قصة الريح والمرأة
بقلم: بهائي راغب شراب
قصة الريح والمرأة
يحكى أنه ..
كانت تعيش في بيتها إحدى النساء .
وحيدة في دارها ،
منسية ،
لا يذكرها الرجال .
ترزح تحت ضربات الكفاف ،
تعيش بأقل زاد .
تائهة ..
لم تتآلف مع الأرض ،
ولَمْ تُحَلِّق في السماء .
*
ذات مساء ..
ذرفت دموعاً غزيرة من كثرة البكاء
رفعت رأسها ..
نادت ..
يا رب ..
إليك أوجه الدعاء ..
والله الواحد في الأرض و في السماء .
استجاب للنداء .
*
وذات صباح تميز بالاكتئاب ،
جلست أمام الباب .
مرَّت رياحُ الحياة
ألقت السلام عليها ،
وقفت بين يديها ،
قالت لها :
يا سيدتي
يا أخت النساء .
مالي أراك حزينة ،
أدميت في صدري الفؤاد .
تجلسين وحيدة ،
منعزلة دون النساء .
لا تجيدين القراءة ..
ولا تدققين في الحساب .
*
نظرت المرأة إليها ،
عيناها تضخان الدموع
كأمواج البحار .
أنَّتْ.. حنَّتْ ..
وتكلمت ..
دعيني أيتها الريح
امضي في رحلتك الأبدية ..
بين البلاد .
احملي السحاب الثقال
و اهطلي غيثاً
حيث الناس يزرعون ،
والرعاة يسوقون بهائمهم ..
في السهول وبين الجبال .
اذهبي أيتها الريح ..
دعيني لحالي ..
تعودت العيش مع الخيال .
*
لا أدعك دون جواب ،
ردت الريح ..
رُدِّي الجواب .
قد أعينك على احتمال البلاء .
لم تجربيني قبلاً ،
جربيني الآن .
لا تستصغري الشأن ،
و أطلقي السؤال .
جمالك يرعبني ..
ووراءه ألف علامة استفهام .. ؟!
*
أنا جميلة
هذا هو اسمي ..
مشتق من الجمال .
في القرية عشت
حيث ولدت وكبرت ولعبت ،
وضحكت كثيراً مع الأطفال في الأمسيات .
مر العمر قصيراً
وصرت من برعمٍ ..
وردةً شمّاء .
لاحقتني العيون ،
وتسابقت الأيادي لقطفي ،
وأنا في ريعان البهاء .
*
وفي إحدى السنوات ..
جاء الخريف قبل موعد الإياب ،
عدواً ..
قاتلاً ..
مظلماً وظالماً ..
أسقط عن الأشجار أوراقها ،
نشر فوق الأرض الغبار .
اغتصب أحلام الصبايا ..
وغارت مياه الحياة .
سكن الظلامُ الصدورَ ،
وسقط منذ ذلك اليوم ..
النهار .
*
لم تُفْلَحُ الأرض ،
ولم تُزْرَع .
لم يفتح سوقٌ ولا ملعب .
وانتاب الناسَ الدُوَار .
سقطوا جميعاً أسرى لأوهام السلام .
يخدرهم الحوار ،
ويفرحهم الوسام .
وجدت نفسي عارية ،
لا يتحمل جلدي الدثار .
وفي لحظة عجفاء ..
أصابنا جميعاً الخوار .
*
اذهبي أيتها الريح
أطلقي لأرجلك العنان .
قبل أن يصيبك ما أصابنا ..
وتسقطين صريعة الدوار .
لا تخافي ..
قالت الريح بعنفوان ..
لا أنوي الفرار
أنا رسول الله فوق الأرض انتقل من دار إلى دار
أنفذ حكم الله إذا انحرفت الأسباب ،
وحل الوفاء .
أجيبيني .. أعينك
لا تكثري الجدال .
لا جدوى من إطالة الكلام .
