تدويرٌ للأزمة ام للخبزِ

 

إنَ كَلِمة كارثة لا تُحملُ مُبالغةً من أي نوعٍ ، لكنها الحقيقةُ المُرة التي تَصِفُ الوضعَ بدقةٍ داخلَ القارة العجوز ولا يستطيعُ أحدٌ إنكارها.
مئاتُ الآلاف من الشركاتِ والمصانعِ الأوروبية مُهددةٌ بالإنهيارِ والإفلاس التام ،البعضُ منها تقدمَ بأوراقِ إفلاسهِ رسمياً والبعضُ الآخرُ على وشكِ أن يفعلَ ذلك .
كارِثةٌ بكل ما تحمل الكلمة من معنى ومقاييس وأكثَرُ ما يُثيرُ الرعبَ فيها ، أن الحكومات الأوروبية كانت ولا تزالُ عاجزةً عن مواجهةِ هذا الخطرِ المُتفاقم .
فما هي أبرزُ تلك الشركاتِ الأوروبية التي أشهرَت إفلاسها ؟ ولماذا تسارَعت وتيرَةُ الإفلاس داخل القارةِ العجوز إلى هذا الحد ؟ وإلى أين تتجهُ أوروبا في ظلِ تلكَ الأزمات ؟.
أوروبا وكارِثةُ الدخولِ إلى النفقِ المُظلم والمستقبل المجهولِ.
تمُرُ القارة الأوروبية خلالَ الآونةِ الأخيرة بأزمةٍ غير مسبوقةٍ على مُختلف الأصعدةِ وخاصة منها الوضع الإقتصادي، وتُشيرُ أحدث التقارير المتعلقة بوضعها الإقتصادي إلى أن فواتيرَ الطاقةِ في دولِ القارة إرتفعَت بنسبةٍ تتراوحُ ما بين ٤٠٠ % بالمئة إلى ٥٠٠ % بالمئة ، مما جعلَ العبء ضخمٌ على كاهلِ الشركاتِ والأفراد، وفي ظلِ ذلك تعالت أصواتُ الإنتقادات المُوجهَةِ إلى المسؤولينَ الأوروبيين وإتهمَت الشعوبَ، الحكومات بعدمِ العدالةِ في توزيعِ الدعم عليهم .
كما إنضَمت صُغرى الشركات إلى صفوفِ المُحتجينَ على تلك السياساتِ الحكومية القائمةِ على فكرةِ تقديم كلِ الدعم والإهتمام للشركاتِ الكُبرى ، للخروجِ من الأزمةِ الراهنة بينما تُتركُ الشركات الصُغرى لمواجهةِ خطر الإفلاسِ ، وأمام المَوقف المتأزم وغيابَ الدعم من قبلِ المسؤولين، تقدَمَت الكثيرُ من الشركاتِ الأوروبية المُستهلكةِ للغاز بطلباتِ إفلاسٍ بسببِ إرتفاعِ تكلفةُ الطاقة ، ومنها الشركات المُنتجةِ للأسمدة والتي تعتمدُ على الغاز الطبيعي كمادةٍ أساسية ، بالإضافة لشركاتِ الصناعة الثقيلة والتي تستَهلِكُ كمياتٍ كبيرةٍ من الطاقة وكذلك للشركاتِ المُنتجة للألمينيوم والإسمنت ، كما خَيمَ شبحُ الإفلاسِ على شركاتِ الطيران في أوروبا، حيثُ يَرى محلِلون وخبراء أن تلك الشركات تواجِهُ تراجعاً موسمياً كبيراً لحركةِ السفر خلال الشتاء ، في وقتِ تزايدَت فيهِ أسعارُ الغازِ بشكلٍ جنوني مُحطِمةً الأرقام القياسية ، وهو ما زاد الطينَ بِلة .
