“أطلال بعلبك”.. مدينة الآلهة التي لا تغيب عنها الشمس 300 يوم
هناء كمال
65 يوما، هي كل الفترة التي تغيب فيها الشمس عن تلك المدينة العريقة، والتي مازالت تقف بشموخ فوق قمة سهل البقاع بلبنان، تبدو أشبه بحلبة مصارعة، تتبارز فيها أطلالها لتُظهر لنا مدى القوة الحضارية والاختلاف العقائدي الذي شهدته عبر العصور المختلفة، حتى أضحت كنزًا يتهافت عليه الجميع.
“بعلبك.. أنا شمعة على دراجك.. أنا وردة على سياجك.. أنا نقطة زيت بسراجك”.. بتلك الكلمات شدت ملكة الغناء العربي فيروز تتغزل في تلك المدينة العريقة، ورد ذكرها في العهد القديم بإسم “بعلبق”، وهو ما ذكره الباحث الفلكلوري اللبناني “أنيس إلياس فريحة” في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية”، وتعني “إله وادي البقاع”، في حين يرى بعض المؤرخين أن أسمها يعود إلى الإله “بعل” إله الحرب عند الكنعانيين، وإله الشمس عند الفينيقيين، خاصة وأن له معبدا بناه الفينيقيون على أرضها، كما أطلق عليها الرومان “هيليوبولس” أي مدينة الشمس، وفي العصر الأموي حولها العرب إلى قلعة للحرب، لتستقر على إسم قلعة بعلبك.
تقع “بعلبك” في شمال سهل البقاع وشرق النهر الليطاني، تبعد عن بيروت حوالي 83 كيلومتر، تحدها سلاسل جبال لبنان من الجانبين الشرقي والغربي، وترتفع أرضها 1163 متر عن سطح البحر، كما تبلغ مساحتها 7 كيلومتر مربع، أطلق عليها الرومان قديما بـ”اهراءات روما” لوفرة محاصيلها الزراعية، حتى إنها أضحت مستودعا يمدهم بالقمح، أيضا موقعها الفريد جعلها محط الأنظار عبر العصور، فكانت ممرا للقوافل التجارية القديمة، حيث كانت تقع في مفترق طرق تصل الساحل المتوسطي بالبر الشامي، وشمال سوريا بفلسطين.
أظهرت النقوش المحفورة على جدران المعابد القديمة، أن تلك المدينة كانت عامرة بالبشر منذ 9 آلاف عام، حتى أن المؤرخ اللبناني “اسطفانيوس الثاني بطرس الدويهى” بطريرك الكنيسة المارونية في القرن السابع عشر، أن قلعة بعلبك أقدم ما بناه البشر في العالم، حيث أنشأها الفينيقيين في أوائل القرن الـ20 قبل الميلاد، وكان أول هيكل في المدينة لإله الشمس “بعل”، الذي يختفي وراء أعمدة معبد جوبيتير الرومانية، كما عثر في المدينة على مغارة للطحين تؤكد أن المنطقة كانت مأهولة بالبشر من آلاف السنين، وتتكون من مغارات متداخلة تدل على الحياة الاجتماعية الكاملة.
وفي عام 47 قبل الميلاد، استعمر الرومان مدينة بعلبك في عهد يوليوس قيصر، وأنه أمر ببناء الثالوث الروماني، جوبيتير إله الإله، وباخوس إله الخمر، بالإضافة إلى آلهة الجمال فينوس، ليكون رمزا لقوة وثروة الإمبراطورية الرومانية، واستمر التوسع في بناء الهياكل الرومانية من عام 64 قبل الميلاد إلى 305 ميلادية، أي ما يزيد عن 200 عام، على يد أكثر من 25 ألف عبد، توالت عليه العديد من أباطرة الرومان ليتركوا خلفهم تلك الآثار التي خطفت الألباب من دقة نقوشها وضخامتها، حتى أن الكثير من المؤرخين يستبعدون أنها من بناة البشر.