قالت المرأة : حسناً ..
أيتها الريح
هل أجد أخيراً الدواء ؟
هل تحملين حقاً من أجلي الشفاء ؟
اعلم أن دوائي من جنس الداء .
والداء طاعون الحياة .
قريتي ..
تراكم الغبار عليها ،
صار كابوساً أحمقاً ،
أصبحت سوداء .
والناس في قريتي سئموا أعراس الخيال .
يحرثون الأرض طول العام ،
وعندما ينثرون البذور ..
تهبين أيتها الريح كعاصفة هوجاء ،
تنقلين البذور إلى بلاد بعيدة ..
غير البلاد .
والناس لو تعلمين جياع .
جياع.. جياع .. جياع ..
أودى الهزال بقواهم ، لا يقدرون على القيام .
أجسادهم جوعى ..
أطفالهم جوعى ..
و أرحام نساءهم تحمل أجنة ..
شوهها الخبال .
أرضهم ظمأى ..
وفقد الناس الغلال .
تفرقوا بين جهات الأرض ،
يبحثون عن سر الرجوع .
سرقتهم سنون الغياب .
راحوا .. ولم يرجعوا ..
كيف يا ريح تعدلين الاتجاه ؟
وأنت أداة الهزال .
ما تقولين أيتها الريح ..
لم نعد نضحك ،
لم نعد نلعب ،
كبرنا جميعا مرة واحدة ،
خرجنا من لباس الاحتفال .
ودَّعَنا الجمالُ وراح .
بقينا حزانى ،
نحاول لَمَّ الجراح .
لكن الهموم توالت ،
تراكمت مع طول النواح .
فقعدنا ثقالاً ،
ننتظر سوء المآل .
داءنا عضال
ونحن يا ريح سلمنا أيادينا
لنبش التراب .
*
قالت الريح :
يا جميلة
هل وعيتم حقيقة الحال ..
و أنه قد يكون الانتقام ..!
قالت جميلة :
الانتقام .. الانتقام .. الانتقام
قالت الريح : نعم
قالت جميلة : ماذا فعلنا ..
ماذا نسينا ..
ماذا تكلمنا ..
و أي شئ اقترفت أيادينا ؟
لنستحق هذا الانتقام .
قالت الريح :
عودي يا جميلة إلى أصل الكلام ،
عودي إلى الوراء ،
إلى لحظات الجمال
واندفاع الاشتياق ..
أنا رسول الله إلى الديار
أنفذ حكمه على المقصود من مخلوقات التراب
عودي يا جميلة إلى الصواب ..
عندما كنت الجميلة
هل أحببت الجميلات غيرك .
أم أنك أقمت الكمائن لتفوزي بالرهان .
عودي يا جميلة إلى الصواب .
عندما زادت غلال الرجال
ماذا فعلوا بفائضها ..
هل قاسموا الجياع … ؟
هل وزعوها بعدل بين البطون
أم أنهم خزنوها للجراد .
عودي يا جميلة إلى الصواب .
ماذا فعلتم بالحياة ..
كرمتموها أم أنكم تهاونتم في حمايتها ،
عودي يا جميلة إلى الصواب ..
كثر بينكم القيل والقال ،
وكثر العتاب ،
ومارستم الجدال .
تفرقتم بعدما كنتم جميعاً
إلى ألف قبيل و محتال .
يا جميلة ..
المستور مخبأ
فلا تكشفيه جميعاً و إلا ..
صار الرجوع محال .
ابدئي الآن بنفسك ..
وهذا مغزل الأتقياء ،
اغزلي لرأسك شعراً ..
واغزلي لبدنك ثوباً ..
واغزلي خيمة خضراء
تكون عنواناً يعود إليه الأحباء
دون تميز ودون عتاب ..
وأجلّي يا جميلة الحساب
أجلّي يا جميلة الحساب
أجلّي يا جميلة الحساب .
***