البودكاست العربي: من الثرثرة الفارغة إلى مفترق طرق “السابع من أكتوبر”
منذ أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وتبعاتها، انتشرت العديد من حلقات “البودكاست” التي تناقش جوانب مختلفة لا تنتهي، تتناول صفحة ما من تاريخ القضية الفلسطينية الواسع.
أثر ذلك كثيرًا في إعادة تشكيل الوعي لدى شريحة مستمعي البودكاست والذين هم عددٌ ضخم يتزايد مؤخرًا، كما أن الحديث عن القضية الفلسطينية في البودكاست، أثرى محتوى “البودكاست” العربي الذي كان يواجه فقرًا في المحتوى السياسي ورواجه كفئة مستخدمة للاستماع في البودكاست. ولكن، ما هو البودكاست؟ يجب أن نعرف هذا، لأن قصة البودكاست العربي تستحق أن تروى.
يعود تاريخ أول “بودكاست” إلى عام 2004 في الغرب، حين خرجت تلك الظاهرة كامتداد لاختراع الآيبود، وبسبب عدم تطور منصات العرض للمحتوى المرئي بعد، آنذاك، كان سهلًا استخدام المعدات الأساسية من تقنيات بسيطة تتعلق بالتسجيل وميكروفون فقط لصناعة محتوى، وهو ما يتوفر لأي شخص ذي ثقافة بسيطة في الكمبيوتر حينها، دون أي تعقيد يوازي تعقيد عملية المونتاج والتصوير والإخراج وخلافه في المحتوى المرئي، بالإضافة إلى سهولة رفع الملف الصوتي الذي لم يكن كبير الحجم حتى في أفضل الجَوْدات.
ستكون تلك الأسباب فيما بعد سببًا لرواج الـ”بودكاست Podcast” في الوطن العربي، حيث يطمح الكثيرون لصناعة المحتوى الذي يتيح لهم فرصة التعبير عن أفكارهم ووجهة نظرهم، بالإضافة إلى أن البودكاست قد يستدر ربحًا ماديًا في بعض الأحيان على صاحبه، كما أن المُستهلك العربي العادي لا يملك بالكاد الأموال التي يستطيع من خلالها تجهيز ستوديو لتسجيل محتوى مرئي، وبذلك يصبح البودكاست عاملا أسهل لتقديم المحتوى المطلوب.
كانت فترة وباء كورونا والحجر المنزلي هي فترة منعشة لصناعة البودكاست بالنسبة للمحتوى العربي الذي شهد ارتفاعًا في معدلات صناعة البودكاست، حيث أصبح التقاء الأشخاص وتسامرهم عن بُعد حلا آخر لتجنب اللقاء الحي في الواقع، كما أن البودكاست تميز بسهولة الاستخدام حيث إنه يتيح للمستمع أن يختار الموضوع الذي يريد أن يستمع له بالإضافة إلى عدم اشتراط الاتصال بالإنترنت من خلال التحميل المُسبق، لذلك انتشر البودكاست بكثرة كوسيلة للاستماع أثناء قيادة السيارات أو التمشية.
بإمكاننا أن نستدل على طفرة فترة الكورونا من خلال موقع “البودكاست العربي”، وهو موقع إحصائي شبه رسمي للبودكاست العربي. ويعد العام 2007 انطلاقة للبودكاست العربي وفقًا للموقع، حين خرجت ثلاثة برامج فقط، وحتى العام 2016 لم يصل العدد إلا إلى 36 برنامجا.
لم تعرف صناعة البودكاست العربي صعودًا مُلفتا للأنظار إلى عام 2018 الذي كان بداية لصعود السهم الذي سيصل غلى ذروته منفجرًا في عام كورونا 2020. في هذا العام، سجلت منصة “أنغامي” زيادة في عدد البودكاست بنسبة 25%. حينها تم تسجيل 515 بودكاستا جديدا بالموقع، ومن وقتها صار يتنامى البودكاست العربي، وتنشط 458 بودكاستا بينما توقفت 1072 بودكاستا، ويسجل الموقع ما يقارب الـ70 ألف حلقة بودكاست.
إن كان لتلك الأرقام أن تُعبر عن شيء، فهي بالطبع خير معبر عن صعود ثقافة البودكاست في الوطن العربي مؤخرًا، والذي تُعد فيه نوعية “الاجتماعي والحواري” هي النوعية الأكثر إثارة للاهتمام وفقًا لموقع البودكاست العربي. وبسبب سيادة تلك النوعية، فقد كان هناك لوم يُوجه دومًا إلى البودكاست العربي، بأنه فرصة ممتازة لثرثرة غير مفيدة بقيم ومحددات الإعلام الرسمي. ويشيع “البودكاست” وفقًا لإحصاء موقع “البودكاست العربي” بالأخص في جيل الـ”آيبود” والـ”سبوتيفاي”، أي جيل الشباب، حيث يُعد أكثر مستمعي البودكاست من فئة الشباب 18- 34 عامًا، وهم يشكلون 82% من نسبة المستمعين. وتشيع أيضًا تلك الثقافة بين حاملي المؤهلات العليا، فـ 80% من المستمعين هم من حملة البكالوريوس.
