العنوان الدولار إلى أين؟
كيف تهدد روسيا هيمنة الدولار الأمريكي على العالم؟
وماذا عن الصين؟
أي شخص محتفظ بأمواله الآن بالدولار مُعرض في أي وقت للسرقة من أميركا.
ما يحدث في روسيا بداية نهاية هيمنة الدولار على العالم.
ما ذكرته ليس بكلامي ؛ بل هذا كلام فياتشيسلاف فولودين والذي يشغل منصب رئيس مجلس الدوما الذي هو مجلس النواب الروسي.
الرجل بكل بساطة مستاء من استغلال أمريكا لهيمنة عملتها على النظام المالي العالمي وفرضها لعقوبات اقتصادية قاسية على روسيا من ضمنها محاصرة قطاعها المصرفي وتجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي.
وللأمانة ليس فولودين وحده هو الذي يربط بين العقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة على روسيا وما بين تراجع هيمنة الدولار، بنك أوف أميركا وصندوق النقد الدولي خرجوا منذ أيام وصرحوا.
إن استخدام أمريكا للدولار كسلاح سيُضعِف من مكانته كعملة احتياط دولية؛ لأنَّ دول كثيرة ستخاف من الاعتماد عليه بشكل كبير بعد ما حدث في روسيا.
أمريكا تمتلك أقوى جيش في العالم وتمتلك النووي و ال إف35 والباتريوت وستنيجر وأدوات أخرى كثيرة لها قوة تدميرية رهيبة، وبرغم هذا يظل الدولار الأمريكي هو أقوى سلاح تملكه الولايات المتحدة.
أمريكا ضربت روسيا بهذا السلاح خلال الأسابيع الماضية دون تحريك جندي أو آلية عسكرية من مكانها.
لكن ما لم يضعه الأمريكان في الحسبان هو أن استخدامهم للدولار كسلاح مع دولة كبيرة وضخمة مثل روسيا؛ جعل دول كثيرة ترى احتياطياتها الدولارية كنقطة ضعف ممكن يتم استغلالها ضدها وتركيعها في الأرض من خلالها، وهذا يُترَجم فورًا لثقة أقل في الدولار وإقبال أكبر على عملات بديلة.
لا يوجد دولة في العالم تريد أن تُحرَم فجأة من الوصول لثلثي احتياطياتها من النقد الأجنبي كما حصل مع روسيا، وهذا يجعلنا نسأل بعض الأسئلة المهمة من ضمنها مثلًا:
لماذا قررت أمريكا استخدام الدولار كسلاح في نزاعها مع روسيا حول الحرب في أوكرانيا؟
وكيف سيؤثر ما حدث في روسيا على مكانة الدولار كعملة احتياط دولية؟
ولماذا كثير من مسؤولي البنوك المركزية العالمية خافوا من ما حصل مع المركزي الروسي؟
هل هذه ستكون بداية نهاية هيمنة الدولار على النظام النقد الدولي؟
والسؤال الأهم:
هل أمريكا تستطيع أن تقوم بنفس الحركة هذه مع الصين؟
ثالث يوم في الحرب بين روسيا وأوكرانيا وتحديدًا يوم السبت الموافق ستة وعشرين فبراير الماضي: رئيسة المفوضية الأوروبية أورسلا فون دير لاين كانت طوال اليوم في مكتبها في الدور الثالث عشر في مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل، أورسلا في هذا اليوم كانت مهتمة بالهاتف طوال اليوم سواء في عمل المكالمات أو استقبالها، وهذه المكالمات كلها كان هدفها الرئيسي هو إقناع كل الحكومات الغربية أن يقفوا مع بعضهم البعض صف واحدآ وبأن يفرضوا عقوبات اقتصادية ومالية على روسيا في نفس الوقت.
المهم في نهاية اليوم بدأت أورسلا في التوتر؛ لأن هناك مكالمة مهمة يجب أن تستقبلها لكنها لم تحدث، هذه المكالمة التي كانت تنتظهرها كانت مع جانيت يلين، في هذه اللحظة يلين كانت جالسة في أمريكا مع مسؤولي وزارة الخزانة تراجع التفاصيل الدقيقة للعقوبة الدراماتيكية والتي لم يتوقعها أحد أبدًا بما في ذلك الروس أنفسهم، والتي تخطط أمريكا لفرضها على روسيا، والعقوبة هذه هي استهداف احتياطيات البنك المركزي الروسي والجزء الأكبر منها موجود في الخارج.