ووفق تحليلات وتأكيدات المُتخصصين فإن شركات الطيران خصوصاً الأصغرَ حجماً في كلِ من وسط وشرق أوروبا ، ستكون هي الأشدَ عُرضةً للخطر خلال الشتاء ، حيثُ بدأت فعلاً بإستخدام نموذجٍ جديدٍ لتقييم مخاطرِ الإفلاس وفقاً لمستوياتِ المنافسةِ والطاقة التشغيلية وشبكاتِ الخطوطِ والنفقات المُحتملةِ لتأمين وتأجيرِ وإستبدال الطائراتِ القديمة ، حتى كُبرى شركات الطيران في أوروبا لم تسلَم من الخطرِ المُحدق وإن بدا تأثيرُه أقل وطأتً من الشركاتِ الصغرى ، بسببِ نقصِ الأرباحِ والإنخفاضِ في عديدِ المُسافرين وعلى رأس تلك الشركات Air France ، KLM الفرنسية الهولندية و IAG Cargo المالِكةِ لشركتي British Airways البريطانية ، والأيبيرية الإسبانية وشرِكةُ Lufthansa الألمانية .
والأمر ذاته ينسحب على قوتُ الأوروبيينَ فهو باتَ مُهدداً في ظلِ إرتفاع أسعارِ الكهرباءِ والغاز والتي أدت إلى إرتفاع أسعار المنتجاتِ والبصائع الأساسيةِ ومنها الخبز ، الذي إرتفعَ بمُعدلٍ ١٨ إلى ٢٠ % بالمئة في بُلدان الإتحاد الأوروبي ومن بينها ألمانيا في أغسطس / آب الماضي ، مُقارنةً بالفترةِ ذاتِها من العامِ المُنصرم ، وفقاً لما أعلنه معهد Euro stat للإحصاءات .
وفي مطلع سبتمبر / أيلول خَدَمَ نحو ٩٠٠ من مخابزِ البلادِ عُملائهم في الظلامِ خلال يومٍ من التحركِ ، بهدفِ لفت الأنظارِ إلى القضية ولكن دُون جَدوى ومع إستمرارِ المُشكلة دون أن تلوُحَ حلولٌ في الأُفق ، قامَت الكثيرُ من المخابزِ بإعلانِ إفلاسها وإغلاقِ أبوابها ، أما المخابزُ التي قَررت الإستمرارَ في العمل ، فقد إضطرَ القائِمونَ عَليها إلى إعادةِ تدويرِ الخُبز ، أي إستخدام بقاَيا المخبوزات لصُنعِ الخبز الطازجِ وذلك في محاولةٍ للتخفيضِ من كلفةِ فواتير الطاقة والتي زادت بمقدارِ أكثر من عشرةِ أضعاف .
يُشارُ إلى أن الخبزَ الذي يُعتبرُ غذاءً رئيسياً في مُعظَمِ أنحاء العالم ،يتمتعُ بمكانة خاصةٍ في ألمانيا تحديداً ، حيثُ يتوَفرُ أكثر من ٦٠٠ نوعِ مختلفٍ من المأكولات التي تعتمدُ على القمح ، تزامنَ هذا كُله مع تحذيرٍ أطلقته وكالة S&P Global Mobility ، أشارت أنه ُ وفي ظلِ الأوضاعِ الحاليةِ قد تؤدي أزمةُ الطاقةِ في أوروبا إلى إنخفاض إنتاج السياراتِ بما يَقربُ ٤٠ % بالمئة وأكثرِ من مليوني سيارةٍ كل ربع حتى نهاية العام الحالي، عام ٢٠٢٣ .
.وفي تقريرٍ بعنوانٍ الشتاءُ قادم ، قالت S&P Global Mobility ،إن سلسلةَ التوريدِ الخاصة بصناعةِ السيارات التي تُعاني بالفعلِ من جائحةِ كورونا والحرب الروسية الأوكرانية ، قد تُواجه ضغوطاً واسعةَ النطاق من إرتفاع تكاليفِ الطاقةِ أو من حتى إنقطاع التيار الكهربائي .
مع إرتفاعٍ أسعارِ الطاقةِ في أوروبا ، شتاءٌ قاسٍ قد يُعترض بعضَ القطاعات الصناعية ومنها قطاع صناعة السيارات لخطر عدم القدرة على إستمرارِ خطوط الإنتاج .
