراتب ، فالجيش الروسي نال المرتبة الثانية ،والصيني المرتبة الثالثة ، وبعدها الجيش الياباني في المرتبة السابعة ، إضافة إلى التركي في المرتبة الثامنة .ومن حيث الإنفاق على الجيوش فقد احتلت الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة تليها روسيا في المرتبة الثالثة . ومن حيث إمتلاكها للأسلحة النووية فسبع دول آسيوية تملك قدرات مُتفاوتة من أصل عشر دولٍ عالمية : الصين ، روسيا، كوريا الشمالية ، الهند ،باكستان، إيران ، إسرائيل .

– وإلى جانب أهميتها الإقتصادية والعسكرية تبرز الأهمية السياسية لقارة آسيا . فالقضايا والنزاعات الدائرة فيها والناتجة عن حساسية القارة بالنسبة للعالم ، فعلى سبيل المثال : الوضع الأمني في العراق ، الحرب في اليمن ، الأزمة الكورية ، القضية الفلسطينية ، الأزمة السورية ، أزمة إيران والمجتمع الدولي ، الحرب الروسية الأوكرانية ، الصراع الأذربيجاني الأرميني ، النزاعات الحدودية الهندية الباكستانية.

– أضفْ إلى ذلك منطقة الشرق الأوسط والتي تقع غرب آسيا ، والتي لها أهمية إستراتيجية من حيث الجغرافيا والتاريخ والغنى بالمواد الخام . فأهميتها الجيوسياسية تكمن في كونها موقع مرور وعبور للتجارة الدولية ، حيث تتوسط القارات الثلاث : أفريقيا – أوروبا- آسيا . وتعُدَ همزة وصل فيما بينها برًّا وبحراً وجوًّا ، فهي تحتضن مياه البحر المتوسط والأحمر وقزوين وبحر العرب ، والخليج العربي والمحيط الهندي ، فضلاً عن سيطرتها على ممرات الملاحة الدولية من خلال وجود قناة السويس ومضيق باب المندب ، ومضيق البوسفور والدردنيل ومضيق هرمز والخليج العربي.
كما تحتوي منطقة الشرق الأوسط ثلثيْ الإحتياط العالمي النفطي .

– وأهمية منطقة الشرق الأوسط في آسيا توضحت مع ظهور مُخطط إسرائيل عام 1948 ، حيث تمتد من الفرات إلى النيل وفقاً لما جاء في بروتوكولات بني صهيون الأربعة والعشرين والتي تضمنها مؤتمرهم في “بال” في سويسرا عام 1898 ميلادي . إذ تمتد إسرائيل من تركيا شمالاً وصولاً إلى أثيوبيا جنوباً بما فيها السودان والصومال ، ومن إيران شرقاً إلى قبرص وليبيا غرباً . وهذا التحديد لمنطقة الشرق الأوسط نابعٌ من رؤية إسرائيل لأمنها العسكري والسياسي ، والذي تؤيده باقي الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تحت مبدأ وجوب إسقاط حق العروبة الغالبة على منطقة الشرق الأوسط .

وأمام سعي أميركا للهيمنة على آسيا تجدها أمام قوتين تشكلان عائقاً في طريقها وهما : الصين وروسيا .

فالصين واحدة من أهم الدول في القارة الآسيوية ، وهي لا زالت صامدة رغم الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ، فهي تحتل موقع القوة الاقتصادية العالمية الثانية بعد أميركا ،مُتخطية بذلك اليابان حليفة أميركا الاستراتيجية وذلك من حيث كمية الإنتاج وليس نوعيته. وصمود الصين لا يعني أنها قد تغلبت على التحديات التي تواجهها ، أو التصور أن تحل مكان الولايات المتحدة الأمريكية أو أن تصل إلى موقعها في قيادة النظام العالمي ، على الأقل في المدى المنظور .

ولكن يمكن النظر إلى صمود الصين في إطار دوره في العلاقات والتفاعلات الصينية الأمريكية ، وهذا فضلاً عن تأثير هذا الصمود وأهميته في المواقف الصينية من القضايا العربية.

وتختلف أسباب هذا الصمود والتقدم الصيني في وجه الهيمنة الأمريكية، فمنها : الأزمات المالية والغذائية ، أزمات الطاقة ، إزدياد عدد السكان في الدول النامية وتناقصهم في الدول الغنية، سوء الإدارة والفساد ، المُحاصصة الطائفية ، النزاعات المُسلحة ، تدهور الشروط المناخية والبيئية عالميًّا .

فضلاً عن إنكشاف الأمن القومي الروسي بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي وتفككه ، وهذا ما إستغلته أميركا والناتو عبر إغراء دول المنطقة الآسيوية للإنضمام إلى الحلف ، ومما أ دى إلى نشر قواعدها العسكرية وهيمنتها في المنطقة. ولكن مع إنتخاب “بوتين” عام 2000 عادت روسيا لتصبح دولة إقليمية لها إستراتيجيتها الخاصة ، وذلك بجوارها الإقليمي في شرق أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى ومن ثم توسعت وإستعادت مكانتها الطبيعية والتاريخية في الشرق الأوسط .

أمام تقدم الصين وصمودها وعودة روسيا ، كان ظهور الناتو الآسيوي . فما هو ؟ وإلام يهدف ؟ وماهي مخاطره على الصين وروسيا ، وغيرهما من القوى في قارة آسيا ؟

منذ نهاية العام 2021 وبداية العام 2022 كانت كل من بكين وموسكو وبيونغ يانغ تترقب التحركات الأمريكية في آسيا بدقة .فواشنطن تريد إنشاء تحالف جديد لتتحول من الردع الأحادي الجانب إلى التحالفات الإقليمية ، حلفاء قدُامى وحلفاء جدد أضافتهم واشنطن لقوائمها في العمل المشترك بهدف كبح التوسع الصيني العابر للحدود .

فما يخُيف الصين وروسيا وكوريا الشمالية هو تأسيس ناتو آسيوي مُكَملاً ومُرتبطاً بالناتو العربي ، الذي سيضم دول آسيوية وسيتحول يوماً إلى تحالف يُرعبهم وإتفاقيات سياسية عسكرية وإقتصادية .وقد إستغلت أميركا الحرب الروسية الأوكرانية لتكون سبباً لإنشاء الناتو الآسيوي .

فواشنطن تحاول بناء تحالفات في مختلف قارات العالم وتأسيس أحلاف مُنفصلة عن الناتو ، وهذا ما جرى الحديث عنه أيضاً تحت مُسمى الناتو العربي لمواجهة إيران . ولكن في آسيا توجد الصين وكوريا الشمالية والحليف الإستراتيجي لهما وهي روسيا ، وما يعني أن المواجهة قد تشُعل العالم .

وقد بدأت الخطوات لإنشاء الحلف منذ 2004 في إجتماع بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأستراليا والهند لتوحيد عمليات الإغاثة بعد الزلزال الذي ضرب أندونيسيا في بداية العام 2004 ، وثم تسونامي على سواحل الهند فبعدها بحوالي ثلاثة أعوام ، شكلت تلك الدول ما يُسمى بالحوار الأمني الرباعي ، وكانت المهمة حينها تنفيذ مناورات أمنية مشتركة ضمن التحالف ولكن انسحبت بعدها أستراليا من التحالف، وخاصة بعد أن تحولت الصين إلى شريك استراتيجي لها، فبقي التحالف مع وقف التنفيذ .

– ولكن عندما وجدت أستراليا أن الصين تتوسع بسرعة ، وتسعى لبناء شبكة إقليمية تسمح لها بالتوسع في نفوذها العسكري والتدخل في سياساتها الداخلية ، فقررت حينها إعادة إحياء التحالف ، فخاضت الدول الأربع تدريبات جديدة مشتركة ومنها تدريب “مالابار” عام 2020 ليعود ما يُسمى بحلف “كواد” ، والذي أظهر مخاوف الصين إذ إعتبرته تحالفاً مُشابهاً للتحالفات التي نشأت إبان الحرب الباردة .وقد سعت أميركا بقيادة “ترامب “للحفاظ على هذا التحالف ، وأظهر “بايدن “خَلَفُ “ترامب” التزاماً أكبر ، إذ عقد قمة إفتراضية ،بعد توليه الرئاسة بأسابيع، مع قادة التحالف ، والتقاهم بعدها في واشنطن مؤكداً إحياء التحالف في مواجهة الصين ، والتزام الولايات المتحدة الأمريكية إتجاه حلفائها القدامى ، فالهند والتي إعتبرت لسنوات دولة حيادية دفعتها صراعاتها المُتكررة مع الصين للدخول في الحلف .

ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في شباط عام  2022 ، وقف الحلف الأطلسي في حيرة من أمره
، وسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى ترتيب حلفائها ومن يقف معها ومع أوكرانيا ، ومن يقف مع روسيا وحلفائها.
كما حاولت إعادة علاقتها مع دول الخليج العربي ولا سيما بعد المواقف المُتقلبة لبعض الدول الأوروبية.

ورغم أن اليابان وكوريا الجنوبية ليستا عضوين في حلف شمال الأطلسي ، ومع ذلك حضر قادة الدولتين قمة الناتو في حزيران من العام 2022 بصفة مُراقبين . هذا الحضور الذي وصفته التايمز الأمريكية “بأنه علامة ورسالة مؤكدة على تعاونهما مع الغرب لمواجهة روسيا والصين .”