وزيرة الخزانة الأمريكية في تلك الجلسة بدأت في مراجعة التفاصيل ببطئ، والأوروبيين على الناحية الأخرى كانوا على صفيح ساخن ينتظروا انتهائها؛ ليتم إنجاز تلك القصة ويعلنوا عن ضربتهم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أسرع وقت.
مسؤول في الاتحاد الأوروبي يصرح ل financial times كواليس هذا اليوم؛ يقول: “كنا منتظرين اتصال يلين، ونتساءل ماذا تفعل في كل هذا الوقت؟”.
وعندما تأخرت يلين، اتصلت أورسلا برئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي وأخبرته بالإتصال بيلين. ولماذا تأخرت؟ وأمرته بمراجعة التفاصيل معها، وبالفعل قام ماريو بالإتصال بها وفي مساء نفس اليوم الأوروبيين والأمريكيين وبعد اثنين وسبعين ساعة من المفاوضات اتفقوا على روسيا؛ اتفقوا على تجميد جزء كبير من احتياطيات البنك المركزي الروسي من النقد الأجنبي التي تتجاوز ستمائة ثلاثة وأربعين مليار دولار.
وبهذا الغرب بقيادة الولايات المتحدة، أعلن الحرب على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن حرب من نوع جديد ومختلف؛ حرب لا تُضرَب فيها رصاصة، تلجأ فيها أمريكا لشيء يُسمى dollar weaponizing أو تسليح الدولار، يعني استخدام الدولار الأميركي كسلاح.
الرئيس الأمريكي جو بايدن لأنه يعرف جيدًا أن الناخبين الأمريكيين سخطوا من الحروب الفاشلة الطويلة الأمد التي تورطت فيها البلد في آخر عشرين سنة سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرهم؛
ففضل أن يلجأ لأسلوب الحرب المالية في صراعه مع روسيا:
وهذا من ناحية لأن هذا هو الخيار المنطقي الوحيد للاشتباك مع روسيا وجيشها النووي.
ومن ناحية ثانية: لأن الحرب المالية بالنسبة لأمريكا فعاليتها أكبر من الحرب العسكرية التقليدية.
وما يجعل العقوبات المالية مؤثرة سواء في روسيا أو غيرها هو أنها تستغل الهيمنة شبه المطلقة للدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي أسوأ استغلال، لمن لا يعرف منكم فإنَّ الدولار يُمثل ما يقرب من ستين في المئة من احتياطيات البنوك المركزية في العالم، بخلاف أنه يدخل في تسعين في المئة تقريبًا من المعاملات التي تتم في سوق تبادل العملات الأجنبية، أربعين في المئة من تجارة السلع في العالم تتم بالدولار.
واعتبارًا من سبتمبر ألفين واحد وعشرين البنوك الموجودة خارج أمريكا كان عليها التزامات دولارية بقيمة سبعة عشر تريليون دولار، كل هذا يُعطي الدولار الأمريكي ثقل، ولكن الثقل هذا مرتبط برغبة باقي الدول في التعامل بالدولار، بمعنى لو أعلنوا عن توقفهم عن التعامل بالدولار، تبقى هذه الورقة الخضراء بلا قيمة.
ومن هنا يبدأ الكلام عن خطورة العقوبات المالية التي فُرِضَت على دولة كبيرة مثل روسيا وتأثيرها على ثقة العالم في الدولار، ما حدث مع الاحتياطيات الروسية جعل دول كبيرة مثل الصين تخاف من أنها توضع في يوم ما في نفس المأزق وتجد أمريكا في يوم ما تمنعها من الوصول إلى احتياطياتها الدولارية، وهذا ما أكده الاقتصادي الصينيي والأستاذ في المعهد الوطني للدراسات السياسية في طوكيو يوكينج شينج والذي قال: أن تجميد الغرب لأصول البنك المركزي الروسي سيجعل الدول الثانية وبالأخص الصين تقلق وتبدأ في التفكير في تقليل احتياطياتها من الدولار الأمريكي لصالح عملات وأصول تانية.
هذا الكلام لا ينطبق على الصين فقط؛ هذا ينطبق أيضًا على الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والذين هم شركاء مع روسيا والصين في [مجموعة البريكس].
التكتل الاقتصادي الذي يُسيطر على أربع وعشرين في المئة من الناتج الإجمالي العالمي وستة عشر في المئة من التجارة العالمية، هذا غير باقي الدول الناشئة الثانية والتي ظلت أكثر من خمسة وعشرين سنة تنبي في احتياطياتها الدولارية.