وبَدءأ من هذا الربعِ وحتى نهاية العام ٢٠٢٣ توقعت الوِكالةُ أن يكون الإنتاج الرُبع السنوي من مصانعِ تجميعِ السيارات الأوروبية بين ٤ ملايين و ٥ ملايين وحدة ولكن مع إستمرارِ أزمة الطاقة يُمكن أن يُخَفضَ الإنتاج إلى ما بين ٢،٧٥ مليوناً و٣ ملايين وحدة .
كما حذَرت الوكالة أنه وبسببِ قيام الموردين الأوروبيين بتصدير قطعِ الغيار حول العالم ،فإن جميعَ شركات صناعة السيارات ستتأثرُ بطريقةٍ ما.
أما في التشيك فتخشى مصانعٌ كثيرةٌ من إغلاقِ أبوابها بسبب أزمة الطاقة خاصةً تلك التي تَعتمدُ على الغاز ويقول مختصون إنهُ في حالِ نقصِ هذه المواد في مخزوناتِ الدولة ستكونُ الأولويةُ لمتطلباتِ المستشفياتِ والمنازل وليس للشركات ،خاصةً بعد إرتفاع فاتورةِ الغاز التي تضاعفت ٥ مراتٍ في أشهرٍ قليلة وبحسبِ، ما أدلى به مُدير إحدى المصانع التشيكية لإنتاج المصابيح ، فإن فواتيرَ الطاقةِ بدأت تُشغِل مدراءَ الأقسام.
هذه الورقةِ التنافُسية التي كانت تتمتعُ بها الشركات التشيكية، كما أنهم يَخشون التوقُفَ الكُلي عن العمل ، إذا ما نفذَ مَخزون الغاز وأضافَ مديرُ المصنع في تقريرٍ نقلته وكالةُ الأنباء التشيكيةِ ،أن المصانِعَ التشيكية هَمُها الشاغلُ الآن بات يتمثلُ في البحثِ عن إمكانيةٍ للإستغناء ولو جزئياً عن الغاز عبرَ إستخدام نوعٍ من الزيوت في إنتاجِ الطاقة اللازمةِ للتصنيعِ وهو ما يُعدُ تحدياً صعباً لعمليةِ الإنتاجِ ومعاييرهاَ البيئية .
مُوردو الكهرباء والمقصودِ بهم الشركات التي تَشتري الكهرباءَ من المُنتجينَ ثُمَ تُعيدُ بيعَها للمستهلكينَ في القارةِ الأوروبيةِ ، واجهوا مصاعبَ تشغيليةٍ وماليةٍ شديدة مَعَ صعودِ أزمة الطاقة ، على نحو إضطر جانِبٌ منهم في الدول الأوروبية لتقَديمَ طلباتِ إفلاسٍ للهيئاتِ التنظيمية المحلية وفي بريطانيا وحدها تداعى أكثر من ٢٤ مورداً للكهرباء ما بين حالاتِ إفلاس أو نقلِ إدارةِ الشركاتِ مؤقتاً للحكومة البريطانية وإمتدت الأزمة لتطال دولاً أوروبية أخرى بواقِع ٧ حالات إفلاسٍ في هولندا و ٤ في ألمانيا و ٦ في التشيك وواحدةً في بلجيكا ومثلُها في فنلندا ورُبما يتضاعف هذا العدد بين الحين والآخر .
إذا وبعد كل هذه المعطيات والوقائع والإحصائيات . بات من المشروع أن نسأل : هل كلمة كارثة تحملُ مبالغة من اي نوع ؟ وهل هي فعلا هي توصيف للحقيقة المُرة التي تصف الوضع بدقة داخل القارة والتي لا يستطيع احدٌ إنكارها ؟ فإلى متى سيستمر النزيف الإقتصادي في القارة ؟
وهل دخلت مقولة من لا يأكلٌ مما لا يزرَع حيذ التنفيذ؟
وهل أدرك العالم مؤخراُ ، أن الإنتاج والتصنيع المحلي والزراعة هم الحل الوحيد لعدم التأثر بالمناخات الإقليمية والحروب ؟
وهل كشفت الحرب مدى إرتباط الدول ببعضها البعض على مختلف الأصعدة ومنها الغذائية والصناعية ؟
وهل سنرى نهضةً قومية وطنية في دول العالم بعد كل ذلك ؟
أم أننا سنشهد المزيد من الشوائب والجماعة والحروبِ؟

خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *