الذي لم يسأله أحد عن اسمه

 

حدث ذلك في باريس، في ليلةٍ عاصفةٍ تهبّ فيها الرياح كأنها نذيرُ غضبٍ قديم.
كان الهواء يلسع العظام لسعًا، والحرارة لا تتجاوز خمس درجات.
المطر يهطل بغزارة، وقطراته، حين تلامس الطريق، تتقافز إلى الأعلى كأنها تفرّ من البرد.

على الرصيف، تحت شجرةٍ عاريةٍ من الدفء، ينام رجلٌ في العقد الرابع من عمره.
يتوسّد حذاءً قديماً ممزقاً، ويلتحف غطاءً صوفيًا كان أزرق يومًا ثم اسودّ من طول الاستعمال وقذارة الطريق، والمطر يغمره حتى العظم.
وجهه نصف غائبٍ في الظلال، ولحيته الكثّة الطويلة تتدلّى كسوادٍ يوشّح ملامحه الباهتة.
لم أرَ سوى وجهه… لكنه كان كافيًا ليحكي حكاية الخذلان كاملة.

مررت بجانبه، مظلّتي تتلاعب بها الرياح، وأنا في طريقي إلى منزل صديقي.
غير أن شيئًا داخلي استوقفني… صوتًا خافتًا قال لي: عُد إليه.

تردّدت لحظة، ثم استدرتُ وعدتُ مهرولاً أقاوم المطر والريح، حتى وقفت فوق رأسه.
كانت إلى جانبه قطةٌ مبلّلة تحاول، عبثًا، أن تحتمي بالغطاء الصوفي المبتلّ.
كان المشهد أشبه بصرخةٍ صامتة.

قلت له بهدوءٍ مرتجف:
– «مرحبًا…»
لم يُجب.

أعدت المحاولة. ولا شيء.
ظننتُه ميتًا، فاقتربت أكثر وقلت:
– «يا أخي، لماذا تنام هنا؟ في هذا الجو؟ أليس لك مأوى؟ أأنت جائع؟ هل أستطيع مساعدتك؟»

فتح عينيه ببطء، نظر إليّ بعينين غائرتين وقال بصوتٍ أجشّ:
– «لم آكل منذ الصباح، وأنا مريض… ثم إنه ليس لديّ مسكن.»

سألته:
– «من أنت؟»

ابتسم ابتسامةً فيها مرارةُ السخرية، وقال:
– «من أنا؟ أنا ذلك الوعي القابع خلف هذا الوجه… أنا إنسانٌ مثلك تمامًا. أحب، وأحلم، وأرى الجمال والقبح، وأملك مشاعر وآلام.»
ثم تنهد، وغطّى رأسه بغطائه المبتلّ، وصمت.

تجمّدت في مكاني، ثم هرولت إلى مطعمٍ صغيرٍ قريب.
سألت العامل هناك:
– «ماذا لديكم من طعام؟»
قال: «لدينا حساء العدس مع الخبز التركي فقط.»

قلت له: «أعطني طبقًا ورغيفًا، من فضلك.»

خرجتُ تحت المطر العنيف وعدت إليه. كان لا يزال في مكانه، غارقًا في سكونٍ ثقيل.
وضعت الطبق والخبز قربه، وقلت:
– «قم، يا أخي، اشرب هذا الحساء، سيمنحك دفئًا ويسدّ رمقك.»

لم يتحرك.
كرّرت النداء… ولا إجابة.
تركته، وعدت إلى منزل صديقي، مثقلاً بقلقٍ لا يُحتمل.
كانت مظلّتي قد تكسرت، وكنت أرتجف من البرد، لكن البرد الحقيقي كان في قلبي.

تقلّبت تلك الليلة على فراشي دون نوم.
وجه الرجل لم يغادر مخيّلتي…
كيف يقضي ليلته في هذا العراء؟ من يكون؟ وما الذي جاء به إلى هذا المصير؟
غلبني النعاس أخيرًا.

في الصباح، نهضت مسرعًا، تناولت مظلّة صديقي، وخرجت لأتفقده.
وقبل أن أصل، رأيت حشدًا من الناس وسيارة إسعاف متوقفة.
اندفعت بخطواتٍ مرتجفة، أزاحم المتجمهرين، حتى رأيت ما لم أُرد أن أراه:

جثةٌ لرجل مغطاة بغطاءٍ أبيض.
سألت أحد الواقفين:
– «ما الذي حدث؟»
قال ببرودٍ مؤلم:
– «وجدوا رجلًا مشرّدًا ميتًا هنا… يبدو أنه لم يتحمّل برد الليل.»

نظرت إلى المكان الذي كان يرقد فيه البارحة، فرأيت القطة نفسها، مبلّلة، تموء بحرقةٍ، تبحث عن دفءٍ ضاع .

غادرت المكان وأنا في حالة من الذهول، أتمتم في مرارة:
تبا لهذا العالم…

لقد رحل، وامتزج اسمه الذي لم يعرفه أحد مع الريح التي عصفت تلك الليلة،
ريحٌ تئنُّ صارخة فوق قبور المساكين…
ولا أحد يسمعها.

مروان الحريري كاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *