​التَّصوّف الخفي عند طلال حيدر: رحلةُ الرّوح في مرايا الشِّعر

​في أرض الشَّمس والأعمدة الدَّهرية، حيث يهمس الزَّمن باسمه القديم، لا يكتب طلال حيدر حبرًا على ورق فحسب، بل يرسم بالنُّور على الظِّلّ، ليصير الشِّعر جسرًا بين القلب والسَّماء.
هو ليس شاعرًا يخطّ أبياتًا، بل عابرٌ للوجود، وراصدٌ لرحلة الرُّوح، وصانع مرايا لليقين الَّذي يتجاوز الكلام.
شعره مثل الهواء، لا يُمسك، لكنه يملأ الصَّدر، ويترك القارئ يحلم بأن يرى ما وراء النَّظر.
من أول تجربة شعريّة له في كتاب “بياع الزَّمان” إلى آخر مساراته في “الوهم”، يكشف حيدر عن تصوّف خفيّ: لقاء مع الذَّات، مساءلة للوجود، وحبّ لا يذبل.
مسيرته فريدة، بين النَّثر والوجد، بين الحاضر والمقدّس، بين الأرض والسَّماء، حيث يتحوّل الشِّعر إلى طقسٍ روحيّ يربط القلب بالسَّماء، ويجعل من اللُّغة معراجًا إلى النُّور.
عندما يكتب طلال حيدر، لا يخطّ حبرًا، بل يخطّ ضوءًا وصمتًا معًا، ليصير الكلام مرآةً للصَّمت والرُّوح، وصوتًا خفيًا من أعماق الأرض نحو السَّماء.
هو شاعر يرى الكون بعينيه وقلبه السَّالك بين اليقظة والغفوة، كغيمة خفيفة تمضي نحو المطلق.
لفهم عمق تجربته الفريدة، لا بد من وضعها في سياقها.
فطلال حيدر، ابن بعلبك وبيئتها الرِّيفيّة الثَّريّة بالتَّاريخ والأساطير، كتب الكثير من شعره على وقع تحولات لبنان الكبرى، بما في ذلك الحرب الأهليّة.
في زمن التَّشظي والصَّخب، بدا أنّ شعره يختار مسارًا مغايرًا، لا بالهروب من الواقع، بل بالغوص إلى ما هو أعمق منه، في تراب الأرض، في حكايات الجدّات، وفي وجدان الإنسان الباحث عن خلاصه.
هذا السِّياق ربما يفسّر لماذا اتخذ تصوّفه طابعًا “خفيًا”، فهو لم يكن ترفًا فكريًا، بل ضرورة روحيّة لإعادة نسج علاقة أصيلة مع الذَّات والوجود.
​لغة الوجد والوعي المتجاوز للزَّمن:
​يُعدّ طلال حيدر أحد أبرز الشُّعراء اللُّبنانيين الَّذين لم يكتبوا الشِّعر بقدر ما عاشوا تجربة وجدانيّة عميقة، فنسجوا منها كلمات تهمس بأسرار الرُّوح.
ومن ذلك تعابيره الخالدة في “بياع الزَّمان” حين يخاطب الخيال:
“فوتي على خيالك، تا سكّر عليكِ،
قاعد بالمراية، اتنوقص عليكِ”
هذه الصُّورة تجمع بين الحلم والوجود، بين الفعل والكلام، لتصوغ حالة انصهار عميقة بين الخيال والذَّات والزَّمن.
إنها دعوة للتَّماهي، حيث يختفي الفاصل بين من يَرى ومن يُرى، وتحضر فكرة المرايا كرمز للوعي الصُّوفي الَّذي يتجاوز حدود الوجود الملموس.
الشَّاعر هنا لا يقدّم وصفًا، بل يفتح بابًا للتَّجربة الرُّوحيّة، رؤية الذَّات في انعكاس الآخر.
قصائده تحوّلت إلى مرآةٍ صافية تُظهر أسرار الوجود، ونافذةٍ على وجدٍ خالص يتلاشى عنده المألوف ليُزهر المعنى.
شعره ليس مجرد قوافٍ، بل مسيرة صامتة نحو الذَّات والوجود، تتجلّى فيها ملامح التَّصوف الخفي، الَّذي لم يكن خطابًا فكريًا معقّدًا، بل فطرة رقيقة وُلدت من تراب الأرض وعطرها، لتصبح العشق نفسه الَّذي يحوّل الطَّبيعة والإنسان إلى جسرٍ يُفضي إلى الأسمى.