وبالرغم من تأكيد التقارير الغربية على أنه لا يوجد نية لإنشاء ناتو آسيوي قريباً ، إلا أن التقارب بين أميركا واليابان وكوريا الجنوبية طرح علامات إستفهام حوله . فهذه البلدان تؤكد علنيًّا أنها تسعى للتصدي للتهديدات الكورية الشمالية ، ولكن الحقيقة تدور حول التصدي للتقدم الصيني والروسي في الوقت نفسه، وقد ظهر ذلك خلال ثلاث مناورات عسكرية مشتركة نفذتها أميركا واليابان وكوريا الجنوبية شملت تدريبات التحذير والتتبع الصاروخي ، وذلك كجزء من جهود كبيرة للتعامل مع مناورات وإختبارات الأسلحة المستمرة في كوريا الشمالية .

فتلك التدريبات والتقارب المستمر تعيد معها الحديث عن حلف “كواد “‘الذي يضم الهند وأستراليا واليابان وأميركا ويمكن أن تدخل كوريا الجنوبية ، فواشنطن ترى في الهند بديلاً للصين صناعيًّا وعسكريًًّّا . فبخزانها البشري الضخم ترى واشنطن في الهند بيئة خصبة للمعامل وإمداد سلاسل التوريد العالمية ، وحليفاً عسكريًّا قويًّا في آسيا يساعدها على بناء تحالف جديد في المنطقة يُسمى الناتو الآسيوي.

وبالرغم من كل هذا إلا أن التحالفات الأميركية لإنشاء الناتو الآسيوي تواجهها تحديات عديدة ، ومن أهمها أ ن أميركا لم تعد تحتفظ بموقف إقليمي كما كانت سابقاً ، التحالف الأمني متعدد الأطراف غائب في الصين وقد ظهر ذلك من خلال منظمة “seato التي أسست عام 1954 والتي لم تتخط الدور الإستشاري. فضلاً عن عدم وجود هوية آسيوية ، والحساسية الاستعمارية من التدخل الغربي ، وعدم وجود تصور مُشترك ومُلزم من التهديد الصيني ، حيث تسعى دول آسيا إلى تحالفات أمنية ثنائية، إضافة إلى الالتزام بالأعراف والتقاليد التي تعطي الأولوية لعدم التدخل الغربي ، كل هذا يجعل ولادة الناتو الآسيوي أمراً صعباً من الناحية العملية .

أمام كل هذا تبقى فكرة إنشاء ناتو جديد بالكوكب مُمكنة مع رغبة واشنطن في استنساخ تجربة الناتو في عدة مناطق ، وبعدة صفات كمراقب أو حليف استراتيجي ، أو زعيم ، ليبقى العالم ينتظر اللحظة الحاسمة في انقسام الكوكب.
الخلاصة وبعد كل ما ذكرناه من تحالفات وإصطفافات دولية وإقليمية يعيدنا بالذاكرة إلى الغزو الألماني لبولندا في العام 1939 ولم تكن تتوقعه بريطانيا ومن ثم أعلنت الحرب على ألمانيا النازية ويذكرنا بالهجوم على بيرل هاربو في العام 1941  مما أدخل رسميا الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية ويعيدنا أيضا إلى انهيار سوق الأسهم في العام 1929 في الولايات المتحدة الأمريكية  ووصولا إلى إسقاط نظام بشار والذي يأمل شعبها المحرر بأن تتحول إلى دولة العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان أم أنها ستكون البداية لتقسيم سوريا إلى محاور وأقاليم ودول صغيرة تخدم مصالح الدول والتحالفات الدولية  أم أنها بداية عودة الهيمنة الأمريكية وتقليم النفوذ الروسي الإيراني والذي يمتد من طهران مرورا ببغداد ودمشق وصولا إلى بيروت
الا يُذكرنا ما يحصل اليوم بما حصل بعد أحداث الحادي عشر من أيلول والتي نفذتها منظمات تحكمها هياكل إدارية لم تكن معروفة ولا يمكن توقع أفعالها مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إتخاذ مجموعة سياسات وقوانين غيرت شكل الساحة الدولية وتتركز على سياسات الضربات الوقائية  وهل من يتعلم مما حصل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان أم أن الجهل العقائدي سيحوّل إسرائيل إلى الدولة الكبرى ويُعيد الباقي إلى ما قبل حدوده المعترف بها دوليا . وإذ عُدنا إلى الحروب العربية الإسرائيلية نجد بأن الجيوش العربية قاتلة عصابات غير منظمة منذ 1948 ورغم التفوق العربي في القدرات والقوة والعتاد ولكن الفوضى والإنقسام السياسي منذ ذلك الحين أثر على مجريات العمليات العسكرية في الوطن العربي . كل ما حصل ويحصل وخاصة في لبنان لعله يكون الدرس للتخلي عن عقيدة الجهل والجاهلية والتمسك بالعقيدة الوطنية المؤسساتية والإيمان بأن الوطن لا يرتبط بشخص بل بنهج .

ولعلنا نتعظ مما حصل في سوريا والرهان على المبادرات والتسويات الخارجية للدول العظمى ، بأن مصالحها فوق كل إعتبار

خالد زين الدين رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.

عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل .

عضو نقابة الصحافة البولندية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *