
الصديقان اللدودان وما بين الصين وروسيا.
ما بين التحالف والتنازع كلمة سرّ تكشفها المصالح و معادلات العرض والطلب ، توجِّهها القوى المُحرِّكة للإستهلاك والإنتاج ، والسعي التنافسي وراء وفرة الموارد والبحث عن البدائل من موارد طاقة ومياه ، فضلاً عن إزدياد الطلب على الأسلحة وما يرافقه من هيمنة على البحار والمحيطات والممرّات المائيّة ، هذا ما يظهر جليًّا في تحالف روسيا والصين ، فلولا وجود الولايات المتحدة الأمريكية ، عدوّهما المشترك ، لرأيت جحافل الجيوش الصينيّة تحاول بعزيمة غزو روسيا ، ولرأيت الصواريخ البالستيّة الروسيّة في سماء بكين . فالصراع بينهما قديمٌ منذ الأزل ، وكلّ واحدة منهما تسعى لإثبات تواجدها على الساحة العالميّة ، والهيمنة على خيرات الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وصولاً إلى المحيط المتجمّد الشمالي .
– فكيف تسعى كلّ من روسيا والصين لإثبات وجودهما سياسيًّا وإقتصاديّا وعسكريًّا؟ وماذا على الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعل في وجه هذا التمدّد لتدافع عن مصالحها وهيمنتها على العالم أجمع ؟! وماهي العلاقة الحقيقيّة بين تطوّر صناعة السلاح وإستمراريّة الحروب في المنطقة ؟
بدايةً كان لكلّ من روسيا والصين حضور ونفوذ يختلف عن الآخر ، فالدبّ الروسيّ دخل المنطقة من بوّابة السلاح ، أمّا التنين الصيني فاخترقها من سماء الإقتصاد ، ثمّ ما لبثت أن تنوّعت المنافسة واختلفت أوجهها .
التواجد الروسي ما قبل العام 2015 كان لا يذُكر رغم إمتلاك روسيا قاعدة عسكريّّة على الشواطئ السوريّّة ، إلاّ أنّها لم تكن ذات فاعليّة بانتظار سقوط الرئيس السوري الأسبق بشار الأسد ومعرفة من سيخلفه ، كما كانت روسيا مُنهمكة في حربها مع أوكرانيا وسيطرتها على جزيرة القرم . لكنّ أنظارها تحوّلت فجأة في ذلك العام نحو تقدّم أعمق في العالم ، ولا سيّما في الشرق الأوسط وذلك حفاظاً وحماية لهيمنتها . فمن خلال سوريا عزّزت حضورها بإنشاء قواعد عسكريّة في طرطوس وحميميم ، فمنحها ذلك موطئ قدم في الأراضي الدافئة وأغراها للتوسّع أكثر ، فوطِئت قدمها بعد سوريا في ليبيا من خلال كتيبة ” الدببة” مع بداية العام 2019.
كما عزّزت حضورها في جمهورية مصر العربية عبر إتفاقيات العام 2018 والتي تضمنت بيع مقاتلات من نوع ميغ ٢٩ بقيمة ملياري دولاراً ، ولم تقف أطماعها هنا بل إمتدّت إلى الجزائر ، إذ وقّعت معها في العام ٢٠٢٠ إتفاقية تعاون عسكريّ ، مما حوّلت الجزائر إلى أكبر مستورد للعتاد والسلاح الروسي ، كما وقّعت روسيا في العام ٢٠٢٣ عقوداً دفاعيّة وأمنيّة مع كلّ من الإمارات العربية المتحّدة والمملكة العربية السعوديّّة . وقبل ذلك إتفّقت مع تركيا عبر توقيع صفقة كُبرى في العام ٢٠١٧ لإستيراد أنظمة الدفاع الجويّ ٩٤٠٠ بقيمة تصل إلى ٢٥ مليار دولار .
وإتفاقيات بيع الأسلحة لم تقف عند هذا الحد بل إمتدّت إلى ما هو أبعد من ذلك كصيانة السلاح المُباع والتدريب عليه ، حيث تبقى الدولة المستوردة في كنف الجهة البائعة .وهذا ما يجعل كلّ المناطق السورية ، باستثناء الكرديّّة منها ،تابعة لهيمنة الشركات الروسيّّة بما فيها من ثروات ولاسيّّما النفط والغاز ، كما هي الحال في ليبيا ، ومناجم الذهب في السودان . ففي هذه الأخيرة تدعم روسيا طرفي الحرب من جيش وقوات دعم سريع ، وهذا ليس فقط لأنّ الروس لديهم
رفاهيّة التوسّع ، ولكن لخوضهم معركتين متوازيتين ، من جهة مع العدو الأميركي ومن جهة أخرى مع الحليف اللدود الصيني . فكيف تظهر المجابهة بين الحليفين في منطقة الشرق الأوسط ؟
حقيقةً إنّ الحضور الصيني في منطقة الشرق الأوسط بات واضحاً والمنافسة كذلك مع روسيا ولا تحتاج لأدلّة وشرح . فالإتفاقيّات والصفقات شكّلت بوّابة عبور للصين نحو المنطقة العربيّّة . حيث وقّعت مع المملكة العربية السعوديّة تعاون صندوق طريق الحرير ممثلة بشركة أكواباور في العام ٢٠١٨ ، وذلك لإستثمار يصل لمليارات الدولارات في الطاقة المتجدّدة ، وفي العام ٢٠٢٣ عادت الصين والمملكة العربية السعودية لتوقيع عقود تزيد قيمتها عن ١٠ مليارات دولار في مجالات الطاقة والصناعات البترو كيميائيّّة .
كما وقّعت الصين مع العراق ، صاحب أكبر احتياطي نفط ، إتفاقيّّات بقيمة ملياري دولار في العام ٢٠٢٠ وذلك لتطوير حقول النفط . كما تبني الشركات الصينيّّة في جمهورية مصر العربية العاصمة الإداريّّة الجديدة باستثمارات تصل إلى ٤٥ مليار دولار ، أضف إلى ذلك تعاونها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية – الجارة المشاغبة للعرب – حيث وقّعت معها في العام ٢٠١٢ إتفاقيّّة شراكة إستراتيجيّّة تشمل إستثمارات صينيّّة بقيمة ٤٦٠ مليار دولار في البُنى التحتيّة الإيرانيّّة ، وقطاعات النفط والغاز .
-أمّا على الصعيد العسكري ، ورغم هيمنة صادرات الأسلحة الروسيّّة على منطقة الشرق الأوسط والدول العربيّّة ، إلاّ أنّ بكين فاجأت الجميع من خلال مجموعة norinco بحضورها اللافت ولا سيّّما في مجال الطائرات بدون طيّّار وأنظمة الصواريخ . ففي عام ٢٠٢٢ إشترت المملكة العربية السعودية طيارة 4ch الصينيّّة بقيمة ٧٠٠ مليون دولار ،
كما تمّ توقيع عدّة عقود للتعاون العسكري في مجالات الصناعة الحربيّّة بين بكين والقاهرة إضافة إلى توريد الطائرات الصينيّّة إلى مصر.
أمام هذا الحضور والتنافس والثقل العسكري والإقتصادي ، ما هو موقف الولايات المتحدة الأمريكية من هذا التنافس بين كل من الصين وروسيا في المنطقة العربيّّة ؟!
في الواقع الولايات المتحدة الأمريكية تخشى هذا الصراع البارد بين موسكو وبكين فهو على حسابها ويقتصّ من حصّتها . لأنّ المنطقة العربيّة كانت وحتىّ السنوات الأخيرة تحت الهيمنة الأمريكيّّة ، ولكن ما كان للولايات المتحدة الأمريكية بات يُقتسَم بين ثلاث قوى ، فضلاً عن تركيا وإيران .
الأمريكيّّون لطالما عبّّروا عن إستيائهم ومخاوفهم ، فأطلقوا عدّة تحذيرات ورسائل حول الصفقات العسكريّّة بين الصين وروسيا والدول العربيّّة ، وكذلك الهواجس الأمريكية من التوسّع الجيو اقتصادي واستثماري ، وهذا ما ظهر من صدام بين بكين وواشنطن في العراق على صفقات البناء والإعمار ، وانتهى بالتقاسم بين الطرفين .
