“بعلبك وتاريخ أدبي.. متخيّل / من الذاكرة
محمود الزيباوي
تحت عنوان “بعلبك، أرشيف الخلود”، يقيم متحف سرسق معرضاً كبيراَ يستعيد تاريخ “مدينة الشمس” القديم والحديث من خلال مجموعة كبيرة من القطع الأثرية واللوحات والصور الفوتوغرافية والملصقات الدعائية. افتُتح هذا المعرض مساء الخميس الماضي ويستمرّ إلى 22 أيلول/سبتمبر المقبل.
نستكشف في القسم الأول من هذا المعرض، مراحل تكوين بعلبك المثير. في البدء، تحوّل تل بعلبك القديم إلى مستوطنة قبل نحو عشرة آلاف سنة، واستمر الاستيطان في هذه الأرض منذ العصور المبكرة حتى مطلع العصر الميلادي. حملت هذه المدينة اسم هليوبوليس، أي مدينة الشمس، وأضحت في القرن الثاني مستعمرة رومانية كبيرة تجتذب الحجاج إلى حرم معبدها المخصص للإله جوبيتر.
حافظت المدينة على موقعها عند ظهور المسيحية، غير انها تصدّعت مع ارتقاء الأمبراطور تيودوسيوس العرش، وإعلانه المسيحية ديناً واحداً وحيداً للدولة. أمر الحاكم المسيحي بإغلاق المعابد الوثنية في أصقاع الأمبراطورية سنة 380، وطاول هذا الأمر معبد جوبيتر الذي تعرّض للتدمير. تشبّث أهل هليوبوليس بمعتقداتهم كما تشهد نصوص المؤرخين المسيحيين الذين عاصروا تلك الفترة، وسعوا إلى الاستمرار في ممارساتهم الطقسية والاجتماعية على مدى أكثر من قرنين من الزمن.
مع الفتح الإسلامي، عُرفت المدينة باسم بعلبك، ولعل هذا الاسم هو اسمها الأصلي القديم. يروي البلاذري في “فتوح البلدان”: “ولما فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق، سار إلى حمص فمرّ ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصلح، فصالحهم على أمنهم وأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم:”بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم، داخل المدينة وخارجها”. كما يُستدلّ من هذه الشهادة، كان المجتمع البعلبكي مجتمعا تعدّديا يضمّ الروم والفرس والعرب، وانتقل تدريجيا إلى الإسلام، وأضحت بعلبك مدينة زاهرة من مدن الشام، تُعرف بآثارها العجيبة.
في العصر العباسي، ذكر اليعقوبي بعلبك في “البلدان”، وقال: “هي إحدى مدن الشام الجليلة، وبها بنيان عجيب بالحجارة، وبها عين عجيبة يخرج منها نهر عظيم وداخل المدينة الأجنة والبساتين”. وكتب الإصطخري في “المسالك والممالك”: “ومن جند دمشق بعلبكّ، وهي مدينة على جبل، عامة أبنيتها من حجارة، وبها قصور من حجارة، قد بنيت على أساطين شاهقة، ليس بأرض الشام أبنية حجارة أعجب ولا أكبر منها”. واستعاد ياقوت الحموي هذا الوصف في “معجم البلدان”، وقال: “مدينة قديمة، فيها أبنية عجيبة وآثار عظيمة وقصور على أساطين الرّخام لا نظير لها في الدنيا”.
أدهشت آثار بعلبك العرب، فنسبوها، كما نسبوا آثار تدمر، إلى الملك سليمان الحكيم. نقل يعقوب الحموي في معجمه رواية تقول “إن بعلبكّ كانت مهر بلقيس وبها قصر سليمان بن داود، عليه السلام، وهو مبني على أساطين الرخام”. واستعاد القزويني هذا الرواية في “آثار البلاد وأخبار العباد”، كما نقل رواية أخرى تقول: “إنّ ذلك الموضع يُسمّى بك في قديم الزمان، حتى عبد بنو إسرائيل بها صنماً اسمه بعل، فأضافوا الصنم إلى ذلك الموضع، ثم صار المجموع اسماً للمدينة، وأهلها على عبادة هذا الصنم، فبعث الله إليهم الياس النبي”.
ظلّت هذه الروايات حية في العصر المملوكي كما تشهد الكتابات التي تعود إلى تلك الحقبة. كتب العمري في “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”: “بعلبك مدينة قديمة البناء، شمالي دمشق، يُقال إنها من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، لها قلعة عظيمة مرجلة على وجه الأرض، مثل قلعة دمشق يستدير بها. وبالمدينة سور منيع محصّن عظيم البناء بالحجارة الثقل الكبار من الصخر الشديد المانع، وبه ثلاثة أحجار عظيمة ممتدة تحت برج، وفي القلعة عمد عظيمة شواهق وسيعة الدور منيفة العلو”. وأضاف الحِميري في “الروض المعطار في خبر الأقطار”: “وبها من عجيب الآثار الملعبان، والكبير بُني في أيام سليمان بن داود عليهما السلام، وطول الحجر من حجارته عشرة أذرع على عمد شاهقة يروع منظرها. وبهذه المدينة من الهياكل شيء عجيب”.
اعتمدت الروايات العربية القديمة على القصص الشفهية التي تبدأ بشكل وتتطوّر بأشكال متعددة، واعتمدت الأبحاث الحديثة على التحليل العلمي الموثّق، وبات لبعلبك تاريخ أدبي لا يمت إلى الحقيقة إلا بصلات واهية، وتاريخ علمي يعتمد على الشواهد التاريخية والكتابات الأصلية. اعاد المختصون كتابة تاريخ بعلبك في العصر الحديث، وحدّدوا موقعها السياسي والاجتماعي والديني في الحقبة الرومانية التي شهدت نموها وأفولها. بعد سنوات طويلة من البحث، اتضح أن قلعة بعلبك تجمع عدداً كبيراً من المعابد والمباني في مكانٍ واحدٍ. كانت هذه المعابد مدفونة تحت الأنقاض، وبدأ العمل على استعادتها في العام 1898، وتوالت المحاولات لاسترجاعها حتى العام 1922.
يلفّ الموقع الأثري سور كبير ذو رواق مقدم، ويتألّف هذا الرواق من بوابة ضخمة يحدّها برجان يضمّان أكثر من اثني عشر عموداً من الغرانيت، ودرجٌ تحيط به بنيةٌ نصف دائريّة، إضافة إلى ثلاثة أبوابٍ تفصل بينها أدراجٌ لولبيّةٌ تمتدّ إلى سقف الممر. يضم الموقع بهو مسدس مكشوف للشمس تحوطه ستة ممرات تقوم على ثلاثين عموداً من الغرانيت، وساحة كبيرة تحوي اهم المعابد في القلعة، وهي محاطة باثني عشر إيواناً أنشئت لإقامة الاحتفالات الدينية. وقد جرى تحويل هذا البهو إلى كنيسة في نهاية القرن الرابع، فأُضيفت له قبة مصنوعةً من النحاس ومطليّةً بالذهب. وفقا للتقليد الروماني السائد، تضم الساحة مذبحاً تُقدّم عليه الأضاحي الصغيرة، وبرجاً تُقدّم عليه الذبائح والقرابين الكبيرة، وهو على شكل منصّةً كبيرةً تسمح للحجاج بأداء فرائضهم في حضور التماثيل الموجودة في عمق الهيكل.
نجح علماء الآثار في إخراج ثلاثة معابد من الظل إلى النور. يُعرف المعبد الأوّل بمعبد جوبيتر، ويقوم على دكّةٍ يصل ارتفاعها إلى عشرين متراً فوق الأرض، ويبلغ طوله ثمانيةَ وثمانين متراً، وعرضه ثمانيةَ وأربعين متراً، وكان محاطاً بأربعة وخمسين عموداً، ولم يبقَ منها سوى ستة أعمدة. ويُعرف المعبد الثاني بمعبد باخوس ويقوم على دكةٍ كبيرةٍ طولها ثمانية وستون متراً، وعرضها أربعة وثلاثون متراً، وهي محاطة بخمسين عمودا. نصل إلى المعبد الثالث، وهو الأصغر حجماً، ويتميّز بارتفاع بنائه عن مستوى محيطه. خارج القلعة، نقع على ما يُعرف بمعبد فينوس، وقد حوّله المسيحيون إلى كنيسة تحمل اسم القديسة بربارة. دمرّ الامبراطور ثيودوسيوس مذابح هيكل جوبيتر، وبنى بحجارتها كاتدرائية كبيرة فوقها، وتظهر آثار هذه الكاتدرائية اليوم قرب درج الهيكل، كما تظهر بقايا مسجد أموي نواحي مدخل الأكروبوليس. بعد مسح الموقع، أعيد رسم خريطة بعلبك بمعابدها، واستعان بعض الرسامين بهذه الرسوم لإنجاز لوحات فنية تنقل صورة بعلبك الأصلية.
يجمع المعرض باقة من الأعمال الفنية التي تستعيد صور بعلبك وأمجادها، منها لوحات تعود لفنانين مستشرقين، وأخرى تعود لفنانين محليين، منهم فيليب موراني ورفيق شرف ومحمد الرواس. كذلك، يضم المعرض مجموعة من الوثائق التي تتعلّق بعلوم الآثار، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تعكس صورة بعلبك بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. مع نشوء لبنان الكبير، ودخول بعلبك إلى هذا الوطن الناشئ، تحوّلت المدينة الأثرية سريعا إلى أيقونة، وغدت “أسطورة الماضي المثالي” و”المنطلق للوطن الجديد”. كما يقول الكتيّب الخاص بالمعرض: “مع اللبننة، تنتقل بعلبك من ماض غير قابل للتوفيق، لتصبح العلامة التجارية الرمزية الأكثر تكراراً للون الجديد”. وتتجلّى هذه العلامة في سلسلة من الملصقات الدعائية السياحية التي تعود إلى حقب مختلفة من التاريخ الحديث.
ختام المعرض ركن خاص يستعيد تاريخ مهرجانات بعلبك الدولية منذ تأسيسها في العام 1956 في عهد كميل شمعون إلى يومنا هذا، يتبعه كلام عن المدينة الحديثة في سبع مقابلات وسبع وجهات نظر من رجال ونساء من بعلبك.