بعد الأزمة المالية الآسيوية التي حدثت سنة ألف وتسعمائة سبعة وتسعين والتي أضرت بعدد كبير من الاقتصادات التي لم تكن تمتلك احتياطيات كافية من النقد الأجنبي تُمكِّنها من التعامل مع هذا النوع من الاضطرابات؛ دول كثيرة بدأت تبني احتياطيات نقدية أساسها الدولار الأمريكي بحيث تكون مستعدة لأي طارئ.
الآن العقوبات التي فُرِضَت على الاحتياطيات الروسية توصل لهذه الدول كلها رسالة مفادها: “أنت تستطيع استخدام احتياطاتك الدولارية مثل ما تريد ولك حرية التصرف فيها كما تشاء، ولكن بشرط ألَّا تُعارِض المصالح أو السياسات الأمريكية بأي شكل؛ لأنَّهُ إذا حدث عكس ذلك ولم تُساير سياسات واشنطن في تعاملها مع الدول الأخرى؛ يمكن ببساطة أن تُحرَم من الوصول للاحتياطيات الدولارية التي تعتقد أنك تمتلكها”.
لذلك معهد تحليل الأمن العالمي في واشنطن يتوقع أن الهجمة التي حدثت على الاحتياطيات الروسية ستجعل البنوك المركزية العالمية تبدأ أن تُنوِّع أصولها بحيث تُقلل اعتمادها على الدولار الأمريكي، ولو بشكل جزئي سيؤثر بلا شك على مكانة الدولار في سوق المال، وهذا ما حذر منه صندوق النقد الدولي.
جيتا جوبيناث النائبة الأولى لمديرة صندوق النقد الدولي قالت في أواخر مارس الفائت: “إن العقوبات المفروضة على البنك المركزي الروسي تُهدد هيمنة الدولار الأمريكي على النظام النقدي العالمي، وستحوله مع الوقت لنظام متعدد الأقطاب، مشتت ما بين عملات مختلفة؛ لأن هناك دول كثيرة ستخاف من الدولار وستتحول إلى عملات أخرى”.
والشيء اللافت للنظر هو أن الدولار على الرغم من أنه العملة المهيمنة على العالم في آخر خمسة وسبعين سنة وبدون منافس تقريبًا، إلَّا أن هيمنته بدأت تتراجع أصلًا في آخر عشرين سنة لصالح عملات ثانية.
في أربعة وعشرين مارس الماضي صندوق النقد الدولي نشر ورقة بحثية تحت عنوان [التآكل الخفي لهيمنة الدولار] في هذه الورقة الباحثين أشاروا إلى أن النسبة التي يُشكلها الدولار في احتياطيات البنوك المركزية العالمية من النقد الأجنبي انخفضت من واحد وسبعين في المئة سنة ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين لتسعة وخمسين في المئة سنة ألفين وواحد وعشرين، والتراجع ببساطة سببه هو رغبة البنوك المركزية في تنويع احتياطياتها.
ببساطة جميع الدول تحاول عدم وضع كل ممتلكاتها في سلة واحدة، وهي السلة الأمريكية، هناك شيء آخر: في الفترة التي تغطيها الورقة البحثية هذه هي تقريبًا نفس الفترة التي بدأت فيها أمريكا استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية بكثافة.
المهم هناك سؤال هنا يطرح نفسه: الدولار تراجعت نسبته في الاحتياطيات الدولية خلال آخر عشرين سنة لصالح أي عملة؟ هل يا ترى تراجع لصالح اليورو الأوروبي أو الجنيه الإسترليني أو الين الياباني أو الفرنك السويسري؟ بحسب صندوق النقد الدولي: “لا توجد أي عملة ملأت الفراغ الذي خُلِق مع تراجع الدولار”.
لكن هناك عملات ملأت المساحة التي تركها الدولار والتي سماها الاقتصادي الأمريكي باري إتشينجرين: non-traditional reserve currencies، أو عملات احتياطية غير تقليدية.
والكلام هنا عن اليوان الصيني، والدولار الأسترالي، والدولار الكندي، والكرونا الدنماركية، والكرونا النرويجية، والكرونا السويدية، والوان الكوري الجنوبي.
ترجح تراجع نسبة الدولار في الاحتياطيات الدولية وتجعل دول كثيرة في التوجه نحو تنويع الإحتياطات الدولارية لصالح عملات ثانية؛
ظاهرة جماعة الاقتصاد يسموها: De-dollarization أو إلغاء الدولرة، وهذه عملية يتم فيها استبدال العملة الأمريكية بأي عملة، الذي حصل مع روسيا لن يقضي على الدولار ولكنه سيُسرع وتيرة إلغاء الدولرة التي بدأت من سنين ولكن ببطء شديد جدًا.