وكذلك في جمهورية مصر العربية التي كانت ترتكز على السلاح الأمريكي ، فأصبح السلاح المصري مُتنوّعاً بين الروسي والصيني .كما هي الحال مع المملكة العربية السعوديّة والإمارات العربية المتحدة ، اللّتان كانتا الحليف الأول للولايات المتحدة الأمريكية ، التي كانت لها حصّة الأسد قبل ظهور التنين الصيني والدبّ الروسي .
فالتنافس الصيني الروسي هو صراع باردٌ وخفيّ ، ولن يتحوّل إلى حرب إلاّ إذا بقيا وحدهما في المنطقة دون المنافس الأمريكي الأشرس . لذا سيستمرّ التنافس لأنّ التطوّرات الجيوسياسيّة أدّت
إلى تداخل المصالح وتقاسم النفوذ . ففرضت على الصين دخولها في سوق الأسلحة ، والمتغيّّرات الأوروبية الآسيويّّة فرضت على روسيا الدخول في عالم الاقتصاد و الإستثمار ، وإيجاد فرص لشركاتها ولا سيّّما بعد ما فُرض عليها من عقوبات . وهذا التنافس تدفع ثمنه الولايات المتحدة الأمريكية ، وتستفيد منه الدول العربيّّة لأنّه أوجد تنوّعًا في الحلفاء والمصادر .
غاية روسيا كانت وما زالت فرض إرادتها في المنطقة ، فاستنادًا إلى الجنرال كلاوسفين، وهو جنرال ومؤرّخ عسكري بروسي ولد عام ١٧٨٠ ، وكان من أهمّ مؤلفاته vomkviege أي فن الحرب ، حيث كانت من أهمّ نظرياته :” أنّ الجيش الوطني الذي يحارب من أجل الأمة يُظهر تصميمًا أكبر من الجنود المحترفين الذين يحاربون من أجل الأرض فقط. بالنسبة له الحرب هي متابعة للدبلوماسيّّة بطرق أخرى، إذ يجب اعتبار المصالح السياسيّّة للأمّة أكثر أهميّة من الأهداف العسكريّّة . فالعلاقة متينة بين توازن القوى وبين الأهداف السياسية والأهداف العسكريّّة في الحرب ” . بالنسبة لهذا الفيلسوف الحرب هي شكل من أشكال العنف يستهدف إكراه الخصم على فرض إرادتنا ، فالعنف هو الوسيلة ، أمّا الغاية فهي فرض الإرادة .
من هنا سعت روسيا وفي خضمّ السعي لفرض هيمنتها إلى توطيد علاقتها مع العرب وتطويرها.
حيث شهدت هذه العلاقة مراحل متباينة بين الركود والإزدهار ، وذلك إنعكاسًا للعديد من العوامل السياسيّّة والإقتصاديّّة . إذ إستقرّت العلاقات التجاريّّة بينهما بين عامي ٢٠١١ و ٢٠٢٠ على مستوى يمثلّ ٢،١ % من التجارة الروسيّّة الخارجيّّة و ٠،٨ % من حجم تجارة الدول العربيّّة الخارجيّة في المتوسّط . ويبلغ حجم مشاريع
الإستثمار الروسي المباشر في الدول العربية ما بين عامي ٢٠٠٣ و ٢٠٢١ نحو ٥ % من الإستثمارات الأجنبيّّة في المنطقة ،في المقابل تمثلّ الإستثمارات العربية في روسيا ١ % من حجم الأستثمارات الأجنبية في روسيا .
إذ نفذّت الدول العربيّّة ٣٩ مشروعاً مباشراً في روسيا بإجمالي تكلفة تصل إلى ٣،٨ مليار دولار
، ووفّرت أكثر من ١٢ ألف وظيفة ، كما شهدت السنوات التالية طفرة بمعدّل يزيد عن أربعة مشاريع سنويًًّّا ، وتركّزت الإستثمارات العربيّة في قطاعي الخدمات الماليّة والعقارات من حيث التكلفة الإستثماريّّة ، ومن حيث الوظائف الجديدة بما نسبته بين ٤٢ % و ٥٤ % على التوالي .
وتعُدّ الإمارات العربيّة المتحدة من أهمّ الدول العربيّة المستثمرة في روسيا وذلك بنسبة ٢٥ مشروعاً ، نفذّتها ٢٠ شركة ، تمثلّ ٦٤ % من حيث العدد و٦٢% من حيث التكلفة الإستثماريّّة . ثمّ تأتي قطر بمشاريع تجاوزت تكلفتها الإستثماريّّة المليار دولار بنسبة ٢٩ % من الإجمالي ما بين عامي ٢٠١٢ و ٢٠٢١ .