تشكل ثقافة “البودكاست” في منطقة الخليج العربي، أحد مظاهر مستجدات المشهد الإعلامي في الخليج. في الإمارات، هناك مليون شخصًا يستمعون للبودكاست أي 10% من جموع السكان، وفي السعودية يستمع 5 ملايين شخص بشكل منتظم، كما أن دول الخليج تكثر فيها المبادرات الفردية التي تقوم على منصات إنتاجية للبودكاست مثل تجربة “ثمانية” الشهيرة، وبودكاست “فنجان” الخاص بها والذي ظهرت إلى جانبه العديد من البرامج الأخرى التي تتبع لنفس المنصة.
يهتم صناع البودكاست في الخليج بمأسسة تلك الصناعة أيضًا، فبشكل دوري، تُعقد المؤتمرات التي تهتم بتطوير تلك الصناعة ونشرها خارج نطاق الخليج وتوجيهها باللغة الإنكليزية. كمؤتمر “Dubai PodFest” الذي عُقد عام 2021 وما زال يُعقد بشكل سنوي من بعدها.
تتوفر في دول الخليج البنى التحتية الجيدة الخاصة بالإنترنت، والخاصة بتسهيل شراء معدات الإنتاج لو أراد الفرد أن ينتج بذاته لذاته، كما أن حال السكان ميسورة إلى حد كبير ما يجعل من البودكاست سلعة تُباع كمنصات المشاهدة مثل نتفليكس وهولو وأمازون، لذلك فإنها تُعد تلك الصناعة في الخليج مُدرة للربح من خلال الاشتراك وليس الإعلان وعدد المشاهدات فقط في القنوات المجانية على يوتيوب كحال باقي الدول العربية، ما شجع اتجاه الاستثمار في قطاع البودكاست المتنامي هناك من شركات أجنبية ومحلية ضمنت الربح في هذا المجال، الذي لا يُنبئ بأن نجاحه مجرد فقاعة وانفثأت، بل إنها شيء ربما يستمر.
القمع والمساحات الآمنة
تقوم فكرة الكثير من برامج البودكاست على مذيع يستضيف شخص للحديث عن مجال عمله واهتمامه ونجاحه فيه، وفي الواقع يساعد هذا النوع من محتوى “الحكي لأجل الحكي” صاحب البودكاست حيث إنه يحرره من مهام الإعداد التحريرية للحلقة والمؤثرات الكبيرة. سر الخلطة أن الحلقة تعتمد على قدرة الضيف على سرقة اهتمام المستمع بالحديث عن تجربته في الحياة إن كان من المشاهير أو المختلفين في أحد المجالات، حتى لو كان ما يفعله غير هام وغير مؤثر على الإطلاق.
لذلك يسود ذلك النمط على حساب أنماط تعليمية وتثقيفية، وندرة للأنواع السياسية، ولا شك أن ذلك نتاج طبيعي في المجتمع العربي الذي يُنتج فيه القمع بوارًا، ونزوع الشباب إلى اللعب في المساحات الآمنة، سواء في الدول البوليسية ذات القمع المترسخ مثل مصر، أو في الدول الريعية التي تقدم مجتمع رفاه مقابل احتكار الفعل السياسي وحرمان الجماهير منه في الخليج العربي.
بينما كان هدف البودكاست هو خلق إعلام بديل وتعددية في الآراء والأصوات، فإن السياسة ما زالت تشكل “بعبعًا” لمقدمي البودكاست، وفي الخليج مثلًا، يتم استخدام البودكاست للتساوق مع سياسة الدولة واتجاهها. ففي حالة السعودية مثلًا نجد أن بودكاست “ثمانية” ينصب على مجاراة التحديث ومواضيعه التي يطرحها من وجهة نظر الأمير محمد بن سلمان.
يشتهر في السعودية والوطن العربي بودكاست “فنجان” آنف الذكر، والذي يحقق أعلى نسبة للاستماع على الإطلاق في كافة المنصات سواء بمحتواه المرئي أو المسموع، حيث تحقق حلقاته باستمرار أرقامًا غير معقولة بالنسبة للصناعة الناشئة، فأكبر حلقاته على الإطلاق لياسر الحزيمي عن العلاقات العاطفية قد حققت 82 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب فقط. ورغم تلك الشهرة المُدوية للبودكاست، فإن آفة البودكاست العربي في الخليج تتمثل في السياسة التي تم احتكارها من قبل الأنظمة، فقد مرت مائة يوم على الحرب على غزة، ورغم انشغال البودكاست بمواضيع فلسفية وتاريخية، إلا أنه لم يقدم حلقة واحدة عن فلسطين! وإذاعة “ثمانية” بصفة عامة لم تقدم سوى حلقة واحدة باهتة عن القضية الفلسطينية تحت عنوان “لماذا فشلنا في حل القضية الفلسطينية؟”.
ولا تحتاج حالة البودكاست في الإمارات بالطبع إلى توضيح في هذا الشأن، وكما هو متوقع، فإنها لن تنطلق مناصرة فلسطين من قبل عاصمة التطبيع الدبلوماسي والثقافي. وتنصب مواضيع “البودكاست” داخل الإمارات على “البيزنس” والـ”جيندر” وبودكاست “كيرنينغ كلتشرز” KERNING CULTURES الذي تهتم مقدمته المصرية الأمريكية المقيمة في الإمارات “هبة فيشر” بمناقشة قضايا الهويات والتابوهات الجنسية والمُحرم في الثقافة العربية السائدة المحافظة، وتلك مساحات آمنة يمكن الاشتباك معها بدلًا عن المواضيع الجادة التي يعاني منها ملايين من مواطني الدول العربية.
وإن كان ذلك الحال في مناقشة قضية عروبية عامة تتشاطرها الجماهير العربية جميعها، فما حال مواضيع الشأن السياسي الداخلي؟ بالطبع تكاد تنعدم في دول مثل دول الخليج العربي، وفي مصر. تضييق الخناق والترهيب المستمر يُفقر المشهد الإعلامي والثقافي على حد سواء، في الراديو والتلفاز والبحث العلمي والكتب. وينحصر “البودكاست” المُقدم من الداخل في مصر في استضافة شخصيات عامة مشهورة، اشتهرت عن طريق الـ”تيك توك” والكثير منها تافه وغير ذي قيمة، بالإضافة إلى نجوم كرة القدم الهامشيين أو المنسيين والذين يسعون إلى العودة لأن يكونوا ترندًا من خلال الحديث عن فضائح لاعبين آخرين والتلفظ بألفاظ نابية، حتى أصبحت بعض برامج “البودكاست” في مصر أشبه بـ “غرزة” الحشيش!
ما بعد السابع من أكتوبر؟
رغم ذلك، فإنه لا يُعد الحديث عن فلسطين محظورًا في بعض الدول مثل مصر، وإن كان له خطوطه الحمر، ومنذ أن اندلع العدوان على غزة، ظهرت العديد من برامج “البودكاست” التي تهتم بمناقشة الوضع في فلسطين، كحال بودكاست “ألف باب” لمقدمه “عبده فايد” والذي قدم العديد من الحلقات عن الشأن الفلسطيني وعن تاريخ الإبادات العنصرية الأوروبية والإمبريالية في سياق نفاق المجتمع الغربي في ما يتعلق بمعاداة السامية، وقد حققت حلقات البودكاست زخمًا كبيرًا ومشاهدات تزيد وتتنامى حلقة بعد أخرى حتى جلبت إحدى حلقاته مائة ألف مشاهدة.
ومن موقعها في تركيا وشراكتها مع العديد من المنصات الأخرى أبرزها “الجزيرة”، تُقدم منصة “الشرق” العديد من الحلقات في برنامجها “بودكاست الشرق” إذ تهتم بمناقشة الوضع في فلسطين وقد تجاوزت إحداها المليون مشاهدة، بل وتطورت إلى مناقشة الوضع السياسي في مصر والبحر الأحمر وليبيا واليمن بشكل عام بعد أن جذبت الانتباه من خلال قضية فلسطين، وتحقق حلقاتها العديد من المشاهدات الكثيرة أيضًا. كذلك حققت حلقة “حسام زملط” في بودكاست “أثير” عن القضية الفلسطينية أكثر من مليون مشاهدة.
ويقوم “فيصل عبد الرحمن العقل” في بودكاست “بدون ورق” بدور هام في مناقشة العديد من الجوانب الهامة في القضية الفلسطينية من خلال موقعه في الكويت، وقد استضاف العديد من الشخصيات الهامة من أمثال “سلمان أبو ستة” و”مصطفى البرغوثي” اللذين تجاوزت مجموعة مشاهدات حلقاتهما المليون ونصف المليون، وتلك أرقام أيضًا غير مسبوقة في مشاهدات هذا البودكاست على “يوتيوب”.
وتلك الأمثلة هي غيض من فيض من حلقات البودكاست العربي بعد الحرب في فلسطين، والتي تُقدم جُهدًا محمودًا في تشكيل الوعي للشباب وجعلهم على مستوى مواكبة الحدث، وربما تُعد واحدة من الآثار الجانبية الإيجابية للحرب المأساوية، هي أنها تُعيد تقديم موضوع هام وجاد تحتاجه بالفعل تلك الصناعة الآخذة في التصاعد، والتي كادت أن تغرق في التفاهة والمحتوى المُدجن، فهل تكون تلك انطلاقة أخرى للبودكاست العربي؟