روسيا على خلفية العقوبات التي فُرِضَت عليها منذ ألفين وأربعة عشر بعد احتلالها شبه جزيرة القرم كانت من أبرز الدول التي سارت في هذا المخطط، وقللت النسبة التي يُشكِّلها الدولار في احتياطياتها من النقد الأجنبي من أربعين في المئة في ألفين وسبعة عشر إلى ستة عشر في المائة فقط اليوم، وفي ألفين وثمانية عشر أحدثت مجزرة في حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية.
يعني في مارس ألفين وثمانية عشر كانت تمتلك روسيا سندات خزانة أمريكية بأكثر من ستة وتسعين مليار دولار.
في خلال شهرين وتحديدًا في مايو من نفس السنة الروس باعوا الجزء الأكبر من السندات، ولم يتبق إلَّا سندات بحوالي خمسة عشر مليار دولار، لكن الرقم تدنى للأربعة ونصف مليار دولار فقط في يناير ألفين واثنين وعشرين، روسيا ببساطة كانت تُريد أن تُنقِذ نفسها من سيف الدولار الأمريكي بأي شكل.
وكانت الصين أدركت أهمية هذا من قبل ذلك بكثير، وتحديدًا من أربعة عشر سنة، في ألفين وثمانية كانت تمتلك الصين محفظة فيها سندات خزانة أمريكية قيمتها أكثر من تريليون ومئتان مليار دولار أمريكي، المبلغ الرهيب هذا كان سيضيع على الصينيين عندما حصلت الأزمة المالية العالمية؛ ولذلك في نوفمبر من نفس السنة وأثناء حضور قمة مجموعة العشرين رئيس الصين السابق هو جنيتاو اشتكى من الهيمنة المطلقة للدولار على النظام المالي العالمي، ودعا لتأسيس نظام مالي دولي جديد.
بعدها الصين بدأت تقلل اعتمادها على الدولار في تعاملاتها الدولية، وهنا تسأل نفسك
: ما الذي يمنع أمريكا بأن تفعل في الصين ما فعلته في روسيا،؟
روسيا في الأخير لم ينفعها تقليل اعتمادها على الدولار ووقعت في يد الأمريكان .
هل تعلم من أكثر من يشغل باله بهذا السؤال؟ هو الأمريكيين أنفسهم.
بعد أيام من فرض أمريكا العقوبات الاقتصادية القاسية على روسيا وتحديدًا في ثلاثة مارس الفائت رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول كان يحضر جلسة استماع منعقدة أمام اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ، أثناء الجلسة رئيس لجنة القوات المسلحة في المجلس السيناتور الديمقراطي جاك ريد سأل الرئيس الفيدرالي سؤال مهم جدًا: أصدقائنا في الصين بدأوا في التفكير كيف سيتجنبوا مصير روسيا لو طبقنا عليهم ما فعلناه في روسيا.
فرد باول: الصين من فترة فعلًا تعمل على موضوع العملة الاحتياطية، وفي نفس الوقت تطور نظام مراسلة للمدفوعات الدولية خاص بها، شبيه بنظام سويفت، ثُمَّ أكمل: تحاول الصين تحصين نفسها من مصير روسيا، طبعًا تحصين الصين وغيرها لنفسهم من مصير روسيا سيستلزم تقليل اعتمادهم على الدولار، وهذا بالتبعية سيؤثر على المكانة الدولية للدولار ولكن على المدى البعيد؛ لأنه ليس هناك عملة قوية بديلة تستطيع سد مكان الدولار بشكل سريع.
وهذا يأخذنا لسؤال والذي هو نفس السؤال الذي سُأِلَ في مارس الفائت لأكثر من ثمانين أستاذ اقتصاد في جامعات أمريكية كبيرة مثل: هارفارد، وييل، وستانفورد، ام آي تي، بيرنستون، بيركلي، في إطار استطلاع رأي عملته جامعة شيكاغو، السؤال يقول:
برأيك هل استخدام أمريكا للدولار كسلاح سيؤدي لأن دول العالم تبدأ تتحول بعيد عنه لصالح عملات ثانية؟ نصف هؤلاء تقريبًا أو اثنين وأربعين في المائة، قالوا :”لا نعلم”.
فهل إستخدام أمريكا للدولار في حروبها سيشرع وتيرة القضاء على الدولرة..