وقد إستثمرت الشركات الروسيّة بين عامي ٢٠٠٣ و ٢٠٢١ في مئة وأربعين مشروعاً في الدول العربيّة ، بتكلفة إستثماريّة وصلت إلى ٦٤،٥ مليار دولار ، ووفّرت ما يزيد عن ٣٤ ألف فرصة عمل .
كما شهد العام ٢٠١٧ طفرة في حجم الإستثمارات بقيمة ٣٢،٥ مليار دولار عبر أكثر من عشرة مشاريع أهمّها : مشروع الضبعة لتوليد الطاقة الكهربائية النوويّّة في جمهورية مصر العربية، بتكلفة إستثماريّّة تقُدّر ب ٣٠ مليار دولار. وقد ركّزت روسيا مشروعاتها في الفحم والبترول والغاز والطاقة بنسبة ٣٠ % من حيث العدد ، ونحو ٩٢ % من حيث التكلفة الإستثماريّّة .
أمّا على الصعيد الجغرافي، فقد تركّزت الإستثمارات الروسيّّة في مصر بنسبة ٤٨ % من حيث التكلفة ، ونسبة ١٩ % في العراق ، و٢٧ % في الأردن . فيما تركّزت من حيث العدد بنسبة ٤٠ % في الإمارات ، فمصر ١٤ % ثمّ العراق ١١ % . وفي العام ٢٠٢٢ إستحوذت أربع دول عربيّّة على ٧٣،١ % من التجارة العربيّّة الروسيّّة وهي على التوالي الإمارات ، مصر ، المغرب والسعوديّّة.
وتصدّرت هذه الدول الأربع قائمة أهمّ الدول المصدّرة إلى روسيا بنسب متتاليّّة : ٤٧ % ، ٢٢%
، ١٢،٧ % و ٧،٨ % ، وتركّزت الصادرات العربيّّة إلى روسيا من المعادن والمواد الخام بما
نسبته ٥٤ % والسلع المصنّعة بنسبة ٤٠ % والخامات الزراعيّّة بنسبة ٤،٢ % للعام ٢٠٢٠ .
كما بلغت الصادرات الروسيّّة للدول العربيّّة ٣١ مليار دولار كمتوسّط سنوي بين عامي ٢٠١١ و
٢٠٢٠. واستحوذت الإمارات والمغرب والسعوديّّة ومصر على الحصّة الكبيرة منها ، وقد توزّعت بين مواد غذائية بنسبة ٣٥ % ، وسلع مصنّعة ٢٦،٤ % والوقود بنسبة ٧،٦% ثمّ اللؤلؤ والأحجار الكريمة والذهب بنسبة ١٠،٢% ، وخامات ومعادن بنسبة ٤،٧% وسلع زراعيّّة ومواد خام ٢٦% .
وقد بلغ حجم عمليات تأمين الائتمان على الصادرات العالميّة الموجّهة إلى الدول العربيّة في المدى القصير والمتوسط والبعيد سنويًًّّا نحو ١٦٥ مليار دولا ر والّتي تمثلّ نحو ٨،٥ % من مجمل العمليات القائمة في العالم لتغطّي ٢٠ % من الواردات السلعيّّة العربيّّة .
هذا التعاون الاقتصادي بين العرب وروسيا لعب دوراً هامًّا في تزايد المشاريع وتنوّعها ، وبالتالي خلق فرص عمل جديدة ، وذلك في المنطقتين. فقد تنوّعت الاستثمارات الروسيّة في الدول العربيّة ، فتعدّت ٤٢ مشروعاً في قطاعات النفط والفحم والغاز فوفّرت تسعة آلاف وظيفة ، والعقارات ستة آلاف وظيفة وأكثر ، وأكثر من أحد عشر مشروعاً في قطاع المعادن ما وفّر ٤٧٣٠ وظيفة، إضافة إلى قطاعات السياحة والفنادق وتصنيع قطع الغيار للسيارات ما وفّر ٨٦١٠ وظيفة ، وقطاعي النقل والتخزين وفّرا سبعمئة وظيفة ، إضافةً للعديد من القطاعات ، وبالتالي العديد من فرص العمل .