في نهاية القرن الثالث الميلادي تزايدت الأطماع علي تلك المنطقة، خاصة بعد أن انتشرت الفتن وبدأ الضعف يتخلل الجسد الروماني، ما دفع بعض فرق الجيش للتمرد وتنصيب قسطنطين عام 306، والذي نقل العاصمة من روما إلى بيزنطة، وقام بتوحيد الإمبراطورية تحت أمرته، وأصدر قرارًا بإغلاق معبد “جوبيتير” في بعلبك، وقد ذكر المؤرخ البيزنطي “سقراط سكولا ستيكوس” أنه ألغى الحفلات الفاسقة التى كانت تمارس فى المدينة، وأمر بإنشاء كنيسة تكفيرًا عن الخطايا وإصلاح الأخلاق الفاسدة لشعب هيليوبولس، قبل أن تعود الوثنية على يد جوليان الجاحد، والذي بدأ حكمه عام 361، حتى تولى الإمبراطور “ثيودوسيوس الأول” الحكم وانتقم للمسيحية، فدمر الهياكل الوثنية وحول معابدها إلى كنائس.
تعرضت مدينة بعلبك للفتح الإسلامي مرتين عبر تاريخها، الأولي خلال عامي 13 و14 هجرية، وإن كان لم يثبت فتحها في تلك الفترة، أما المرة الثانية فقد أكد المؤرخون على أنها خضعت للحكم الأموي ما بين عامي 662 إلى 750 ميلادية، ثم الحكم العباسي، مرورًا بالطولوني والفاطمي والأيوبي، وصولًا إلى المغول الذين عاثوا فيها فسادا، وأنقذها المماليك عام 659 هجرية، لتصل إلى الحكم العثماني لتستمر كإمارة تابعة لها منذ 1480 وحتى 1866 ميلادية.
رغم تعرض بعلبك لقرون طويلة للتخريب، سواء علي يد الأباطرة، أو لأسباب طبيعية كالزلازل، إلا إنها ظلت تستوقف الرحالة، وتجذب الأثريون، وتغذي بأطلالها الأساطير، وتثير إعجاب كل زائر، فعندما زارها الإمبراطور الألماني “غليوم الثاني”، وشاهد الأضرار التي أصابت هياكلها الرومانية، أرسل وفد من العلماء ليقوموا بعمليات الترميم والحفائر، وذلك خلال عامي 1900 و1904، كشف خلالها الأثريون عن الأجزاء الرئيسية للمعابد الثلاثة، وفي عام 1930، تابع وفد أثري فرنسي أعمال الحفر في معبد جوبيتير، ثم أستلم الأثريون اللبنانيون مهام التنقيب والدراسات الحفرية بالاشتراك مع البعثات الألمانية منذ عام 1943، حتى بدأت الحرب اللبنانية عام 1975.
معبد جوبيتير
يعد ذلك المعبد أحد أشهر المعالم الأُثرية في قلعة بعلبك، ولعل أعمدة جوبيتير الـ6، أكثر الصور شهرة، فتلك الأعمدة التي يبلغ أرتفاعها 22 مترا، تشكل جزءا من الرواق الخارجي للمعبد، وهي تعطي فكرة عن مدى ضخامة الهيكل، الذي يتكون من الرواق الخارجي يليه البهو المسدس، فالبهو الكبير، فالهيكل.
بمجرد أن تطأ قدميك مدخل المعبد ستجد نفسك في الرواق الخارجي، وهو مستطيل الشكل، يبلغ طوله 50 متر، وعرضه 11 متر، بينما يصل ارتفاعه 8 أمتار، على جانبه توجد ساحتان تملأها النقوش والتماثيل، بينهما صف مكون من 12 عامود من الجرانيت المصري، في مواجهته سلم طويل يصل طوله 50 مترًا، بواسطته تصل إلى البهو المسدس، وهو عبارة عن ساحة مكشوفة تقوم على 30 عامود من الجرانيت، كان الكهنة قديما يقومون بحفلات الرقص الديني بها، قبل أن تنهار بفعل الزلازل، ويستولي البيزنطيون 8 أعمدة، ليزينوا بهم كنيسة “آية صوفيا” في اسطنبول.
أول ما يلفت انتباهك عند عبور البهو المسدس، والذي يتصل مباشرة بالبهو الكبير المربع الشكل، أن جوانبه مفتوحة من كل الاتجاهات، تحتوي على بقايا قواعد أعمدة، بينما يوجد عامود كامل في الجهة الشمالية الغربية من القاعة، في مواجهته هيكل جوبيتر، يقام على دكة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار، ويصعد إليه بسلم يتكون من 33 درجة، تحت البهو الكبير، كما يوجد متحف كبير يضم العديد من التماثيل التي تقام على قواعد حجرية، أما جدرانه فتزينها لوحات لمخطوطات تعريفية لكل تمثال.
معبد باخوس
رغم أن معبد باخوس أصغر حجما من معبد جوبيتير، إلا إنه الأكثر حفاظا على ملامحه الأولي التي تعود إلى القرن الثاني الميلادي، ويتميز ببوابة عملاقة، يبلغ ارتفاعها 13 متر، وتصل عرضها إلى 6 أمتار، ويأخذ ذلك المعبد الشكل المستطيل، حيث يبلغ طوله 69 متر، وعرضه 36 متر، تحيط جدرانه أعمدة متصلة ببعضها بتيجان مزخرفة، يبلغ عددها 8 في الجبهة، و15 على الجانبين، وفي الجزء الخلفي يوجد هيكل باخوس، أما في الجهة الجنوبية الشرقية للمعبد يوجد برج تحول في العصر المملوكي إلى قلعة يقيم فيها الوالي.
معبد فينوس
إلى الجنوب الشرقي من القلعة يقف هيكل صغير مستدير ليس له مثيل في العالم الروماني من حيث التصميم، فالتصميمات الرومانية للمعابد كانت عادة ما تأخذ شكل المستطيل، إلا أنه أختلف في ذلك، إنه معبد فينوس، الذي يقع داخل الحرم القدسي للهيكل، بني في القرن الـ3 الميلادي، يحيط به صفين من الأعمدة، يتكون المعبد من مذبح مستدير، وتأخذ الشرفة والدرج حوالي نصف طول المبنى.
أما الباحة الداخلية الدائرية فهي تأخذ من عرض المعبد المحدد بعرض الشرفة، توجد بها منصة مستطيلة من الأمام هلالية من الخلف، تليها منصة مزخرفة بتجاويف، كل تجويف يقع بين عامودين، في حين تأخذ الشرفة الخلفية من المعبد الشكل المستطيل، أما السقف فهو يرتكز على الأعمدة التي تنحدر بشكل مستمر مع كل تجويف، مما جعله ينحدر بطريقة إيقاعية معها، أنشأ هذا المعبد خصيصا لتكريم الآلهة التي تمثل مدينة بعلبك وتشفع لها أمام آلهة المدينة العظام، إلا إنه تحول في العهد البيزنطي إلى كنيسة تابعة للقديسة بربارة.
كما يوجد في مدينة بعلبك الكثير من الآثار الأخرى التي تجذب الزوار إليها، من بينهم زائري السياحة الدينية، الذين يتوجهون إلى مقام “السيدة خولة”، ومسجد “رأس الحسين” الذي يعود إلى العصر المملوكي، والجامع الأموي الكبير الذي يعود إلى القرن الـ7 الميلادي، وجامع “أم عياد”، وكنيسة القديس “جاورجيوس” الأرثوذوكسية، ومطرانية الروم الملكية الكاثوليكية، وكاتدرائية القديسين بربارة وتقلا، بالإضافة إلى بعض القباب أهمها قبة دورس، وقبة الأمجد اللذان يعودان إلى العصر الأيوبي، وقبة السعدين التي تقع بالقرب من البوابة الرومانية.