​الحبيبة الخالدة: غزل الرُّوح وتوأمة الاتحاد:
​يستخدم طلال حيدر الغزل جسرًا للعبور إلى حالة وجدانيّة أعمق، تمامًا كما فعل المتصوّفون.
فكلماته الَّتي تبدو غزلًا لامرأة، هي في حقيقتها رموز لعشق روحي، حيث تتحول المحبوبة إلى رمز للحقيقة المُطلقة.
إن الحبيبة في شعره لا تكبر ولا تشيخ، بل هي مثال روحي خالد، لا يخضع لزمن الزَّوال، وهذا المفهوم يتوافق تمامًا مع رؤية المتصوّفين.
“حلوة متل ليلة قدر نزلت على بستان
متل القمر… مثل القمر قد ما قطفت منه بيرجع مثل ما كان”
هذه العبارة ليست مجرد غزل، بل رمز لحقيقة مُطلقة تتجلّى في صورة الحبيبة.
الحضور الطَّبيعي للقمر والبستان يضفيان على النَّص بُعدًا صوفيًا، حيث الجمال يصبح حالة روحيّة خالدة.
الحبيبة عند حيدر ليست فردًا فقط، بل تجسيد لروح تتجاوز الزَّمان والمكان، بما يتوافق مع لغة التَّصوّف الَّتي ترى في الحُبّ طريقًا إلى معرفة الذَّات.
“ارسملي بنت حلوة متل شي ميدنة
وخبّي الأدان بجيبتا وارسُم صبح ونطروا عالسّطر”
هذه الصُّور تحمل دلالات صوفيّة دقيقة: الحبيبة كمدينة، كأفق مفتوح، وكصوت داخلي يُختبأ في الجيب.
هنا يتحوّل الغزل إلى فعل روحاني، واللُّغة الشِّعرية إلى طقس اكتشاف.
الحبيب في نصوصه ليس شخصًا فحسب، بل رمزٌ للاتحاد الرُّوحي، واللقاء ليس مجرد رؤية بل اعتراف بالجزء المتمّم للذَّات.
​وحدة الوجود: الطَّبيعة والمكان كرمز للتَّوحد:
​”أوّل ما شفت الرّوح خمّنت الخريف
بس علّق تيابو الهوا بين القصب”
الصُّورة تعكس وحدة الوجود، إذ يتحوّل الخريف هنا إلى لحظة روحيّة، والهوا والقصب إلى علامات صوتيّة وبصريّة للوجود المتّصل بالزّمان والمكان.
التَّكرار الصَّوتي والبصري في هذه الصُّورة يحمل موسيقى داخليّة تُشبه الذِّكر الصُّوفي، مما يعمّق البُعد التَّصوُّفي للعمل الشِّعري.
وفي قصيدته عن بعلبك يقول:
“بعلبك مش حجارة،
هيي دمعة شمس ناطرة ترجع،
وبين أعمدتها بينام الحنين.”
في هذه الصُّورة البديعة، تتحوّل بعلبك من أثرٍ تاريخي إلى كائن حيّ نابض بالرُّوح، دمعة تنتظر قيامة النُّور.
إنها ليست مكانًا خارج الشَّاعر، بل تجلٍ لروحه الَّتي تتماهى مع الزَّمن والمُطلق.
هنا تظهر وحدة الوجود في أنقى صورها: حيث المدينة تصبح مرآةً للرُّوح، والحنين يصبح صلاةً تُقال في حجارةٍ تعرف أسماء الغياب.
بعلبك، مدينة الشَّمس والتَّاريخ، تتحوّل عنده إلى رمز للرُّوح الأبديّة الَّتي لا تفنى، ليست أطلالًا فحسب، بل “مكانًا” يحمل تاريخًا حيًا، حيث يجد الشَّاعر في صمت الحجارة المتراميّة تجسيدًا لوجدٍ صامت يتجاوز الزَّمن الإنساني.
​الموسيقى والفناء: من الطَّرب إلى الوصال:
​”هيدي الدُّني متل ليلة الحنّة
بسّ يخلص العرس ما بيبقى حدا يغنّي”
هذه الصُّورة تجسد لحظة الفناء والوصال، حيث تختفي الأنا ويصبح الزَّوال لحظة اتحاد بالجوهر الأسمى.