وفي المقابل لعبت المشاريع العربية في روسيا دوراً هامًّا في تنوّع الاستثمارات وزيادة الوظائف والّتي تركّزت في قطاع العقارات ما وفّر أكثر من ٧٠٠٠ وظيفة ، وفي قطاعات الفحم والنفط والغاز حيث تمّ توفير ٢٧٠٠ وظيفة ، وقطاعي النقل والتخزين أكثر من ثمانمئة وظيفة ، وقطاع الفنادق والسياحة.١٥٠٠ وظيفة ، وفي غيرها من القطاعات .
هذا التعاون الإقتصادي وتطوّره بين كل من العرب وروسيا يُظهر لنا مدى أهميّّة الموقع الجغرافي للشرق الأوسط ، فهو ملتقى قارات العالم القديم ، ويشرف على أهمّ البحار : قزوين ، الأبيض، الأسود ، الأحمر ، الخليج العربي وبحر العرب ، فضلاً عن تواجد أهمّ الممرّات البحريّّة : كمضيق جبل طارق ، قناة السويس ، مضيق الفوسفور والدردنيل ، مضيق باب المندب ،ومضيق هرمز ، فالشرق الأوسط، وبكلّ بساطة هو البوّابة الجنوبيّة لروسيا ، وقد سعت روسيا القيصريّّة منذ القدم إلى التوسّع وفرض وجودها الفاعل في المنطقة والوصول إلى المياه الدافئة ، ممّا دفعها إلى شنّ حروب ضدّ الدولتين الفارسيّّة و العثمانيّّة في الأعوام : ١٨١٣- ١٨٢٦- ١٨٢٨- ١٨٢٩-
…١٨٥٣
ومن ثمّ سعى الإتحاد السوفياتي لتحقيق ذلك الحلم حيث خلق وجوداً عسكريًًّّا في ستينيّّات وسبعينيّّات القرن الماضي في كلّ من مصر وأثيوبيا والسودان واليمن والصومال وليبيا الجزائر والعراق وروسيا ، تقلّص هذا الوجود تدريجيًًّّا مع إنهيار الإتحاد السوفياتي ، إلاّ أنّ الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إستغلّ تردّد إدارة أوباما الأمريكيّّة في إتخاذ قرارات حاسمة نحو أزمات المنطقة ، فسارع لملىء الفراغ الناشئ في البعدين السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط .
وقد سعت روسيا إلى إستخدام وجودها في المنطقة كورقة ضغط في ملف الأزمة الأوكرانيّّة وجزيرة القُرم والدرع الصاروخي وتوسّع الحلف الأطلسي نحوها .
وكما ذكرنا سابقاً فإنّ التردّد الأمريكي في بعض صفقات الأسلحة ساهم في توسّع روسيا في الشرق الأوسط واستعادتها لمكانتها العالميّّة عبر تشكيل تحالفات إقليميّّة ودوليّّة ، فعقدت مع كل من المملكة العربية السعوديّة والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان والكويت والجزائر وجمهورية مصر العربية صفقات أسلحة تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات .
ورغم الأهميّّة الماليّّة لهذه الصفقات ، إلاّ أنّ الهدف المرجو هو توسّع النفوذ الروسي ، فمع الأسلحة الجديدة سوف تحتاج الدول المستوردة إلى التدريب العسكري والخبراء ، وبالتالي إجراء تعديلات هامة على العقيدة القتاليّّة لجيوش هذه الدول مع ما يتناسب مع العقيدة القتاليّّة للجيش الروسي .
كما أنّ الإستقرار في الشرق الاوسط هو إستقرار لحدود روسيا الجنوبيّّة ، وسيساعدها على التخلّص من العزلة الدوليّّة الّتي فُرِضت عليها بعد الحرب مع أوكرانيا.
وهذا ما أكّده مدير الوكالة الإتحاديّّة الروسيّة للتعاون العسكريّ والفنيّ ” ديمتري ستوجاييف” خلال تصريح له في تشرين الثاني من العام ٢٠١٩ في معرض أقُيم في دبي : ” بأنّ بلاده تصدّر للمنطقة أكثر من ملياري دولارًا سنويًّا بحصّة ثابتة من ١٠ إلى ٢٠ % ، وأنّ حجم الصادرات العسكريّة لأفريقيا وصل إلى ٤٠ % ، وأنّ الإمارات تقدّمت بطلب إجراء إختبارات للطائرة المُسيّرة الروسيّّة ” أوريون إيه” على أراضيها والّتي يمكنها حمل قنبلتين صغيرتين ، وتحمل ما يصل إلى مئتي كغ ، ويبلغ طول جناحيها ١٦ متراً وطولها ثمانية أمتار ، وبسرعة تتراوح بين ١٢٠ و٢٠٠ كم في الساعة ، وقد تصل إلى إرتفاع ٧٥٠٠ مترًا ، وتحلّق إلى مسافة ٣٠٠ كم ، وتدوم طلعتها الجويّّة ٢٤ ساعة .
بالنسبة للرئيس الروسي بوتين فهو يخوض معركة وجود مع الولايات المتحدة الأمريكية ، والشرق الأوسط هو الساحة التي يجد فيها القدرة على تحقيق هذه المنافسة ، فقبل الأزمة الأوكرانيّّة الروسيّّة برزت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كثاني أهمّ سوق للأسلحة الروسيّة ، حيث كانت روسيا تحتلّ المرتبة الثانية بعد أمريكا في تصدير السلاح . فالوجود الدفاعي الروسي في الشرق الأوسط يقوم على ثلاث ركائز : بيع السلاح ، التدريب عليه ، والقدرة على الوصول إلى القواعد العسكريّّة وإستخدام القوات الشبه عسكريّّة .
وبالرغم من أنّ اللجنة الفيدراليّة الروسيّة للتعاون العسكري قد أكّدت في العام ٢٠٢١ أنّ الصادرات العسكريّّة للشرق الأوسط قد بلغت نحو ستة مليارات دولار على مدى السنوات الخمس الماضية ، أي ما بين ٤٠ إلى ٥٠ ‘% من إجمالي صادراتها العسكريّّة ، حيث زوّدت الجزائر بأقوى أنظمتها الدفاعيّّة وأكثرها تقدّماً مثل الطائرات المُقاتلة سوخوي ٥٧.
إلاّ أنّ هذه الصادرات تواجه تراجعاً وبعض الصعوبات منذ الأزمة الأوكرانيّّة الروسيّّة ، فالهند والتي تعُتبَر من أكبر مستوردي الأسلحة الروسية خفّضت وارداتها بشكل كبير. وقد يكون أحد هذه الأسباب هو الأداء السيّء لبعض هذه الأسلحة خلال حرب الروس مع أوكرانيا ولا سيّّما الدبّّابات والمُدرّعات ، لكن منظومات الدفاع الجوّيّة الروسيّّة أثبتت نجاحها فحافظت عل تواجدها في سوق الأسلحة . ومن الأسباب الأخرى لهذا التراجع ، العقوبات المفروضة على شركات
تصنيع الأسلحة والتي هي على علاقة وثيقة بالجيش الروسي، لذلك عمدت هذه الشركات ، ولا سيّّما المصنّعة للمروحيّات ، على زيارة المملكة العربية السعوديّّة ، تلاها فيما بعد زيارة الرئيس الروسي بوتين لدولة الإمارات العربية المتحدة والّتي تعُدَُّ الشريك التجاري الرئيسي لروسيا في العالم العربي ، كما أجرت الجزائر حوار اُ عسكريًّا مع روسيا نهاية العام ٢٠٢٣.
كما ألقت الأزمة الأوكرانيّّة بثقلها على شركة روسوبورن اكسبورت وهي شركة روسيّّة مُصنِّعة للأسلحة مملوكة للدولة ، حيث سعت إلى إستعادة كمّيّات من الأسلحة التي صدّرتها إلى بلدان أخرى لتجديد مخزونها الخاص من الأسلحة الّتي تمّ إستهلاكها في أوكرانيا ،خاصةً من مصر حيث وافق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على تسليم ما يُقارِب ١٥٠ مُحرّكاً وإرسال ٤٠ ألف صاروخا ، لكنّ الصفقة توقفّت بسبب الضغوطات الأمريكيّّة .
في المقابل تسعى روسيا لتوطيد تحالفها العسكري مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث أعلن مسؤول أمريكي من مجلس الأمن القومي : ” أنّ روسيا تقُدِّم لإيران مستوى غير مسبوق من الدعم العسكري والفنيّ ، ويشمل طائرات مُقاتلة وطائرات هليكوبتر من طراز سوخوي ٣٥ ، ” كما قد
يُشكِّل ذلك تهديداً لدول الخليج . إضافة إلى التدريبات والمناورات العسكريّّة الروسيّّة الإيرانيّّة الصينيّّة في أواخر العام ٢٠١٩ . حيث صرّح العميد الإيراني علّام رضا : ” أنّ العلاقات بين الدول الثلاث وصلت إلى مستوى مفيد .” وهذا ما أكّده وزير الخارجيّّة الروسي في العام ٢٠٢٣ عندما أكّد على إحراز تقدّم في المعاهدة الروسيّّة الإيرانيّّة بشأن ” الشراكة الإستراتيجية الشاملة .
كما وتحاول روسيا الحصول على حق الرسوّ في قاعدة بحريّّة شرق ليبيا ما يُعزِّز من قدراتها الاستراتيجيّة واللوجستيّة ، فضلاً عن السعي للوصول إلى قاعدة بحريّّة في السودان بهدف الوصول الدائم لقناة السويس والبحر الأحمر والمحيط الهندي وشبه الجزيرة العربيّّة .
في مقابل هذا التوسّع الروسي تظهر الصين كثالث أكبر مصدّري الأسلحة في العالم ، بعد أن تخطّت ألمانيا وفرنسا ، إذ تصُدِّر لأكثر من ٣٥ دولة ، منها ١٨ دولة أفريقيّّة . وتسعى لدعم موقعها كدولة مُصدِّرة للأسلحة عبر عروض وإغراءات تقُدِّمها للدول المستوردة والتي أظهرت إهتماماً ترُجِم عبر عقود أبرمت مع شركة China North industrial group corporation المملوكة للصين ،حيث تضمّنت صفقات لطائرة sky saker بدون طيّار، إضافة إلى طائرة cR500 العموديّّة ، وطائرة dragons cruise ونظام الدفاع الجويّ قصير المدى HR ووفقاً لتصريحات سونغ تشونغ بي نغ فإنّ الصين مستعدّة لبيع أسلحة عالية التقنيّة إلى دول صديقة دون قيد أو شرط .
وتسعى الصين لتوسيع إمتداد سوقها للمبيعات العسكريّّة إذ تبحث عن أسواق جديدة كقارة أوقيانوسيا ، وهي منطقة جغرافيّّة كبيرة تحوي أستراليا وغيرها …وحيث تبلغ مساحتها ٨,٥٢٥,٩٨٩ كم٢ وتحوي مزيجاً مُتنوّعاً من الإقتصادات والأسواق الماليّة البالغة التطوّر والتنافسيّة ، كما تركّز الصين على الدول ذات الإقتصاد المتوسّط الحجم في جزر المحيط الهادئ.
وتمتدّ أوقيانوسيا من مضيق ملقا حتىّ ساحل القارة الآسيويّّة ، وتكمن أهميّّة هذا المضيق في كونه الممرّ الأساسي لتزويد كلّ من الصين واليابان بالنفط حيث تُعتبران من أكبر مستهلكي هذه المادّة في العالم .
وقد شكّلت أسواق آسيا وأوقيانوسيا مستورد اً للأسلحة الصينيّّة بنسبة ٧٤ % و ٦ % لأفريقيا و٧ % إلى الشرق الاوسط ، وتعُتبر باكستان المستورد الأكبر بعد أن توقّفت الولايات المتحدة الأمريكية عن تقديم المساعدة العسكريّّة لإسلام أباد .
فبعد أن كانت الصين تستورد المعدّات من روسيا بنسبة تخطّت ٧٥ %، وخاصة مقاتلات c435 وصواريخ أرض جو ، بالإضافة إلى منظومة ومحرّكات الطائرات المقاتلة ، نجد أنّ شركات صناعة الأسلحة الصينيّّة تظهر ضمن أفضل ٢٥ شركة على مستوى العالم ، وهي كالتالي:
شركة صناعة الطيران الصينيّّة AVIc وذلك في المرتبة السادسة عالميّاً ، وشركة مجموعة تكنولوجيا الإلكترونيّّات الصينيّّة ceic في المرتبة الثامنة، وشركة Norinco في المرتبة التاسعة وغيرها ….ومع بداية العام ٢٠٢٠ إرتفعت مبيعات هذه الشركات بنسبة ٥ % .
ومع ذلك ورغم توسّع النظام الجيوسياسي الصيني ، فالشركات الصينيّّة لا تزال محدودة العملاء في أسواق أميركا الشماليّّة وأوروبا
الغربيّّة ، وتواجد الشركات الصينيّّة في هذه المناطق هو بمثابة سعي للحصول على الخبرات الغربيّّة . كما أنّ تجارة هذه الشركات تابعة للحكومة ، فبالرغم من إتهّام الإعلام الإسرائيلي بأنّ جيش الدفاع لديهم قد إكتشف كميّّة كبيرة من الأسلحة الصينيّّة المستعملة في قطاع غزّة من قبل حماس ، إلاّ أنّ ” كاريس وين” الرئيس التنفيذي لمجموعة
Signal وخبير العلاقات الصينيّّة الاسرائيليّّة أكّد أنّ هذه الأسلحة لم تسُتورَد مباشرة من الصين ، فهي لا تبيع الأسلحة لكيانات غير حكوميّّة .
فبتجارة الأسلحة تدرك بكين أن السلاح سلعة إستراتيجيّّة ترتبط بالدولة ، وستحتاج الجيوش إلى دعم فنيّ وقطع غيار ومزيد من الذخيرة ، وبالتالي ضمان تحقيق التبعيّة .
وأمام هذه المنافسة ، أقرّ الكونغرس قانون كاتسا ، caatsa أو قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة الأمريكيةةفي العام
٢٠١٧ ، ويهدف لفرض عقوبات على أعداء الولايات المتحدة الأمريكية مثل كوريا الشماليّّة وإيران والدول المُصنِّعة لأسلحة الدمار الشامل ، وبرامج الصواريخ البالستيّة في إيران ، إذ يُحظر استخدامها و نقل المعدّات العسكريّة ، أو تقديم المساعدات التقنيّّة والماليّّة التي تساهم في دعم تسلحّ إيران . وقد طُبِّق القانون على الصين في أيلول من العام ٢٠١٨ إذ تمّ فرض عقوبات على إدارة تطوير المعدّات في وزارة الدفاع الصينيّّة .
أمام هذه الضغوطات والمنافسة بدأت الصين تسعى للتمدّد نحو أفريقيا ، ففي ظلّ التنافس الاستراتيجي والمحاولات المُستمرّة لإستعراض القوى الكُبرى ، لا سيّّما في مجال الصناعات الدفاعية ، حيث تسعى هذه الدول لزيادة صادراتها ممّا ينعكس زيادة في
الدخل القومي ، فضلاً عن تعزيز النفوذ من خلال إرسال قوى لتدريب الجنود وإنشاء قواعد عسكريّة ، وبعد أن توجّهت القارة الأفريقيّة للتخلّص من التبعيّة الفرنسيّة ، وأمام الضغوط والعقوبات على روسيا ، وعدم ظهور أفريقيا على قائمة أولويّّات الولايات المتحدة الأمريكية في تصدير الأسلحة ، وجدت الصين فرصةً لغزو السوق الأفريقيّّة وبالتالي فرض نفوذها.
هنا برزت الصين كثاني أكبر مُوَرّد للأسلحة بعد روسيا إلى أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى ، وبنسبة ٣٠ % من واردات المنطقة ، مُتفوِّقةً على فرنسا بنسبة تبلغ ٧،٧ % ، كما بلغت الصادرات الصينيّّة من الأسلحة إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء ٢٠٥، مليار دولار أي حوالي ٢٢ % من إجمالي الصادرات للعام ٢٠٢٣ والتي بلغت قيمتها ٩٣٢، مليار دولار، في المقابل شكلت مبيعات الأسلحة الروسيّّة ٢٤ % من إجمالي الصادرات إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء ، بينم
المرجو هو توسّع النفوذ الروسي ، فمع الأسلحة الجديدة سوف تحتاج الدول المستوردة إلى التدريب العسكري والخبراء ، وبالتالي إجراء تعديلات هامة على العقيدة القتاليّّة لجيوش هذه الدول مع ما يتناسب مع العقيدة القتاليّّة للجيش الروسي .