الشَّاعر هنا يمزج بين الحسّ الشَّعبي والبُعد الصُّوفي، في صيغة موسيقيّة تحمل إحساسًا بالطَّقس والختام، كما لو كان الختام نفسه صلاة للحبّ والوجود.
​طلال حيدر بين المتصوّفة وشعراء الحداثة:
​رغم أن شعر حيدر يزخر أيضًا بتيمات وطنيّة وإنسانيّة واضحة، ويحمل همومًا أرضيّة ملموسة، فإن خيط التَّصوّف الوجداني يبقى المسار الأكثر عُمقًا الَّذي يميّز تجربته.
فهو يتشابه مع الحلّاج في لغة العشق الوجداني، لكنه يستخدم لغة أكثر رمزيّة وخفاءً.
ويلتقي مع ابن عربي في فكرة وحدة الوجود، لكنّه يُقدّمها في صورة شعريّة عاطفيّة لا فلسفيّة.
ويتقاطع مع جلال الدِّين الرُّومي في لغة الوجد الرَّاقص، لكنّه يستخدم اللُّغة الشِّعريّة وحدها للتعبير عن هذا التَّحليق.
إذا كان حيدر يمثّل التَّصوف الوجداني الخفي، فإن التَّجربة الشِّعرية لأدونيس تمثل بُعدًا مختلفًا من الرُّوحانيّة، فهو متصوّف فلسفي يرى الحقيقة في التَّمرّد، بينما يصل حيدر إلى حقيقته عبر الحبّ والوجد.
وفي إطار الشِّعر اللُّبناني المحكي، يبرز تفرّد حيدر أيضًا.
فبينما اتجه الأخوان الرَّحباني إلى الفولكلور والمسرح الغنائي، وغاص جوزيف حرب في سوداوية الحبّ والفقد، كان حيدر يبني بهدوء جسرًا خاصًا بين اليومي والمقدّس، والواقعي والرُّوحي، مانحًا اللّهجة المحكيّة قدرة على التَّحليق في عوالم لم تبلغها من قبل.
وقد امتدّ تأثيره ليشمل شعراء الأجيال الجديدة، إذ ألهمهم أن الشِّعر المحكي يمكن أن يكون عميقًا وروحانيًا كالشِّعر الفصيح، وبسيطًا ومؤثّرًا في الوقت نفسه.
ومع اكتمال رحلته الشِّعرية وصولًا إلى كتابه الأخير “الوهم”، يتّخذ هذا التَّصوّف منحًى أكثر تجريدًا وصمتًا، حيث يصبح الوجد غوصًا في ماهيّة الوجود نفسه، ومساءلةً للذَّاكرة والحقيقة في تجربةٍ روحيّة تبلغ حدود الفناء الصَّافي.
​الخاتمة
​طلال حيدر شاعر التَّصوّف الخفي بامتياز.
فمن خلال رحلتنا في شعره، رأينا كيف حوّل الزَّمن إلى وعيٍ متجاوز، والحبيبة إلى رمزٍ للحقيقة، والطَّبيعة إلى مرآةٍ لوحدة الوجود، والموسيقى إلى لغةٍ للوصال.
لقد جعل من الرِّيف اللُّبناني معراجًا للرُّوح، ومن الحبّ قوّة كونيّة، ومن كلّ تفصيل في الحياة اليوميّة تجربة روحيّة.
لم يرفع تصوّفه إلى مستوى الفلسفة المعقدة، بل جعله تصوّفًا يوميًا، خفيفًا كنسمة، قريبًا من وجدان النَّاس.
إنه شاعر جعل من الحبّ والرِّيف واللُّغة المحكيّة أبوابًا سريّةً للوصل، ومن كل لحظة حياة قصيدة، ومن كل نبضة قلب صلاة.
هكذا يظلّ طلال حيدر ليس مجرد شاعر، بل معبرًا، ومرآةً، وبابًا نحو أفقٍ لا ينتهي، حيث يُصبح التَّصوّف لغة الحياة، والحبّ هو الطَّريق، والوصل هو الغاية.
وهذا بالتَّحديد ما يجعل تصوّفه “خفيًا”؛ ليس لأنه غامض، بل لأنه شديد الالتصاق بالحياة، شفاف كالماء، وحاضر كنبض القلب الَّذي لا نراه.
في كل عبارة له، يهمس الوجود سرَّه، وتضيء القصيدة طريق العابرين إلى أرواحهم.
كاتبة وناقدة لبنانيّة

بعلبك :فاتن مرتضى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *